تراجع التعليم … والحالة العربية

جاء تقرير اليونسكو عن حالة التعليم في المنطقة العربية للعام 2012، ليؤكد الحقيقة التي بات يلمسها المواطن العادي، ناهيك عن الباحثين والمفكرين، وهي:” أن التعليم في  تراجع، وتراجع كبير”. هذا على الرغم من انتشار التعليم على مساحات أوسع، وليشمل أعداداً أكبر من الأطفال واليافعين. إلا أن هذا التوسع ترافقه العديد من المشكلات البنيوية المعقدة التي تؤثر بشكل سلبي على المردود الإنساني و العائد الاقتصادي والاجتماعي للتعليم في معظم الحالات؛ ما يجعل تقدم المجتمعات العربية يعاني من البطء والتعثر.
يشير تقرير اليونسكو أن التعليم ما قبل المدرسي ( رياض الأطفال) لازال أدنى من المستوى المطلوب، أي أقل من (80%) باستثناء الكويت و لبنان . أما في عدد من البلدان مثل: سوريا والعراق واليمن والسعودية ومصر فإنه لا يشمل أكثر من(25%) من الأطفال. ونحن في الأردن كان تعليم ما قبل المدرسة في حدود 40% في العام 2010 ويصل الآن إلى ما يقرب من (55%). وهو معدل أدنى من المتوقع وخاصة في الأرياف والبوادي، حيث لا يتعدى المعدل هناك (25%)  . و يأتي الأردن في الترتيب السابع بين الدول العربية من حيث أعداد الأطفال خارج المدرسة، (83) ألف طالب، ونحن أفضل في هذا الأمر من اليمن والعراق والسعودية والمغرب وموريتانيا، حيث لديها أعداد أكبر من الطلاب خارج المدرسة . أما في المدارس الثانوية فنسبة الطلبة في الأردن هي 82% من الشباب المفترض التحاقهم في حين تتفوق علينا  تونس وقطر والجزائر وعمان والسعودية  صعودا إلى أن تصل (100%) في الكويت. و تبين الأرقام أن التعليم المهني لا يحظى بأي إقبال لدى الشباب العرب، الأمر الذي يعكس خللا ثقافيا و توجيهيا  وتربويا بالغ الخطورة.  إذ لا يضم التعليم المهني أكثر من 8% في المتوسط وهو أقل من 2% في الإمارات وقطر وفلسطين والكويت والسودان، ويصل في حده الأعلى إلى 19% في مصر.هذا على الرغم من البطالة المرتفعة لخريجي الجامعات (52%)، و على الرغم من استيراد البلاد العربية لشتى أنواع المنتجات
لقد عمل فشل جميع الأقطار العربية في أن تصنع اقتصاداتها و تتحول إلى دول ناهضة، باستثناء الدول النفطية من جهة، و توجه العرب لإعطاء الأولية للإنفاق العسكري من جهة ثانية، عمل على إضعاف التعليم و تراجع نوعيته،    وتدني مستواه بسبب عدم كفاية الأموال المخصصة للتعليم، حيث لا تتجاوز (6%) من الناتج المحلي الإجمالي. فأثر ذلك سلبا على الطالب والمعلم، وعلى المدرسة. كما اثر على البيئة التي يتعامل فيها الطالب مع العلم و التعليم ،    وأضعف البعد التربوي الحديث في كثير من الأحيان . كذلك فإن الكثير من الأقطار العربية فشلت في حل مشكلاتها السياسية والمجتمعية الصريحة أو الكامنة، سواء ما يتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، أو ما يتعلق بالمكونات المجتمعية من طوائف ومذاهب وأديان وأعراق. فعمل كل ذلك على تآكل العملية التربوية، وعلى تأجيج  صراعات داخلية منظورة أو مستورة كما هي في عدد من الأقطار العربية. وبالتالي تأثرت منظومة التعليم بهذه الحالة وأصبحت البيئة العامة التي يعيشها الطالب تزخر بالتوترات والضغوطات الاقتصادية الاجتماعية وتعج بالفوضى  وعدم الانتظام و الانفصام، فكان العنف و التسيب والتطاول على المعلم وعلى المؤسسة التعليمية من بعض نتائجه .
كذلك فقد أهملت معظم الأقطار العربية تأهيل المعلمين على مختلف مواقعهم تأهيلاً مهنياً احترافياً حديثا، يتناسب مع متطلبات العصر في جانبها العلمي والثقافي من جهة، ومع متطلبات التعامل النفسي والمجتمعي مع النشء الجديد في عصر ثورة المعلومات من جهة أخرى،و بكل وسائط الإعلام والاتصال المتاحة. إضافة إلى ذلك، لم تسمح النفقات التعليمية المحدودة على تحسين أوضاع المعلم إلا في حدود ضيقة، ولا تحسين البيئة المدرسية والتي لم تنجح الدولة في جذب المجتمع المحلي لمساندتها، ولا دفع الشركات الكبرى للوفاء بمسؤوليتها المجتمعية إزاء قطاع التعليم بأكمله.
كما أن ضعف المناهج من حيث البنية  و الفلسفة والتوجه في التعليم الأساسي، يلعب دوراً رئيساً في تدني نوعية التعليم. وحتى الآن لم تستطع المدرسة أو الجامعة في معظم الأقطار العربية أن تتحول من مكان يتم فيه تلقي المعلومات إلى ورشة عمل للتعلم الذاتي، وبناء الشخصية، وتطوير العقل  وإكسابه مهارة التفكير النقدي والتحليل والتركيب. كما أن ضعف الاهتمام بشكل موسع بالثقافة المعاصرة وبالفنون بأنواعها  و بالعلم و الفلسفة و الإنتاج    وباقتراب ليس متردداً وخجولاً، كما هو في جميع المؤسسات التعليمية  الحكومية، كل ذلك ساعد على إبقاء التعليم محصوراً في المعلومة، وغير قادر على خلق حالة من التفاعل بين العلم والفن والفكر والفلسفة والثقافة والإنسان  والإنتاج، وهذا جوهر التعليم الحديث الناجح . فإذا أضفنا إلى ذلك أن اقتصادات البلاد العربية هي اقتصادات غير صناعية، تعتمد التجارة والزراعة غير المتطورة تكنولوجيا بشكل رئيسي، مع قليل من الصناعات التحويلية أوالإستخراجية، فإن المواءمة بين أنظمة التعليم ومخرجات التعليم ومتطلبات سوق الإنتاج والعمل تصبح مسألة هامشية  أو هلامية،الأمر الذي ينعكس سلباً على البيئة التعليمية بكاملها . وعلى الرغم من أن الكثير من الأقطار العربية وضعت برامج لتطوير التعليم وتحديث المناهج، إلا أن غياب المؤسسات الوطنية التعليمية النوعية المستقلة التي يوكل إليها بالتقييم الموضوعي للأداء، و بإنتاج جزء من مفردات التعليم بعقلية مختلفة و منفتحة، كل ذلك جعل وزارات التعليم هي صاحبة كل شيء. فراحت تعيد إنتاج أخطائها، وتكرر نفسها سنة بعد سنة.أما التغيير فغالبا ما يجري بصورة شكلية، وفي نفس الوقت نادراً ما يتم استكمال أي برنامج للتطوير. إذ غالباً ما يُجتزأ الموضوع، ويتوقف أو تستبدل البرامج أو الإدارة.
التعليم قضية أعقد بكثير مما يبدو. فالمدرسة أولا، ثم الجامعة أو المعهد ثانيا، هي المصنع الذي يتم فيه صنع المجتمع . ولعل ما نرى في الأقطار العربية من فوضى وعنف وقتل وتطرف وتفكيك للدول، و أحقاد طائفية وعرقية ودينية، وانتشار للجريمة وانفلات للأمن، “يعود في جزء كبير منه إلى فشل التعليم في إحداث التغيير في عقل الفرد والمجتمع و مواقفه من الآخر”. وإذا كانت الولايات المتحدة بكل قدراتها،  وحين اكتشف الأمريكيون  في عهد الرئيس ريغان أن قدرتهم على المنافسة أخذت تتراجع، كان التقرير المشهور حول دور التعليم في تراجع القدرة التنافسية . وجعلوا عنوان التقرير آنذاك “ أمة في خطر”. وحالة التعليم العربية في جميع الأقطار تستدعي عنواناً أشد صدما.
هل الأمة العربية في خطر ؟  الجواب بصورة مباشرة و صريحة: نعم. أن حاضر الأمة ومستقبلها في خطر. ودون إصلاح التعليم جذرياً في جميع مراحله وتفرعاته و توجهاته وفي كل قطر عربي، فإن المستقبل في خطر أكبر.