حالة المجتمعات العربية … وطريق التغيير

من يتابع ما يجري في المنطقة العربية يلاحظ بأسف وأسى ذلك الأثر البالغ الذي‪ ‬يتركه طبيعة الحكم والنظام على البلد ومستقبلها. وهذا الأثر قد يطول لعشرات السنين،‪ ‬وقد يحدث تغييرا لا عودة عنه‪.
‬أربعة بلدان عربية كان لها فرصة لأن تبنى مستقبلاواعدا، يخرجها من أزمة التخلف إلى آفاق أرحب في السياسة والاقتصاد والحالة‪ ‬الاجتماعية. غير أن أنانية الأنظمة الحاكمة وهمجيتها، وانعدام الإحساس بالوطن وغياب‪ ‬الحرص عليه لدى رأس النظام وحاشيته وأتباعه و أجهزته، وافتراضهم بأن الدولة بكل ما‪ ‬فيها ومن فيها، ملك شخصي لهم ولأبنائهم، لا ينازعهم في هذا التملك الوحشي أي منازع،‪ ‬و كأنهم في العصور القديمة، كل ذلك أدى إلى تمزيق هذه  البلدان وانهيارها إلى درجة‪ ‬لم يكن احد يتصور الحالة التي وصلت إليها:مئات الآلاف من  القتلى والجرحى‪ ‬والمخطوفين في كل مدينة و قرية، ودمار في كل مكان، وهجرة الناس من ديارهم و أوطانهمإلى غياهب المجهول‪.
‬من كان يتخيل يوما أن سوريا سيتم تدميرها بالكامل في اقل من‪ (5) ‬سنوات؟ أبناؤها وبناتها وشيوخها وشبانها يقتلون، والنظام الحاكم يستخدم‪ ‬الطائرات والقنابل والبراميل المتفجرة، و أسوأ أنواع الأسلحة ضد المدنيين. أي نوع‪ ‬من الحكام هؤلاء الذي لا يرى الواحد منهم في الحياة إلا ذاته وصورته ونفسه ومطامعه‪ ‬وأحلامه؟ حتى لو كانت على جماجم الملايين. وما يقع في سوريا يقع في العراق وفياليمن وفي ليبيا‪ .
‬هذه البلدان حكم كل منها حاكم انقض على السلطة فاغتصبها،‪ ‬واستأثر بالمال العام فانتهبه و سربه إلى البنوك الدولية، و فرض نفسه بالقوة و ليسبالقانون،و ابتذل المؤسسات  فجعلها بلا قيمة، وجلس هو و أجهزته و زبانيته على رقاب‪ ‬الناس، وكتم أنفاسهم عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة. ولم يشبع، ولم يدرك كم كانت‪ ‬انجازاته هو تافهة وسقيمة، وما تم في البلاد من تقدم، هو انجاز الناس وعملهم،‪ ‬وجهدهم الذي بذلوه تحت ضغط الحكم وغياب الحريات، وتهديد الأعوان.. انه الحكم الفرديالتسلطي، الحكم الاقصائي في‪ ‬سوريا والعراق وليبيا واليمن وغيرها. نفس السمات ونفس‪ ‬النتائج مضافا  إليها تلك العدمية الفظة التي تهيمن على عقول ونفوس الحكام وأعوانهم‪ ‬و السياسيين و أنصارهم. وهي عدمية تغيب الأوطان وتلغيها، مقابل بقاء السلطة و‪ ‬النفوذ والمصالح . وصل الأربعة إلى الحكم لا بالانتخاب ولا بالاختيار ولا بالتوافق،‪ ‬وإنما على ظهر الدبابة وبقوة المدفع. فهم بداية  فاقدو الشرعية والمشروعية. لم يفعلالإستعمار ما فعلوه في بلادهم،و لم يدمر هولاكو ما دمروه في أوطانهم. كل ذلك مقابل‪ ‬إنكار حقوق الشعوب بالمشاركة في إدارة أوطانهم ،و الإصرار على سلبهم حرياتهم و‪ ‬حقوقهم‪ .
‬ففي العراق استعانت المعارضة بالأمريكان و إيران ضد صدام فتمزق العراق‪ ‬و هيمنت إيران على البلاد و خسر مليون إنسان. و في سوريا استعان النظام بروسيا و‪ ‬إيران و حزب الله ضد شعبه، فانهارت سوريا و تم تهجير 5 ملايين و قتل 300 ألف إنسان‪. ‬واليمن  يستعين الحوثي و صالح بإيران للاستيلاء على السلطة، و ليبيا تستعين طرابلس‪ ‬بالحركات الإرهابية. و في لبنان البلد الذي تمتع بقدر من الديمقراطية باع السياسيون‪ ‬وطنهم للمشترين الأجانب، و توقفت آلة الدولة و ارتهن انتخاب رئيس الجمهورية لعام و‪ ‬نصف وتعطلت قرارات الحكومة نتيجة لمواقف السياسيين الذين ينتظرون التعليمات من‪ ‬الخارج مقابل الأموال التي تحول لحساباتهم في البنوك الدولية‪.‬
‎ ‫إن الدول‬ ‫المتقدمة لم تنطلق في مسيراتها الحديثة إلا عندما أدركت بشكل قاطع أن التداول‬ ‫السلمي للسلطة، والتشارك بين الجميع في إدارة شؤون البلاد هو السبيل الوحيد للبقاءوالتقدم. فأصبح الحاكم يأتي مؤقتا لخدمة الشعب و باختياره و إرادته .و هذا أعطى‬ ‫للحكم و للحاكم كرامة و كبرياء‬  ‫حقيقية وليست زائفة. كرامة أساسها الثقة الجماهيرية‬ ‫و ليس الدبابة والمدفع .لأنه جاء إلى الحكم ليس لصا سارقا للسلطة، و لا مزورا‬ ‫لإرادة الجماهير،و لا معتديا على الآخرين ، ولا مستقويا بالأجنبي.. لقد كان شارل‬ ‫ديغول بطلا قوميا، وتم انتخابه رئيسا لفرنسا دون تزوير، ولكنه قدم استقالته فورا‬ ‫عام 1969 و بكل كبرياء،نعم بكل كبرياء، حينما كانت نتيجة الاستفتاء على تعديلات‬  ‫الدستور ليس بالنسبة التي يريد. فارتحل في صباح اليوم التالي من قصر الاليزيه بكل‬ ‫الفخامة و الأبهة التي فيه، إلى قريته الصغيرة في الريف الفرنسي بكل التواضع و‬ ‫البساطة التي هي فيها. وقال ديغول: انأ لا احكم شعبا لا يريدني‬.
‎ ‫إن مدلول‬ ‫الحالة العربية أن الوطن بقيمته المادية والمعنوية العظيمة ،‬  ‫والوطنية بمفهومها‬ ‫الإنساني والأخلاقي و الاجتماعي لم تدخل العقل العربي بعد، ولم تتغلغل في النفسالعربية حتى الآن ، و لم تصبح جزء من الضمير العربي ،و تتبخر بكاملها حين يصل الفرد‬ ‫إلى السلطة، و خاصة بطريق غير شرعي، سواء بالتزوير أو القوة أو الرشوة أو المحسوبية‬ ‫أو القرباوية أو الإستزلام أو التواطؤ مع الأجنبي.إن الإنسان العربي، و كما يقول‬ ‫روبرت فيسك، لا يشعر أنه يملك وطنه،و إنما يسيطر‬ ‫على شعوره أن الحاكم هو الذي يملك‬ ‫الوطن بكل ما فيه.، و لذلك لا يهتمون بالحفاظ على ما يملكه الحاكم‬.
‎‫إن الوطن‬  ‫لشيء ثمين والوطنية قيمة ايجابية سامية في جميع بلدان العالم ،إلا المنطقة العربية،‬ ‫فأغلب ما فيها تفريط في الأوطان.حتى السلوك اليومي للإنسان العربي‬  ‫ما هو إلا كذلك‬. ‫أليس الغش والخداع، و الفساد والرشوة والواسطة و التكالب على الحكم والمال، و‬ ‫إقصاء الآخر، و تغييب العلم و العقل و العمل، و تدني الإنتاج، و امتهان المؤسسات، و‬ ‫تزوير إرادة الناس، و إذلالهم في دوائر الدولة، و العمالة للأجنبي، و التستر‬ ‫بالدين، والتطرف و الإرهاب، و عدم الإكتراث بالفقر والبطالة و المناطق المهمشة،‬ ‫أليس كل ذلك، و ما في حكمه، تفريط في الوطن؟‬  ‫كيف يمكن للضمير العربي الفرديوالجمعي أن يدرك قيمة هذا الشيء الثمين الوطن و المواطن؟‬  ‫فلا يكون شريكا في هدمه‬ ‫وتدميره بوعي و غير وعي ؟. وكيف يمكن للإنسان العربي أن يتوقف و يقلع عن إبتذال‬ ‫القيم السامية لتصبح رداء زائفا للتحكم والسلطة والأنانية و المصالح الشخصية و‬ ‫الفئوية ؟ إن ما يجري في المنطقة العربية لهو أعمق و أكثر و أخطر من‬  ‫كونه فقط‬ ‫أنانية وحشية لحكام غير شرعيين اغتصبوا من الناس حقوقهم و مستقبلهم‬.  ‫إنها أزمةثقافية أخلاقية وطنية و تربوية شاملة، إضافة إلى الجانب السياسي، تغطي المجتمعات العربية بأسرها‬.
‫فإذا أخذنا المؤشرات الأساسية لحالة المجتمعات مثل: مؤشرالديموقراطية و مؤشر الحاكمية الجيدة و مؤشر سلطة القانون و مؤشر السعادة و معدلات النمو الإقتصادي و متوسط الإنتاج الصناعي و الزراعي و مؤشر المعرفة نجدها‬  ‫منخفضة،وفي مؤخرة دول العالم بعد أفريقيا جنوب الصحراء.. لماذا ؟ و إذا نظرنا في مؤشر الفساد‬  ‫و مؤشر الفقر و معدل البطالة و مؤشر التمييز الجندري (بين الرجل والمرأة) و‬ ‫مؤشر هشاشة الدولة و معدلات التصحر نجدها كلها مرتفعة ولا تسبقنا إلا‬  ‫أفريقيا جنوب‬ ‫الصحراء. مرة ثانية و ثالثة و عاشرة … لماذا ؟ قد يكون هناك أسباب خارجية، إلا أن‬ ‫الخلل الكبير هو عربي داخلي، ولا فائدة من إنكاره أو تجاهله سنة بعد سنة و قرنا بعد‬ ‫قرن‬.
‫إن على المفكرين والمثقفين والعلماء والتربويين و الأكاديميين و القوى‬ ‫السياسية‬  ‫و منظمات المجتمع المدني والمدارس و الجامعات مسؤولية كبيرة في إحداث‬ ‫التغيير. و عليهم أن يضعوا البرامج و المناهج و الأفكار التي تعيد للمواطن العربيفي كل بلد عربي ثقته بوطنه و مواطنته، و تجذر في ضميره و عقله أن الوطن ملك له و لا‬ ‫يباع لأحد أيا كان هذا الأحد‬.  .. ‫كيف يمكن للإنسان العربي أن يدرك ويفهم و يتصرف‬  ‫بأن الوطن والوطنية هي الحياة وليس الموت، و هي الحرية وليست العبودية و هي‬ ‫المستقبل و ليس الماضي و هي العمل و الإخلاص والجمال؟ وكيف يمكن للسياسيين أن‬ ‫يفهموا أن الوطن أغلى من أن يتم تدميره من اجل الحكم والسلطة؟ تلك هي المسألة‬ .