حين يكثر الكلام… ويغيب التنفيذ

كان لقاء الملك عبد الله الثاني لرئيس مجلس النواب ورؤساء اللجان النيابية مناسبة سياسية واصلاحية هامة، ومن الناحية الإنسانية كانت فرصة طيبة ليعبر الملك عن ما يدور في ذهن المواطن باستمرار، ألا وهو: «الكلام كثير، والخطط والاستراتيجيات بالعشرات، والوعود متواصلة لا تنقطع، والآمال كبيرة، ولكن التنفيذ ضئيل أو معدوم» . أشار الملك إلى الأوراق النقاشية والتي تضمنت العديد من المسائل المفصلية في الإصلاح ابتداء من الاصلاح الاقتصادي والديموقراطية والمشاركة والدولة المدنية، ومروراً بمكافحة الفساد والقضاء على المحسوبية، وتمكين الشباب وإصلاح التعليم، والإصلاح الإداري، وانتهاء بدولة القانون والمؤسسات وغير ذلك من المسائل الحيوية الهامة، التي ندور حولها منذ سنين ولا ندخل فيها.
لماذا لا تتحول توجيهات الملك بالإصلاح، ووعود الحكومات المتعاقبة، وتوصيات الخبراء والهيئات المتخصصة، والافكار الواردة في الأوراق النقاشية إلى برامج و إجراءات؟ ولماذا تختفي تقارير اللجان الملكية التي تناولت اصلاح قطاعات محددة؟ ولماذا ذهبت الأجندة الوطنية دون اثر؟ ولماذا لا تكون تجارب الأمم الناجحة مادة يستفاد منها؟.
لا خلاف على أن هناك أشخاصا وفئات مستفيدة اقتصادياً أو مالياً أو سياسياً من بقاء الأوضاع على حالها، وتدفع دائماً بالاتجاه المعاكس للإصلاح، وتشيع أجواء التسويف والترحيل، والتخوف والتردد حتى أصبحت الأيدي مرتعشة والمبادرات مفقودة؛ ولكن هذا على اهميته غير كاف للإجابة؛ فالأسباب عديدة وراء كثرة الكلام، وقلة الالتزام، وغياب التنفيذ الفعلي. و يمكن الإشارة إلى أهمها على النحو التالي: أولاً: ان المفاهيم الاصلاحية، والافكار الجديدة، والتغيير الذي يتطلع اليه الاردنيون، ابتداء من رأس الدولة إلى أبسط المواطنين، تتطلب قبل كل شيء قناعة القيادات الإدارية بمسؤوليتها إزاء ذلك، واستعدادها  للعمل، والخروج عن المألوف وتحمل النتائج؛ وهذا غائب في معظم الاحيان.  ثانياً:  ان الوثائق التي تظهر من حين إلى آخر ابتداء من الميثاق الوطني ومروراً بالاجندة الوطنية والاوراق النقاشية، وانتهاء باللقاءات والمؤتمرات التي يعقدها جلالة الملك، هذه جميعها ليس لها صفة قانونية. ولذلك ينظر اليها المسؤولون (مع الاحترام) انها «غير ملزمة» وهي مجرد «افكار» أو «توجيهات» أو «مخاطبة للرأي» العام المحلي أو الدولي. ثالثاً: ان الحكومة «الفردانية» لا تستطيع وضع وتنفيذ البرامج الاصلاحية التي تتناول قطاعات متعددة ولفترات طويلة، كما أنها بمفردها  لا تجرؤ على الانخراط في برنامج اصلاحي او قطاعي شامل، لانها تخشى من النقد المغرض والإنتقاد المسيس، و»الطخ» المبكر، وسوء التفسير، وتصيد الاخطاء، وانتهاز الفرص عند كل اجراء؛ ما جعل الإرادة مرتجفة؛ ولأنها حكومة فردانية، غير برلمانية ولا منتخبة، فالأسلم لها ان تبقي الامور على حالها أو ترحل المشكلات، أو تشتري الهدوء بالقروض، لا أن تصطدم مع أصحاب المصالح والإعلام الإجتماعي وهجوم القوى المناوئة رابعاً : ان مجلس النواب والأحزاب والقوى السياسية لا تأخذ هذه الوثائق وتعيد صياغة مضامينها على شكل برامج سياسية، أو مطالب شعبية، وتدفعها للحكومة للمطالبة بتنفيذها والالتزام بها، وغالبا ما يتركز الجهد على الضجيج الإعلامي حول الأهمية والضرورة والحكمة، وكل المزايا الحسنة التي ترفع من توقعات المواطن دون ان يرى نتيجة. خامساً: ينصب اهتمام الجهاز الوظيفي في الدولة بالدرجة الأولى على العمل اليومي الذي يقدم اليه، وعلى تسيير الالة المكتبية من مراسلات وملاحظات وتبريرات وموافقات وسواها، و بإنتاجية متواضعة، وليس لدى الموظفين على المستويات المختلفة  قناعة أو جاهزية مهنية او نفسية للخروج عن هذا الخط الروتيني التقليدي. سادساً: ان الجهاز الوظيفي للدولة، مع التقدير، على المستويات المختلفة، ولأسباب فنية وادارية ونفسية متعددة «ليس لديه منفرد» الإمكانات العملية و القانونية على ترجمة تطلعات الاصلاح والتغيير لإجراءات يومية. سابعاً: ان الاصلاح والتغيير يتطلب الجرأة والمخاطرة والمسؤولية من جهة، والمشاركة المتكافئة للقطاعات المختلفة من جهة أخرى. وهذا غائب عمليا، رغم اللجان المشتركة واللقاءات البرتوكولية والدعوات الإعلامية، بل الكثير من المسؤولين يفضلون العمل منفردين أو مع شركاء رسميين فقط والابتعاد عن القطاعات الأخرى؛ وهذا جوهر الخلل في الإدارة والذي يتطلب إصلاحات جذرية.
ومن هنا فإن تغيير هذه الحالة يتطلب قرارات واجراءات تكون  ملزمة للجميع وربما في الاطار التالي: أولاً: ان يكون هناك ادراك وقناعة ومسؤولية لدى الجهاز الوظيفي للدولة بمستوياته المختلفة، اننا في مرحلة بالغة الخطورة وعنوانها «اصلاح شامل». وهذا الادراك لا يتأتى تلقائيا، وانما «يتطلب اللقاءات والحوارات والتوجيهات والكتيبات والرسائل التي يعدها الخبراء، والتي تبين متطلبات الاصلاح والتغيير في كل قطاع بخصوصياته وفي كل دائرة او مؤسسة بخصوصياتها» حتى يصبح الموظف والمسؤول، مهما كان موقعه على سلم المسؤولية، شريكا أدبياً وقانونياً وطرفاً قادراً على العمل، ومثل هذا الإعداد يمكن أن يتحقق خلال بضعة أشهر إذا أطلقت الحكومة برنامجا محكما بهذا الإتجاه.و هذا قرار بيد الحكومة وحدها. ثانياً: ان ترجمة مبادئ الاصلاح والتغيير إلى برامج عملية قابلة للتنفيذ في دهاليز الإدارة، تتطلب جهداً خاصاً يفصله الخبراء، ويضعه اصحاب التجربة، وليس الموظف أو المواطن العادي. وهذا يستدعي ان تكلف كل وزارة ومؤسسة بعض الخبراء للدراسة لوضع البرنامج التنفيذي للعمل في كل فصل من فصول الاصلاح، وليس الاعتماد على البيروقراطية التقليدية في هذا الشأن، وهذا أيضا قرار مباشر من الحكومة. ثالثاً: يتطلب الامر من الحكومة، دون خوف أو تردد أو استصغار، دعوة النواب والاحزاب والقوى  السياسية ومنظمات المجتمع المدني لمشاركتها في تنفيذ برامج الاصلاح في كل قطاع، حتى تكون البرامج بمثابة توافق جماعي يسانده ويدافع عنه الجميع، وليس فقط قرارا من الحكومة. رابعاً: بدلا من توزيع الجهود في شتى المواضيع والمساحات وبمردودات طفيفة وخطوات بطيئة جدا، فالمقاربة العملية تقتضي التركيز على موضوعين اساسيين فقط: واحد سياسي و الآخر اقتصادي ليكونا بمثابة رافعة للمواضيع الأخرى. فالقرار « بالوصول إلى حكومة برلمانية ديموقراطية، وزيادة نمو الناتج المحلي الإجمالي من 2% إلى 6% مثلا خلال 3 سنوات اذا تم وضعهما كهدف وطني»، فذلك سوف يحرك كافة المساحات الخاملة من المشاركة والديموقراطية والأحزاب والاستثمار، إلى وضع حد للفساد إلى القانون إلى التعليم إلى تنمية المحافظات الخ. خامساً: لا تستطيع الدولة أن تتقدم وتتغير دون الاستعانة بالخبراء والمفكرين القادرين على تقديم حلول خارج الصندوق وخارج التبريرات الوظيفية التقليدية. ويمكن لهؤلاء الخبراء أن يكونوا متطوعين وليس موظفين متفرغين، و الأردن لديه من الخبرات الشيء الكثير.
واخيراً، وكما أشار الملك عبد الله الثاني: دون إصلاحات حقيقية عميقة في الجهاز الإداري للدولة ليس بمفهوم الهيكلة الشكلية،بقدر ما هو في التأهيل الفني والنفسي و القانوني، والإعداد و المساءلة، وتحقيق الهدف المرحلي وخدمة المواطن، دون ذلك فإن التغيير المنشود سيضيع بين المكاتب والملفات . إن الدول التي عبرت برزخ الإصلاح كثيرة، من صغيرة إلى متوسطة إلى كبيرة، ولكن الذي حرك تلك الدول كانت الإرادة  السياسية القاطعة بالتغيير، والادارة المؤهلة الحازمة لمراقبة الإنجاز والاداء، والمشاركة الواسعة من القوى والمنظمات والقطاعات والاكاديميا، والايمان بقدرة الشعب على صنع المستقبل.