بين الدين والسياسة…. التجربة المصـرية

لم يكن عزل الدكتور محمد مرسي من رئاسة مصر مفاجئاُ إلا للقليل من الناس. ولم يكن خروج المصريين بالملايين بتلك الكيفية الجماهيرية الفريدة التي شاهدها العالم أمراً غير متوقع. لقد تبين للمصريين أن الجماعة التي لم تشارك في الثورة الأولى في 25 يناير قد استولت على الثورة وعلى كل شيء. وهنا تكمن بطبيعة الحال خطورة السلطة في يد الأحزاب والجماعات التي لا تعترف بالآخر وإنما بنفسها وزعمائها.
وخلال سنة من حكم الإخوان، هبطت مصر إلى مستوى غير مسبوق من الفوضى وانعدام الأمن، وخطف الجنود واغتيال الضباط في سيناء، وغياب الحضور العربي والدولي لمصر، وتعثر السياسة الخارجية، وتراجع الاقتصاد وتفاقم قضايا الفقر والبطالة، ونقص المياه ونقص الغاز والسولار والبنزين، وكأن مصر دولة تقع في جنوب الصحراء . هذا إضافة إلى ضعف الأداء الشخصي لمرسي، ومنهج الإقصاء الذي سار عليه الإخوان، والتدخل في شؤون القضاء و الإعلام، وإطلاق الفضائيات الموجهة والمحملة بخطابات دينية تقسيمية و تكفيرية، وفرض دستور غير توافقي واستصغار شأن الفن والثقافة والفكر والعلم ، بل واستصغار شؤون وأراضي الوطن مثل حلايب أو مياه النيل و تأثير  سد النهضة . وكما هي العادة لدى كل حزب إيديولوجي متعدد الطبقات، فقد تم إحلال الولاء للحزب والجماعة فوق الولاء للوطن، وإحلال الأخوانية محل الكفاءة .
لقد شعر المصريون أن الرئيس الذي أعطوه ثقتهم هروبا من أحمد شفيق، وأوصلوه إلى سدة الرئاسة بفارق بسيط، بناء على التزاماته وبرنامجه ووعوده قد خذلهم. ولم يكن رئيساً لهم بقدر ما كان مسؤولا في مكتب الإرشاد، ينفذ ما يملى عليه ويلتزم بما يطلب منه. وما عليه سوى السمع والطاعة.
كل ذلك شكل إخلالا جسيماً من مرسي وحزبه بالتعاقد الذي تم على أساسه انتخابه. وبالتالي فقد أصبح عقد الانتخاب في ضمير المواطنين باطلاً. ومن هنا فإن الإشارة إلى شرعية مرسي بهذه الطريقة يكشف الفهم المجزوء لهذا المصطلح . فالشرعية  لا تعني صكا مفتوحاً للمسؤول، ولا الاستفراد ونقض العهود وإقصاء الآخر، و لا التراجع عن ما تم الانتخاب على أساسه. بمعنى أن الشرعية ليست حالة دائمة ساكنة، وليست مجرد الانتخاب. كما أن الديمقراطية ليست مجرد الأكثرية في عدد الأصوات.” إن الفوز في الانتخابات هو فقط بوابة الشرعية. ولكن استمرار الشرعية مرتبط تماماً بتحقيق الالتزامات التي تم على أساسها الانتخاب”. والديمقراطية لا تعني تجاهل الآخرين باسم الأكثرية، والتفرد بالقرار والابتعاد عن المشاركة والتوافق. وهذه كلها من أبجديات الفكر السياسي.  وأن خروج (32) مليون مصري يوم (30/6) يمثل أعلانا من الشعب يرفض استمرار مرسي وانتهاء شرعيته .
لقد جاء الحزب النازي إلى الحكم عام 1932 بطريقة شرعية من خلال صندوق الانتخاب ودون تزوير. ولكن الجنون والوحشية والفشل والدكتاتورية والفردية التي سار عليها هتلر وحزبه، لم تبق على شرعيته من شئ .
لقد كان تطلع الشعب المصري وطموحاته تسير في اتجاه ، في حين أن تطلع الأخوان وطموحاتهم يعمل في اتجاه آخر. أن تطلع الشعب أساساً هو نحو الحرية ونحو الانفتاح على المستقبل، ونحو حياة كريمة ،ومدينة أو قرية نظيفة ،وتطلعه نحو أمن واستقرار وخروج من أزمة الفقر والتخلف، وتطلعه نحو الكرامة الوطنية.
هذا في حين كان تطلع الجماعة إلى تكفير خصومهم السياسيين، وسحب شهادة أسلاميتهم، وسرعة أخونة الدولة، والسيطرة على مفاصلها والتحكم فيها، والانتشار في مرافقها، ووضع أعضاء الجماعة في كل ركن من أركانها. والالتزام بالتنظيم الدولي للإخوان، بغض النظر عن المصالح الوطنية. وهنا تكمن” خطورة الحركات الأممية: إنها تعتبر الوطن شيئا  ثانوياً ،جزء من كل ، ولاية من ارض المسلمين،” أو كما قال  محمد عاكف المرشد السابق يومـاً “ يعني إيه مصر؟ طز مصر “. وفي هذا تقويض للبناء الوطني، وإضعاف للسلطة والقانون. فأي قانون لا يرضون عنه وتعمل به الدولة لا قيمة له في نظرهم، لأنه قانون وضعي.
إن تطلع المواطن والشعب كان سياسياً اجتماعيا اقتصادياً ثقافياً بامتياز. وفي عين الوقت كان تطلع الجماعة سياسيا واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً بامتياز، ولكن بالاتجاه المضاد . وكان الخطاب الديني هو المشترك بين هؤلاء وهؤلاء .
لماذا يصدق الناس الخطاب الديني ؟ لأنهم يؤمنون في أعماقهم أن الدين يدفع إلى الصدق و الخير ومصلحة المجتمع. وترجمة الخير اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً في هذا العصر ليست المظاهر الخارجية، وليست الزيت والفول، وإنما هي الاقتصاد والأمن والعلم والثقافة والفنون والبحث العلمي والإبداع التكنولوجي والانجاز الحضاري . مصالح الناس هي في تقدمهم وتعليمهم وصحتهم وحريتهم وتآلفهم وتفويضهم لحكامهم لإدارة هذه المصالح. أما  الدين  ذاته ،فالناس حريصون عليه تلقائيا، وملتزمون به ويراعون بطواعية ذاتية شعائرهم. ولا يعقل أن تخضع مئات الملايين من الناس مضي على ارتباطهم بدينهم مئات السنين ، تخضع لتقييم جماعة سياسية حزبية فيما إذا كان تدينهم صحيحاً أو غير صحيح. وربما هذه نقطة الخداع نحو الحصول على الأغلبية. الشخص العادي بطبيعته يدرك أن الدين كله إنسانية ومثل عليا، وخير ومحبة، ومصلحة عامة ومساواة، و ابتعاد عن الاستعلاء والتكسب، وليس سياسة و سلطة. وحين تأتي جماعة بإسم الدين، أو حاكم بإسم الدين، يظن المواطن أن هذه الجماعة  أو الحاكم سيعمل للمصلحة العامة بالمفهوم الحضاري المعاصر، ألا وهي حل المشكلات التي يعاني منها الشعب صباح ومساء.  ما رآه الشعب المصري أن مرسي  والجماعة يأخذون من الدين المظهر، الكلام واللباس والأكل والهتاف و قراءة النصوص التراثية الخ، وهذا ليس عمق ما يفكر المواطن فيه . المواطن يتطلع من الدين إلى جوهر الإنسانية: العلم والتقدم والعمل والأخلاق والتعليم وإزالة الفقر وحق  الاختيار والحرية. فإذا فشل الحكم في كل هذا، فإن النتيجة  هي الغضب والثورة وسقوط الشرعية والمشروعية.
الأخوان وغيرهم الكثيرون بحاجة إلى مراجعة فكرية وسياسية وتنظيمية عميقة و جادة. وهذا ليس عيباً وليس انتقاصاً من شأنهم. ذلك أنهم كأهل سياسة وحكم  ليسوا أوصياء على دين الناس وتدينهم ،وليس لهم أن يلبسوا سياستهم لباس الدين أبداً  . والاختبار الحقيقي لهم ليس في مظاهر التدين، فهذه من أسهل الأشياء. ويستطيع الفلاح البسيط في أقصى البلاد أن يتقنها ويتميز بها . ولكن الاختبار الحقيقي لهم ولغيرهم يتمثل في الجانب العملي الاجتماعي الاقتصادي العلمي والتكنولوجي ، حتى يعطوا للدين الجوهر الحقيقي السامي وهو خير الناس وارتقائهم وتقدمهم وتوفر الخبز والماء والدواء، الذي عجز مرسي وغيره من أن يتقدم فيه خطوة واحدة .
لقد آن لهم ولجميع القوى السياسية المماثلة أن يكون لديهم تجاوبهم المعاصر مع عقول الناس من جهة، وأن يدركوا من جهة أخرى ،أن الحكم وإدارته يتطلب القدرة الحقيقية على إحراز التقدم والتغيير إلى الأفضل، وأن المسؤولية ليس مجرد تكرار العبارات هنا وهناك في حين أن الناس  لا تعرف لها مستقبلاً . الحكم والشرعية ليس الكلام والتكرار  والرجوع إلى الماضي، وإنما إتاحة الفرصة للجميع بدون استثناء لبناء المستقبل الوطني والإنساني الذي يحلمون به.