خطاب الملك.. والترجمة العملية

تناول جلالة الملك عبد الله الثاني في خطاب العرش في مجلس الأمة في دورته الثامنة عشرة يوم الأحد الماضي عدداً من المسائل المهمة، في مقدمتها استعادة الأردن لسيادته الكاملة على أراضي الباقورة والغمر، وتقدير جهود القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ،والدعم الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على الأرض الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية وحماية الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية.
وفي الشأن الداخلي ركّز الملك على (15) نقطة في (3) مجموعات الأولى مؤسسية الدولة: وتشمل دعم السلطة التشريعية لبرامج الحكومة، ونزاهة القضاء، والشفافية، والعمل المؤّدي إلى إنجاز حقيقي،( وليس كلاماً هلامياً). والثانية تنشيط الاقتصاد: وتشمل تحفيز الاستثمار، وإعادة النظر في الضرائب والجمارك، وإصلاح الإدارة، والمالية العامة، وتحسين جودة الخدمات. الثالثة معيشة المواطن: وتشمل إعادة النظر في الرواتب والأجور، وخدمة المواطن، وتيسير الحصول على لقمة العيش، والاهتمام بالمتقاعدين .
وكان الملك واضحاً ومختصراً ومباشراً. غير أن السؤال وبعد أسبوعين من التغطية الإعلامية من الإعلام والكتاب والسياسيين يبقى السؤال الكبير: ماذا بعد؟ كيف ستتجاوب الدولة بمؤسساتها مع مضامين الخطاب؟هناك العديد من النقاط لابد من الإشارة إليها:

أولاً البرنامج: من الذي سيترجم هذه المفردات إلى إجراءات حقيقية قابلة للتنفيذ؟ هل هي وزارة أو مؤسسة معينة أم أن جميع المؤسسات قاطبة معنية بالخطاب وبالموضوع؟ الإجابة ينبغي أن يكون لكل مؤسسة رسمية وأهلية دور عملي محدد. وهذا يتطلب أن تقوم كل وزارة وكل دائرة بوضع برنامج تنفيذي لكل بند من البنود الخمسة عشر فيما يتعلق بها ويتم ذلك خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر وبتم التوافق على هذا البرنامج ويصبح ملزماً لكل وزارة أو دائرة.

ثانياً: مستوى التنفيذ: إن المفردات التي أشار إليها الخطاب لا تتعلق بالمسؤول الأول في المؤسسة فقط ،وإنما، وهو الأهم، تتعلق بكل موظف مهما كانت درجته ومهمته، بما في ذلك المراسل (مع الاحترام). فكما أن أمين عام الوزارة يمكن أن ينفّر مستثمراً من الإستثمار، فإن سكرتيرا أومراسلاً في مكتبه يمكن أن يحدث نفس الأثر. ومن هنا فإن ورقة تنفيذية يجب أن تصل إلى كل مستوى وظيفي ،يتم فيها تحديد دوره بالدقة في تنفيذ البرنامج.

ثالثاً: السلطة التشريعية: أكد الخطاب على أهمية التعاون بين السلطات الثلاث ودعا السلطة التشريعية بشكل خاص لدعم برامج الحكومة. وهذا يتطلب من البرلمان والأعيان أن يضع كل منهما برنامجه في هذا الشأن. متى يسائل الحكومة، وأي مشاريع ينبغي الإسراع فيها ،وكافة التفاصيل ذات العلاقة ليصبح تنفيذ النقاط الخمس عشرة مسؤولية برلمانية و”أعيانية” من منظور التشريع والمتابعة.

رابعاً: نزاهة القضاء:لقد تراجع موقع الأردن خلال العام الحالي (4) نقاط على دليل حكم القانون فانخفض إلى (46 %) بعد أن كان (50 %) وأصبحت منزلة الأردن (76) بين (102) دولة. ومن هنا فإن برنامجاً لتفعيل حكم القانون ،وتعزيز نزاهة القضاء ،والارتفاع به إلى مستوى يليق بسمعة ومصلحة الأردن ،أصبح ضرورة ملحة. خاصة وإن القانون والقضاء لهما أثر كبير على الاستثمار والتعليم وكفاءة جهاز الدولة الإداري ، بل ومعدلات النمو الاقتصادي التي انخفضت إلى (2 %). إن الشفافية التي أشار إليها الملك هي احدى دعائم الأساسية لتعزيز النزاهة واستعادة ثقة الجمهور بالإدارة الحكومية.

خامساً: تنشيط الاقتصاد:ما زالت الإجراءات البيروقراطية أمام المستثمر الوطني بشكل خاص والأجنبي عموماً ثقيلة ،وترتيب الأردن في جاذبية الاستثمار الأجنبي (71) بينما تونس (69) وقبرص (34). إن الجزء الأكبر من الإجراءات ما هو إلاّ إستمرار لنهج التحكم والسيطرة، و البيئة الحاضنة للفساد.
وقد أشار رئيس هيئة الاستثمار إلى أنه “خلال اجتماع واحد” مع وزير الداخلية و آخر مع مدير الجمارك ، تمكن من حل الكثير من الإشكالات واختصار العديد من الإجراءات. إذن هناك مساحات ضخمة من البيروقراطية يمكن اختصارها، وينبغي الإعلان عن ذلك ليعرف المستثمر، ويعرف الجمهور كافة التفاصيل. ومع هذا ،إذا لم يصل إلى اختصار الإجراءات إلى أبسط موظف وإذا لم تتغير العقلية والأوراق والتعليمات أمام هذا الموظف البسيط فلا فائدة من كل ذلك.

سادساً: كلفة الاستثمار والتشغيل والإنتاج:وهي كلها مرتفعة نتيجة لارتفاع أسعار فائدة الاقتراض من جهة، وارتفاع كلفة مدخلات ولوازم الإنتاج من جهة ثانية. لا بد إذا أردنا تنشيط الاقتصاد من وضع برنامج لتخفيض كلفة الاستثمار والإنتاج من رقم (100) العام 2019 إلى (65 %) خلال (3) سنوات، بما في ذلك مراجعة الرسوم والجمارك والضرائب وأسعار الطاقة، والإضافات غير المعلنة فيها، حتى يتغير الميزان لصالح الاستثمار والإنتاج وبالتالي توليد فرص عمل مطلوبة بعشرات الآلاف سنوياً.

سابعاً: معيشة المواطن:وقد وصلت إلى حالة غاية في الصعوبة والإرهاق نتيجة للإفراط في فرض الضرائب، والارتفاع المنفلت للأسعار لتصبح الأردن رقم (38) في العالم في الغلاء، ويصبح متوسط راتب الموظف العام وفي القطاع الخاص أقل قليلاً من (500) دينار شهرياً في حين أن خط الفقر في حدود (450) دينارا. والمطلوب برنامج لتخفيض النفقات الحكومية التي تزايدت هذا العام فارتفع الدين العام ليصل (96 %) من الناتج المحلي الإجمالي إضافة إلى حتمية الاهتمام بالاقتصاد الاجتماعي من ادخار وتعاونيات ووقفيات والاستثمار في مشاريع إنتاجية متنوعة ومنتشرة في المحافظات مع العمل المبرمج على تخفيض أسعار السلع والخدمات.

وأخيراً فإن الفرصة للاستجابة لمضامين الخطاب الملكي متاحة وممكنة، إذا توفرت الإرادة والإدارة والتشارك والتعاون والخبرة والحكمة والإيمان بالمستقبل والجرأة في اتخاذ القرار والإستعداد لتحمل المسؤولية لدى الحكومة ومجلس الأمة على حد سواء.
وزير التربية والتعليم الأسبق