حتى لا تختلط الأوراق.. الاعتمادية التبادلية والتشبيك

ما أن اعلنت بعض الدول العربية تطبيع علاقاتها بإسرائيل، بضغط وابتزاز أميركي، حتى راحت تتصاعد الدعوات المثيرة للاستغراب، وتعلو الأصوات البعيدة عن وجدان وضمير الشعوب العربية، والتي تنادي “بالتعاون الاقليمي والاعتمادية التبادلية بين دول الاقليم”، كطريق لخروج دول المنطقة من حالة الاضطراب وعدم الاستقرار، وبالتالي تجاوز ازماتها الاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
وعلى الرغم من أن التعاون مطلوب دائماً، والعلاقات الجيدة مع دول الجوار ينبغي أن تكون ركنا راسخا في السياسة الوطنية، إلا أن هناك ضبابا كثيفا من الريبة والشكوك حول سلامة النوايا وراء تلك الدعوات وواقعية الإفادة من تطبيقها. إذ انها بالدرجة الأولى تستعمل عبارة “الاقليم” لأنها ترمي إلى اعتبار إسرائيل من دول الاقليم التي يريدونها ان تدخل تحت مظلة التعاون والاعتماد المتبادل.
وهذا مسار تدفع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية باتجاهه منذ سنوات خاصة في عهد كل من نتيناهو وترامب، وهو مستمر كذلك حتى اليوم، ولكن بأساليب أكثر هدوءا ودهاء ودبلوماسية.
ألا وهو اعتبار الموضوع الاقتصادي وليس السياسي هو الأساس لإنهاء الصراع، وهو الطريق لاستقرار المنطقة وهدوئها.
وهذه هي نظرية اليمين الإسرائيلي، التي عملت عليها حكومات اليمين الإسرائيلي خلال العشرين سنة الماضية. وقد دعا إلى ذلك بوضوح وقوة مؤتمر المنامة الذي قاده كوشنر قبل أشهر من الإعلان الرسمي لصفقة القرن.
وهرعت دول عربية إلى التطبيع مع إسرائيل امتثالا لتعليمات البيت الأبيض. وللأسف، يجري التلويح بالمشاريع الاقتصادية والقروض والمنح والمساعدات، والترويج “لنظرية الاعتمادية التبادلية”، في عين الوقت الذي تمعن فيه إسرائيل في نشر المستوطنات في كل مكان في فلسطين، وهدم المنازل وإلقاء أصحابها الفلسطينيين في العراء، وتهويد القدس ومصادرة الأراضي في كل اتجاه.
والمطلوب، حسب الدفع الأميركي الإسرائيلي، ان لا ينشغل أحد في السياسة، ولا يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي القبيح، ولا عن القرارات الدولية أو القانون الإنساني الذي تخترقه إسرائيل في كل ساعة، ولا عن تهديد الأمن الوطني للدول المجاورة لإسرائيل، وانما المطلوب حسب الدعوات الأميركية هذه، التركيز على التعاون الاقليمي.
ألا يتذكر هؤلاء أنه قبل 20 عاما، وفي قمة بيروت عام 2002، وما عرف بمبادرة خادم الحرمين الشريفين، أعلنت الدول العربية مجتمعة، وكانت جادة في إعلانها، إنها مستعدة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل واقامة سلام معها، شريطة التزامها بقرارات الأمم المتحدة بإنهاء الاحتلال والعودة إلى خطوط الرابع من حزيران 1967.
ماذا كان الموقف الإسرائيلي؟ تجاهل تام للدعوة العربية، واستمرار أكثر وحشية للاحتلال، بل والتوسع فيه. إن الاعتمادية التبادلية لا مكان لها في المرحلة الراهنة، لأن الجشع الاستعماري الذي تمارسه اسرائيل لا توقفه المشاريع الاقتصادية والدعوات السياسية، لأنه صادر عن استراتيجية استعمارية ممنهجة تستخدم شتى الأساليب
والضغوط للسيطرة على الأرض والتخلص من مواطنيها، ولذا فإن الانياب الصهيونية مستعدة دون توقف لنهش المزيد من الاراضي الفلسطينية، لتنتقل بعدها إلى أجزاء من الأردن وسورية ولبنان بعد ان تم تهشيم كل من سورية والعراق ولبنان.ألا يعلمون أطفالهم في المدارس “هذه الضفة لنا.. وتلك الضفة لنا”.
وهنا لا بد من التدقيق بشكل علمي وموضوعي بالدعوة الى الاعتمادية التبادلية اولاً: ما هي الأرضية المشتركة الجديدة التي سوف تقوم عليها الاعتمادية التبادلية؟ وما هي ضوابطها القانونية والسياسية؟ هل أعطت إسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أية ضمانات ؟ ثانيا ليس من الحكمة وطنيا وسياسيا واستراتيجيا ان تكون هناك اعتمادية تبادلية بين الدول، إذا كانت النزاعات السياسية والأطماع في أراضي الغير لدى بعضها ما تزال قائمة.
ولا بد من التأكيد هنا أن من يظن ان ابتلاع الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل لا يشكل خطرا كبيرا على الأردن وبدرجة أخرى على سورية ولبنان هو واهم، ولا يفهم السياسة الإسرائيلية. ثالثاً: ان الاعتمادية التبادلية يجب ان تقوم على التكافؤ الأمني والاستراتيجي والاقتصادي الكمي والنوعي، حتى تكون فاعلة، وحتى تكون صفقة عادلة وأمينة وخوفاً من غدر طرف للطرف الآخر.
فلا يستطيع الأردن أن يعتمد على إسرائيل مثلا في 20 % من المياه مقابل اعتماد إسرائيل على الأردن في تزويدها بكمية ضئيلة من الكهرباء لا تتجاوز 2 % مما لديها من كهرباء. رابعا ليس هناك من تكافؤ متوازن بين أي دولة عربية وبين إسرائيل.
إذ يستحيل قيام تكافؤ سياسي او اقتصادي أو قانوني أو تكنولوجي أو عسكري مع إسرائيل حين يكون الدعم الأميركي السياسي والمالي والعسكري والتكنولوجي لإسرائيل مطلقا ولا حدود له. خامسا لقد سيطرت إسرائيل على امدادات الغاز للأردن ولكنها وضعت نصا في الاتفاقية انها غير مسؤولة إذا انقطع الغاز لأي سبب،
وإنما المسؤول شركة صغيرة أخرى (الشرق). وهي اليوم تسعى من وراء ستار للسيطرة على المياه من خلال الاتفاقية التي يراد توقيعها. ما الذي يكافئ هذين القطاعين لدى الأردن حتى يمكن ان ينخرط في حالة من الاعتماد المتبادل.
لقد استعملت أميركا وأوروبا الغاز سلاحا للضغط على روسيا بسبب أوكرانيا. ما الذي يمنع إسرائيل الضغط على الأردن بالغاز والماء من أجل الأماكن المقدسة والقدس ؟ سادسا لم ينجح التعاون الاقليمي المستقر والمعمق للدول العربية، وقد مضى عليه اكثر من 60 عاما.. لماذا؟ لان الدول الضعيفة المعتمدة على الغير وعلى القوى الأجنبية لا تملك ما تقدمه للآخرين. فالدول العربية ليست بالدول الصناعية، وليست بالدول التكنولوجية، وليست بالدول ذات الاقتصادات الإنتاجية القوية الضخمة (باستثناء البترول) فماذا تفعل معا؟ وأي اعتماد متبادل بين الواحدة والاخرى، وهي على ما هي عليه من ضعف وعدم حسم للمسائل السياسية الداخلية؟ سابعا كيف يمكن للدول العربية ان تأخذ قرارات مستقبلية إذا كانت دول الاقليم غير العربية، والقوى الدولية الخارجية تتحكم في القرار؟.
ومن هنا، ينبغي عدم الانزلاق في أوهام التعاون الذي يمكن أن تتسرب إسرائيل من خلاله وتسيطر على دول الإقليم. ولا ينبغي الانخداع بنظرية الاعتمادية التبادلية التي تروجها أميركا في غياب التكافؤ السياسي والعسكري والاقتصادي، وفي غياب الاعتراف بالحقوق الشرعية التي هي أساس الصراع وعدم الاستقرار.لأن ذلك يعني تسليم مفاصل الدولة الى الآخر.
آن الاوان أن نتعلم من التاريخ ومن تجارب الآخرين. ليس هناك طرقا سهلة للنهوض واكتساب القوة، وليس هناك من وصفات جاهزة تعفي الدولة الوطنية من مشقة العمل والبناء والتضحية والإبداع.
وعلى كل دولة ان تنظر إلى ذاتها من الداخل، أولا وثانيا وعاشرا. ان الحلول الخارجية لا تصنع إمكانات القوة ولا تبني مستقبل الدول، وان المعونات لا تقيم اقتصادات إنتاجية تكنولوجية حقيقية ،وان الاعتمادية التبادلية بين القوي والضعيف هو دخول الشاة في بيت الذئب.
على الدول العربية كل دولة بذاتها ان تعمل على بناء اقتصادها الوطني القائم على المشاركة وعلى المساهمات الوطنية، والقائم على استثمار رأس المال البشري لديها. ذلك ان الاقتصادات الحديثة تبنيها العقول والادارة والعلم والجهود والإرادة، وليس المال والمعونات، ولا التشبيك الاقليمي المهلهل، ولا الاعتمادية التبادلية غير المتكافئة.