تجديد النهضة.. بين «التقية» والتسويق

عقد حزب النهضة التونسي المنبثق اصلا عن جماعة الاخوان المسلمين مؤتمره العاشر خلال الفترة 21 – 23/ 5 بحضور مكثف لوسائط الاعلام واكثر من 500 صحفي واعلامي. وشارك في المؤتمر بصورة شرفية رئيس الجمهورية التونسية الباهي قايد السبسي. كان الحدث الرئيس في هذا المؤتمر “اعلان النهضة عن تحولها الى حزب سياسي مدني حيث يتم فيه فصل “الدعوي” عن “السياسي”. وفك ارتباطها مع جماعة الاخوان المسلمين الممثلة بالتنظيم الدولي للجماعة”. وهي خطوة رحب بها الجميع اولاً: لأنها جاءت من قيادة النهضة ورئيسها ذي الأصول الناصرية والإشتراكية،وليس من جناح منشق عنها. وثانياً: لأنها تشكل نموذجا حيا على عبثية خلط الدين بالدولة و تغليف السياسة بالدعوة،كما هي في مفاهيم الاسلام السياسي مما أدى الى نشوء الحركات المتطرفة و الارهابية. وثالثاً: ان المفاهيم السياسية للدين، والمفاهيم الدينية للسياسة ،قد أدت الى تأسيس “عقلية الاقصاء والتكفير”، وانقسام المجتمع في معظم البلدان التي تعمل فيها هذه الجماعات. رابعاً: أدى تغلغل هذه الحركات في التربية والثقافة المجتمعية و الإعلام الى تنحية العلم والفكر العقلاني جانبا، التزاما بمبادئ النقل قبل العقل، و الإتباع قبل الإبداع ،والسمع والطاعة. وبالتالي البحث في سراب الماضي عن اجابات للمشكلات السياسية و الاقتصادية المعاصرة وخامساً:كان خلاصة الثقافة المجتمعية التي نشرتها تلك الحركات إضعاف آلية التفكير والابداع المجتمعي وخاصة لدى الشباب والعمل على تقليص العقل و العلم الانساني المعاصر الى حجم العقل و العلم قبل ألف سنة ويزيد.
غير ان مثل هذا التحول اذا صح ذلك في الأعماق، يثير العديد من الاسئلة لابد من مواجهتها عاجلا أو آجلاً. اسئلة يفرضها الواقع وتطالب بها الشرائح الشبابية في الحركات السياسية. أولاً: هل سيحافظ حزب النهضة على ذراع “دعوي” له تحت اسم جديد ؟أو يتولى الذراع الدعوي تمهيد الطريق في عقول العامة للحزب السياسي؟ وبالتالي يعيد تجربة الاخوان المسلمين في الاردن وبلدان أخرى. حيث تجد حركة سياسية دينية بامتياز اقامت حزبا سياسيا هو جزء منها، واعتبرت الحزب هو ذراعها السياسي في حين ان شيئا لم يتغير على الاطلاق ثانياً: هل سوف تستبدل المنطلقات الفكرية لحزب النهضة لتصبح علمية وطنية سياسية وليس دينية؟ خاصة وان الغنوشي لا زال يتحدث عن “الديمقراطية المسلمة” ،وكأن هناك ديموقراطية يتم تفصيلها حسب الاديان: مسلمة ومسيحية و بوذية و غيرها . ثالثاً: ما الذي سيصل من الحزب الى كوادره في نشراته الداخلية و أي مراجع فكرية ؟أية منطلقات فكرية سوف يتداولها الحزب ؟هل هي العلمية الوطنية الإنسانية أم التراثية التقليدية.؟ رابعاً: هل هذا تغير قائم على المراجعة الفكرية العميقة واكتشاف خطأ التفكير السابق (الخلط الديني في السياسة) وعدم نجاعته؟ أم أنه مجرد عملية سياسية دعائية هدفها إخراج الحزب من وصمات التطرف و الارهاب التي الحقتها الجماعات الارهابية المتطرفة بالإسلام(ظلما) و بكل الحركات الاسلاموية؟. خامساً: هل هي رغبة في الشعبية واستعادة ثقة الناخبين أم هي نوع من “التقية” لمنع تسليط الاضواء وتحسباً لأي اجراءات دولية ضد الحركات الارهابية المتطرفة والفكر الذي تنطلق منه؟ سادساً: ما هي نوع “العلاقة غير المعلنة” التي ستكون مع الاخوان المسلمين ومع التنظيم الدولي للجماعة. سابعاً: هل سيتم حل التنظيم السري للنهضة حلاً نهائياً قاطعاً أم هو مجرد رغبة في الابتعاد عن الانظار ولفترة من الزمن؟.
هذه اسئلة كثيرة تتطلب الاجابة الصريحة، خاصة وان تجربة مصر في المراجعات كانت مخيبة للامال. فرغم المراجعات الكثيرة التي قامت بها الحركات الدينية هناك ،الا ان الفكر التكفيري ازداد تعنتاً ،والتطرف ازداد استفحالاً، لإن تلك المراجعات لم تكن قائمة على أسس علمية وعقلانية و وطنية انسانية معاصرة ،بقدر ما كانت بحثا في التراث عن فتاوي أقل تشدداً، وتخريجات وتفسيرات أقل صرامة ودموية. و إذا اعتمد الامر على التفسير والفتوى ،فهذا مرة يذهب الى مفتي متشدد كابن تيمية ،ومرة الى مفتي متساهل مثل الأشعري، ولكنه يبقى في نفس الاطار،و يبقى مستقبل المجتمع متذبذبا بين هذا و ذاك. و يبقى الموقف الاقصائي قائماً، وتكفير الاخر مستمرا ،وافتراض الحقيقة المطلقة السمة الرئيسية. ولكن لا احد يعرف متى تشتد ومتى تلين؟
يتحدث الغنوشي عن اكتشاف الاخطاء.. هل هي اخطاء سياسية أو اخطاء فكرية منهجية؟ ومن هنا فإن حركة النهضة شأنها شأن الحركات الاسلامية السياسية عليها ان تضبط ايقاعها بطريقة مختلفة ،حتى لا يكون هناك فرصة للالتفاف مرة ثانية فيما اذا تغيرت موازين القوى. فشخصية اخوانية قيادية محترمة في الاردن مثلا “رفض صاحبها ان يصف داعش بالحركة الارهابية” على الرغم من فظائعها و على الرغم من موقف بلاده منها. لماذا؟ ربما لعدة اسباب الاول وجود تعاطف خفي وتوافق فكري في الاساسيات. والثاني حساب احتمال تغير موازين القوى .والثالث: المحافظة على الروابط السرية التي تظهر من آن لآخر في العواصم الدولية. صحيح ان الغنوشي اعلن وقوف حركته مع الحكومة التونسية ضد داعش (لاحظ كم هو الاعلان متأخر) وصحيح انه اكد على المسائل الاقتصادية ،وصحيح انه ربط الوطنية ببلاده تونس، وليس بالعقيدة كما كان يقول سيد قطب. الا ان الامر يتطلب جرأة أكثر في الجوانب الفكرية والتنظيمية. ففي الجانب الفكري يفترض ان يكون الحزب قائما على العلم و تجارب الأمم و السياسة ،وليس له علاقة بالدين، الذي هو للجميع، والذي تقع الاساءات اليه بسبب التأويلات والتفسيرات التي يلحقها اصحاب الاهداف السياسية بالدين. ويتطلب من النهضة ان يلغي كلية فكرة “الدعوي” ومفهومها لان النهضة هي حزب سياسي فقط. ويتبع ذلك ان على النهضة ان تصدر الى قواعدها الحزبية ادبيات جديدة تخرجها من ثوبها القديم او من إدعائها عباءة الدين الى ساحة العلم والحدائة والسياسة انطلاقا من الاسس الوطنية والمجتمعية الإنسانية.
لقد أثبتت تجارب الامم وتجارب المنطقة العربية ،ان الحركات الاسلامية كان و لا زال هدفها الحكم والسلطة أولا وأخيرا، و الدين بالنسبة لها اداة و وسيلة. فلم تهتم ابداً بالقيم الانسانية والاخلاقية ،و أربكت العقلية المجتمعية، فكفرت أو استنكرت الفنون والفلسفة و الديموقراطية والعلم والإستقلال الوطني، ولم تحدث المفاهيم و الممارسات،و لم تمنح “الوطنية و المواطنة “ اي اهتمام، ولا سيادة القانون أي قيمة، ولم ينل دستور البلاد اي احترام .فرأينا في كثير من الاقطار العربية التراجع السلوكي والادائي والسياسي والمهني والمجتمعي و الأدبي الى الدرجة التي اصبح فيها الهبوط و التفكك والتفتت والتعصب والتدمير هو السمة البارزة.أن مثل هذا التوجه لا يصنع مستقبلا للأمم ولا يبني دولا قادرة على الإرتقاء، حتى لو تمكن من السلطة لفترة من الزمن. من كان يريد ان يعمل بالسياسة فهذا حق لا ينازع فيه أحد، فليعمل دون الصاقها بالدين. ومن كان حريصا على الدين فهذا حق لا ينازعه أحد، فليقم بواجباته الدينية التي تقوم على التسامح والمساواة و الإنسانية و الحرية والتعددية .فالدين لله والوطن للجميع،و المستقبل لا يصنعه إلا العلم والعقل و العمل و الإبداع و الوطنية و المواطنة.