ما بين السياسي والدعوي.. من اتصال

في الوقت الذي تزداد الحركات الإسلاموية الإرهابية شراسة و وحشية، نتيجة لتوالي خسائرها في كل مكان، و نتيجة لتراجع المعونات السرية التي تتلقاها من جهات دولية عديدة بما فيها إسرائيل، فمن المتوقع أن تتوسع ضرباتها اليائسة في أي مكان. كما أنه من المتوقع ان تجدد محاولاتها الغادرة ضد بلدنا العزيز، الذي أخذ موقفا وطنيا و عروبيا و إنسانيا إزاء اللاجئين السوريين. و تهدف هذه الضربات إلى التخويف و إثارة البلبلة من جهة ،و إيقاظ الخلايا النائمة من جهة ثانية ، و تحويل مخيمات اللاجئين إلى بؤر ملتهبة لتزعج الدولة وتثير الكراهية لدى المواطنين الأردنيين .فهذه الجماعات تحقد على الأردن الذي يرفض، شعبا و قيادة و إدارة، كل أشكال التطرف و الإرهاب، مهما كانت الأقنعة التي يتلبسونها، و يقدم الشهداء و الضحايا من الأبرياء.
و في نفس الوقت ، تتوالى الحركات السياسية التي تصف نفسها بالإسلامية بالإعلان عن فصل ” السياسي ” عن ” الدعوي “و بدون مقدمات و مراجعات حقيقية و تغيير جدي في المسار. وهي في جوهرها مواقف سياسية ،وإعلانات انتخابية ،اضطرت اليها هذه الحركات، بعد نفور المجتمعات قاطبة من الأعمال الوحشية التي ترتكب باسم الإسلام في مختلف بقاع العالم ، و بعد الاخفاق الكبير “للجماعة” في مصر و توظيفها الحركات الإرهابية في سيناء ضد الدولة ،وتأثير ذلك الاخفاق على التنظيم الدولي و على الفروع و الحلفاء في معظم الأقطار العربية. رافق اشتداد الرفض الشعبي و الدولي للإرهاب والتطرف بإسم الإسلام ، وقوف الحركات الاسلامية وخاصة “الجماعة” مترددة و غاضة للطرف و لينة الكلمات عما تقوم به القاعدة و داعش والنصرة وغيرها من أعمال قتل و تنكيل و استعباد للإنسان و استباحة للكرامة الإنسانية ، بإسم الدين، في كل بقعة وصلت اليها،.الى الدرجة التي رفض فيها قيادي “إسلامي” وصف داعش بالإرهاب. كما أن إعلام الجماعة و حلفائهم يسمي الاعمال الارهابية أعمال “عنف” أو “قتل” أو “اغتيال” أو “انفجار ادى الى الوفاة” .وفي عين الوقت يسمي اجراءات الدولة الرادعة “بالعنف المضاد” . و لم يسمع من أي من الحركات تكفير داعش أو القاعدة ،أو أن أعمال و آراء و فتاوى الحركات الإرهابية هي ضد الإسلام و على خط مناقض له تماما.
إن المتتبع للتاريخ السلوكي للحركات التي تسمي نفسها إسلامية يلاحظ أن العديد منها كان يعمل على 3 مستويات .الأول للجمهور والإعلام و البسطاء و النشء الجديد، و يتم التركيز فيه على المظاهر الدينية الشكلية و تعويم المسائل الوطنية و التفكيرية،و تصنيف الناس على ضوء ذلك. و الثاني للأعضاء ،و التركيز فيه على التكتل و التنظيم و السمع و الطاعة و تكفير الآخر و الإستعداد للمواجهة . و الثالث التنظيم السري و التحالفات الخفية و التمويل و التعاقدات و المراكز الدولية و الإستعداد للإنقضاض على السلطة.و قد ترك كل ذلك،إضافة إلى أسباب أخرى، صدوعا عميقة في المجتمعات العربية، من أبرزها الإستقطاب و التعصب الديني، و الإنقسام الطائفي،و تقزيم الوطنية و الوطن ليحل محلها المعتقد و الفرقة، و زعزعة مكانة الدولة و سيادة القانون في النفوس،و تكفير المجتمع،و امتلاك الحقيقة،و إقصاء الآخر و لو بالقوة.
والسؤال هل هذه المواقف و السلوكيات سياسية أم دعوية ؟ وهل رفض إدانة القاعدة و داعش بالإرهاب موقف فكري أو تنظيمي؟ لا أحد يدري. وحين يستمر البعض منهم في مهاجمة مصر وتتبعهم حماس باعتبارها ذراع لهم ويتضرر أهالي غزة والموضوع الفلسطيني بكامله، فهل هذا موقف دعوي أم فكري أم سياسي ؟ بإسم الدين وهل الاشادة بتركيا العلمانية، والخطابة بأن استانبول عاصمة الخلافة الاسلامية في الماضي و الحاضر والمستقبل ،هو دعوي أو سياسي؟ لا أحد يعرف. وحين يهاجم داعية اسلامي بلده ووطنه لإن الدولة التي يعيش في أحضانها انضمت الى التحالف ضد داعش ، في الوقت الذي يعلن الملك أننا في حرب مع داعش، فهل هذا سياسي أم دعوى ؟ تنظيمي أم فكري؟ ديني أم دنيوي؟ ما الذي يختلف فيه حزب جبهة العمل الإسلامي وهو ذراع سياسي ،عن جماعة الأخوان؟ والذين ربما يعتبرهم الحزب الذراع الدعوي له . ما هي المرجعيات الفكرية والثقافية والفلسفية للسياسي المنفصل عن الدعوي؟

إن الأوضاع في المنطقة العربية أخطر من أن تدخل في موجة جديدة من التحالفات والالتفافات وإعادة التسميات. كما وقع في الخمسينات من القرن الماضي. لقد آن لنا جميعاً أن ندرك بالعقل والعلم والضمير الوطني والانساني أن المنطقة في حالة انهيار. و”إن السياسة هي السياسة ،بكل مناوراتها ومعاركها ومرونتها ومغانمها ومغارمها وتحالفاتها وانتصاراتها وهزائمها وأفكارها المتغيرة وفلسلفاتها المتجددة. وهي عمل الانسان من أجل الشراكة في الحكم والمجتمع والإدارة “، فمن شاء أن ينخرط فيها فهذا حقه وفق القانون . وإن “الدين هو الدين بكل ما فيه من روحانية وسمو وأمانة داخلية، والتزام شخصي بما ينفع الناس ويشيع المحبة ،وهو غير خاضع للمناورة والمداورة والمحالفة، ولا تحركه الانتصارات والهزائم أوالمغانم والمغارم. إن الدين هو خلاصة الآنسان بعلاقة سامية مع ربه”. ولذلك ،فالدين لله والوطن للجميع ،والسياسة للجميع. ولا يجوز أن تقوم السياسة على اساس ديني لأنها شيء مختلف ولا تتناسب معطياتها المتغيرة مع قواعده الثابتة . أما الدعوي فما هو؟ أليس هو سياسة أيضاً في ثوب الدين؟ أو تدين بهدف السياسة ؟. وما معنى الدعوي؟ هل سيكون هناك حزب متخصص وظيفته أن يدعو الناس الى دينهم ،وهم ناشئون عليه؟ متمسكون به ؟،حريصون عليه؟ هل الدعوة الى الدين أصبحت مهنة ،وتحتاج الى تنظيمات سرية و علنية؟ و تلزمها أحزاب موازية للسياسة حتى يكون هناك دعوى وسياسي؟ إنه مجرد التفاف أو تأجيل أو “تقية “إو إعادة انتاج .
لقد كان التطرف و الإرهاب الذي الصقوه ظلماً بالإسلام، وأيدته الحركات الإسلامية، وسكتت عنه ،ومهدت له على مدى (50) عاماً أحد الاسباب الرئيسية للانهيارات التي نشاهدها في أكثر من مكان .وقد كلف ذلك المنطقة العربية ما يزيد عن مليون قتيل من الأبرياء فقط خلال السنوات العشر الأخيرة، وبلغت الخسائر الاقتصادية أكثر من (2000) مليار دولار كانت الشعوب ،بكل ما تعاني من فقر و بؤس، أولى بها و أحق. وتم تدمير دول ومرافق بأكملها وتشريد ملايين الأطفال وارجاع المنطقة (50) سنة الى الوراء .

حقيقية الأمر أن ليس هناك من فصل للسياسي عن الدعوي. فطالما هناك “تجمع” و “تنظيم” و “تكتل” يتحدث عن شؤون الدنيا والآخرة فسيكون له موقف سياسي إجتماعي. وهذا ما اثبتته التجربة على مدى (70) عاماً .إنهما وجهان لعملة واحدة أو ذراعان لجسم واحد مهما تعددت المسميات .
لا أحد يتحدث عن أحد بحقد و كراهية ،و لكن بأمل و تطلع، أن يكتشف المخطىء خطأه ،فيعترف به ، و يبحث عن طريق جديد و فكر جديد لبدء حياة جديدة ، تقوم على العقل و العلم و العمل و الإبداع و الوطنية و الإنسانية ،و التواضع و المودة، و تلتزم بإخلاص بالقانون والدستورالوطني، بعيدا عن التحالفات السرية الدولية.هل تحل الحركات الاسلامية نفسها وتتحرر، ليس من دين أو تدين أعضائها فذلك أمرخالص الخصوصية،و له أعلى منزلة، وإنما من أفكارها ومواريثها ومواقفها من الآخر؟ هل يبدأ من يشاء منها بتكوين أحزاب سياسية على أسس مدنية وديمقراطية وعلمية وتشاركية وقناعة بمشاركة الاخر وتكافؤه أياً كان دينه وعرقه وثقافته . فذلك هو البداية الحقيقية لمستقبل أفضل للجميع. وذلك هو فصل المقال .