تهشيم المؤسسات الناجحة: المواصفات والمصادر الطبيعية نموذج

اتخذت حكومة الدكتور عمر الرزاز، قرارا خطرا في الأسبوع الأخير من عمرها الرسمي، يقضى بإلغاء مؤسسة المواصفات والمقاييس كمؤسسة مستقلة متخصصة، ودمجها في مؤسسة حماية المستهلك والجودة، وهذا القرار الغريب وغير المتوقع، يذكرنا بقرار مماثل صدر قبل سنوات، قضى بحل سلطة المصادر الطبيعية وتوزيع أعمالها على دوائر ووزارات متعددة.
وهكذا تكون الإدارة الرسمية قد “أفلحت” في غضون عشر سنوات فقط، في فكفكة اثنتين من أفضل المؤسسات الأردنية أداء وسمعة وأهمية، وبعثرة أعمالها في كل اتجاه. هذا في حين أن 40 عاما قد مضت على “بركة البيبسي” الشهيرة، ولم تستطع 20 حكومة أن تحل المشكلة، وتمنع المكرهة الصحية التي أضرت بالمواطنين القاطنين في جوارها.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون: لماذا تتجه الحكومات المتعاقبة إلى المؤسسات العريقة الناجحة التي أثبتت موجودية ومكانة على المستويات الوطنية والعربية والدولية، ونالت ثقة الجمهور، فتعمد لإلغائها، أو إذابتها، أو خلط أوراقها؟ بدلا من تناول مؤسسات أو هيئات لم يكن هناك ضرورة لإنشائها؟ لدينا هيئات ومؤسسات مستقلة، قامت على اقتطاع جزء من أعمال الوزارة المسؤولة عن القطاع، لتتولى العمل به بشكل مستقل.
وفي واقع الأمر، فإن هذه المؤسسات، لا تقوم حتى اليوم بأي عمل لا تقوم به الوزارة، هذا برغم النفقات الإضافية العالية، والرواتب والمكافآت المبالغ فيها، والتي تتكبدها الخزينة ويتحمل عبئها المواطن من خلال الضرائب المفرطة والمديونية المتفاقمة. بل أن هيئات أنشئت من دون مبرر، سلبت الوزارات دورها الأساسي، وهو تنظيم القطاع المعني، وأنتجت ازدواجية في المرجعية والقرار.
مؤسسة المواصفات والمقاييس نشأت قبل 60 عاما تقريبا، وكانت مديرية في وزارة الصناعة والتجارة، وتدريجيا اكتسبت خبرة واسعة عربيا ودوليا، ولما زادت أعمالها وتشعبت، تحولت إلى مؤسسة مستقلة تراقب بكل دقة وموضوعية المواصفات والمقاييس التي تضعها، وتفحص مواصفات السلع المستوردة، وترتبط بوزير الصناعة والتجارة. وقد أثبتت خلال السنوات الماضية، قدرة فنية وإدارية متميزة.
ويبدو كما يفسر بعضهم سبب قرار حكومة الرزاز، أن خطيئتها التي لم تغتفر، وقوفها في وجه حالات فساد متعددة، كان آخرها قضية “الدخان”، ما جعل المتضررين ينظرون إليها بعداء ويعملون على تحجيمها.
هل غاب عن انتباه الحكومة، أن قانون وأعمال المواصفات والمقاييس شيء، وقواعد المنافسة والسوق شيء مختلف تماما؟ أما حماية المستهلك فتلك مسألة ثالثة. ويفترض أن كل مؤسسة تقدم الحماية من منظور تخصصها، حين تقوم بعملها بشكل صحيح وقانوني، وليست الحماية بشكل كلي وعام. فالتزام المنتج بالمواصفة بدقة، هو حماية للمستهلك، وحماية للمنتجات الأردنية، وجواز سفر لتسهيل تصديرها إلى الأسواق العالمية.
أما المنافسة، فلها علاقة بالأسعار، وأصحاب السلع من منتجين ومستوردين وتجار، واحتكار السوق، وهذا كله أمر مختلف جداً عن المواصفات والمقاييس.
إن جمع المنافسة والحماية والمواصفات في هيئة واحدة، ستخلق حالة من تضارب المصالـــح، وتغييب منظومة الضوابــط والتوازنـات checks and balances. وستصبح الهيئة المزمع توليفها؛ هي الخصم والحكم. فهي التي تضع المواصفة وتراقب الالتزام بها، وهي التي تنظم السوق، وتمنع أصحاب السلع من الاحتكار، وفي الوقت نفسه تحمي المستهلك.
من الذي سيكتشف الأخطاء والممارسات غير الصحيحة؟ ومن الذي سيعترف باختلاط الأوراق؟ ومن يحمي المستهلك إذا كان كل شيء لدى الهيئة نفسها؟ ولماذا يجري إفراغ وزارة الصناعة والتجارة والتموين من مسؤوليتها في مراقبة الأسواق والأسعار؟ ولماذا يخلط العمل الفني جداً، وهو مواصفات السلعة أو النظام، بعمل مختلف، عموده الفقري السوق والأسعار والمنافسة بين التجار أو المنتجين؟
متى تدرك الإدارة أن عليها التوجه نحو الهيئات التي ليس لها مبرر، وتعيد النظر فيها وتعمل على دمجها أو إعادتها إلى الوزارة المعنية؟ لننظر كم هيئة ومؤسسة تتناول النقل؟ هذا مع وجود وزارة للنقل.. وكم هيئة تتناول الطاقة وتتبع رئيس الوزراء، برغم وجود وزارة للطاقة والثروة المعدنية؟ وكم هيئة وشركة تتناول المصادر الطبيعية، بما فيها الثروة المعدنية، بعد أن كانت سلطة المصادر الطبيعية تقوم بكل ذلك؟ وكم هيئة للاتصالات برغم وجود وزارة للاتصالات؟ وغير ذلك الكثير، والأمثلة متعددة في هذا الاتجاه.
إن قانون المنافسة كما يقول بيان جمعية رجال الأعمال الأردنيين، “هدفه تنظيم السوق من حيث منع الاحتكار، والحيلولة دون التحالفات والتركز السلعي وتقاسم السوق، والاتفاق على الأسعار من قبل أنشطة الإنتاج والتجارة والخدمات، والذي ينعكس في النهاية على أسعار السلع والخدمات، ومدى توافرها في السوق للمستهلك، وليس له علاقة بجودة المنتج”، والسؤال: ما علاقة كل ذلك بالمواصفات والمقاييس؟ إلاّ إذا كان الهدف تخفيض حجم العمل الفني وسقف الحرية للمواصفات والمقاييس، وإغراق إدارتها في كل ما هو بعيد عن المواصفات، فربما يساعد ذلك بعضا من ذوي النشاطات التي تتهرب من الالتزام بالمواصفات.
هل يعقل أن تعمد الدولة إلى تشتيت أعمال مؤسساتها الناجحة، وتفكيكها فيزيائياً أو قانونياً أو إدارياً، برغم النجاحات التي أثبتتها خلال سنوات؟ ألم تتعظ الإدارة من أخطائها في فكفكة سلطة الكهرباء الأردنية التي كانت نموذجاً للإدارة الناجحة الملتزمة؟ ثم سلطة المصادر الطبيعية التي كانت للوطن، بيت خبرة علمية وتطبيقية متميزة؟ واليوم يدفع المواطن ثمن تلك الأخطاء، ابتداء من ارتفاع الكلفة وغلاء الأسعار، وانتهاء بإحجام المستثمرين أو ترددهم.
واليوم جاء دور مؤسسة المواصفات والمقاييس.. لماذا؟
والسؤال البريء دائما: من الذي يشير على الحكومة بمثل هذه القرارات؟ من هو فريق الخبراء والعلماء الذي قدم المشورة والدراسة للحكومة فامتثلت له فورا؟ أين الشراكة مع القطاع الخاص؟ أين استشارة أهل الرأي والخبرة؟ أين الشراكة مع الأكاديميا؟ أين النماذج الدولية؟ أين الفائدة؟ أين الاقتصاديات؟ لا أحد يدري.
إن الرجوع عن القرار فيه مصلحة وطنية، ولا ينقص من “مقام الحكومة” شيئا، فتصحيح الأخطاء قبل استفحال تأثيرها، أهون بكثير من ترحيلها إلى مستقبل غامض، يدفع المواطن والاقتصاد الوطني كلفته الباهظة.