خصخصة البورصة.. والقفز إلى الأمام

اتخذ مجلس الوزراء قراراً من حيث المبدأ بتحويل سوق الأوراق المالية (البورصة) إلى شركة مساهمة عامة، على افتراض أن مثل هذا القرار سوف يعمل على تنشيط السوق المالي، و يساعد على تنشيط الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات النمو الاقتصادي .
ومع التقدير لوجهة النظر هذه، إلا أنها تبتعد إلى حد كبير عن الواقع، وتمثل قفزا إلى الأمام، وابتعاداً عن المسار الصحيح الصعب، وتكراراً للخصخصة الخاطئة التي شملت الكثير من المؤسسات الوطنية الهامة . وهنا لا بد من الإشارة إلى عدد من المسائل الأساسية التي ينبغي أن تتقدم على غيرها . الأولى : إن الشركات المساهمة العامة الموجودة في السوق و هي في حدود (300) شركة وكثير منها تعاني من إشكالات مالية وإدارية وإنتاجية وتسويقية معقدة، تصل في بعضها إلى درجة التعثر والتوقف عن العمل. الثانية : انه يفترض أن تتدخل الحكومة لمعالجة أوضاع هذه الشركات ومساعدتها على الخروج من أزماتها وفق ترتيبات عادلة، وبذا يصبح سوق الأسهم قائما على شركات قوية ومستقرة ومنتجة . الثالثة : إن الكثير من إدارات هذه الشركات بحاجة إلى مرجعية قانونية وأدبية تضبط أعمالها، وتحافظ على أموال المساهمين  باعتبارها أموال عامة، وفق ضوابط أخلاقية وأدائية ملزمة تنظمها» مدونة سلوك» تصدر لهذه الغاية . الرابعة : إن حجم سوق الأسهم في بلدنا متواضع بالنسبة للدول المحيطة بنا، بما لديها من أموال وثروات هائلة وحجم التداول اليومي لدينا متواضع للغاية في حدود (10) مليون دينار مما يجعله عرضة لتلقي صدمات مالية مسبقة الترتيب . الخامسة : إن تحويل البورصة لشركة مساهمة عامة لا يضمن أبداً أن لا تنزلق بنفس السلوكيات التي تتسم بها الشركات المساهمة الأخرى، سواء من حيث الأرباح والخسائر أو رواتب الإدارات العليا، أو الانزلاق في عمليات وهمية وعمولات عابرة على أموال ساخنة تدخل وتخرج وفق ترتيبات يتم الاتفاق مع الشركة. وهي مشكلات لم تتمكن الدول المتقدمة من ضبطها والسيطرة عليها . السادسة :  وهي الأهم أن الدور الاقتصادي الحقيقي لأسواق المال هو محل نقاش وشك كبير. إنها على إطلاقها ساحة لتدوير المال وأحياناً بطرق غير مفيدة. إن الأسواق المالية لا تنشئ اقتصاداً ولا تعمل على زيادة معدلات النمو الاقتصادي. بل يمكن أن تزدهر في حالة الكساد كما وقع في مناسبات عالمية كثيرة. إن الأسواق هي جزء من صناعة المال والتي لها خطورتها الكبيرة في ظل صناعة الاقتصاد الحقيقي. السابعة  إن الطريق الوحيد لتنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات النمو بشكل مضطرد هو زيادة القدرة الإنتاجية للاقتصاد من خلال المشاريع الإنتاجية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، والتي تحمل منتجات سلعية أو خدمية ذات قيمة مضافة عالية . وهو ما نجحت فيه الدول الصناعية والدول الناهضة مثل كوريا وسنغافورة والصين ودبي وغيرها. والاقتصادات القوية عادة ما تنشأ معها أسواق قوية لصناعة المال . الثامنة : إن سوق الأوراق المالية لا تضيف جديداً إلى الاقتصاد الوطني وهو تمويل المشاريع و الشركات الجديدة إلا إذا كان هناك استثمارات متنامية في مشاريع إنتاجية جديدة، وليس إعادة تدوير الأموال من مالك إلى آخر لنفس الأعمال ونفس الشركات . التاسعة : إن ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين الجامعيين على وجه الخصوص. لتصل 50% للإناث و 25% للذكور وهي قنبلة موقوتة، كما قال ويزر التعليم العالي، لا يمكن التعامل معها إلا من خلال الاقتصاد الحقيقي، والاقتصاد الصناعي على وجه الخصوص.
أن على الدولة أن تتريث كثيرا جدا قبل خصخصة سوق الأوراق المالية، وأن لا يخطف بصرها البريق المالي في الأسواق المجاورة التي تستند إلى وفورات مالية ضخمة، بعضها ناشئ عن اقتصادات قوية و بعضها غير ذلك . وعلى الحكومة أن تشرع في برامج اقتصادية استثمارية إنتاجية في مختلف محافظات المملكة ،وتخفف قليلاً من عبء الاستيراد لكل شيء. وآذاك تتولد فرص العمل وتتراجع البطالة وتنشط صناعة المال والأوراق المالية تلقائياً، لأن هناك حركة اقتصادية وطنية حقيقية . وفي نفس الوقت تعمل الحكومة على ضبط أداء الشركات المساهمة العامة القائمة . قد يكون التفكير في «الخصخصة الجزئية» بعد سنوات مفيداً، إذا تمت الخطوات التي ينبغي اتخاذها لضمان مستقبل الاقتصاد الوطني ومستقبل السوق المالية.