بين الحكومة و الهيئة.. الأسئلة المعلقة

حتى الربيع العربي ،كانت معظم الأنظمة العربية تتصرف من منطلق: “ أنت تقول ما تشاء.. ونحن نفعل ما نشاء .” و اتضح أن هذا المنهاج لا يفيد الدولة ولا المواطنين أبدا. فالمجتمعات والدول القوية تقوم على الديمقراطية والمشاركة الفعلية. وقد أثبتت تجارب العالم بأن المشاركة وخاصة من أهل العلم والخبرة هي صمام الأمان لمنع انزلاق الدول في أخطاء جسيمة تتضاعف أضرارها عند اكتشافها بسبب تغطيتها والتستر عليها بأخطاء جديدة. نقول  هذا ونحن نتذكر أولاً : التبعثر الذي يعانيه قطاع الطاقة سواء كان الإصرار على اتفاقية الغاز الإسرائيلي غير المبررة، أو هروب شركة بريتش بتروليوم واختفاء أخبار الغاز معها أو غموض المباحثات الأردنية العراقية والأردنية السعودية حول الغاز أو الإصرار على رفع أسعار الكهرباء رغم انخفاض أسعار النفط. ثانياً : انفراد هيئة الطاقة النووية بالقرار فيما يتعلق بالمحطة النووية و هو الأمر الذي سوف يؤثر على  مستقبل الوطن وحياة المواطنين وسلامتهم و صحة أبنائهم وأحفادهم لعشرات السنين. ثالثاً : إصرار هيئة الطاقة النووية على إظهار الجانب المشرق للمشروع النووي، و إخفاء المعلومات التي تحمل خطورة حقيقية على المواطن بل والوطن بأسره ، ابتداء من تكنولوجيا الإنشطار والتي ستحل محلها تكنولوجيا الإندماج قريبا و انتهاء بالمياه و الإشعاع والتخلص من المخلفات النووية. رابعاً : لجوء الهيئة بموافقة الحكومة إلى التأثير على طلبة المدارس من خلال النشرات و المسرحيات والمعلومات المبسطة لإعطاء المحطة النووية قبولا شعبيا مزيفا يحمل في ثناياه انتهاكا لحقوق الطفل و حقوق الإنسان . خامسا توظيف وسائط الإعلام، واستكتاب كتاب غير مؤهلين وغير متخصصين للدفاع عن المشروع، والتهجم على معارضي المشروع.. لدرجة أن أحدهم كتب حول الأمان في المحطة النووية “ أما موضوع السلامة و الأمان، فالأمان بالله”.
لقد آن للدولة أن تدرك أن المسألة ليست مصالح أو أشخاص، بقدر ما هي محاولة أمينة للوصول إلى حقائق مصيرية.فالمشاريع النووية في البلدان الصغيرة لا تحتمل الخطأ على الإطلاق. و في منطقة تزلزلها الفوضى، ويتعمق فيها التفكك والإرهاب والمخططات التدميرية السرية والمعلنة، فإن حماية المنشآت النووية ستصبح عبئا لا يطيقه بلد. وهنا سوف نشير إلى (3) مسائل رئيسية : أولاً. فعلى الرغم من أن الهيئة وعدت بإنتاج (2000) طن يورانيوم عام 2012 إلا أن شيئاً من هذا لم يتحقق أبدا. ألا ينبغي من باب الشفافية والمساءلة والمشاركة ،و كجزء من الديموقراطية التي نتحرك على طريقها، سؤال الهيئة: أين ذهبت الكعكة و لماذا لم تظهر ؟ إذ اتضح للجميع خطأ البيانات التي كان تصرح بها  الهيئة،و أن  ما لدى الأردن من يورانيوم معظمه بتركيزات خفيفة  أقل من 100 جزء في المليون. الأمر الذي يجعل جدوى الإنتاج ضعيفة ومكلفة ،خاصة إذا تذكرنا انخفاض أسعار اليورانيوم في السوق الدولي . وهناك (3 ) نقاط تتحاشى الهيئة الإجابة عليها . الأولى :من أين ستأتي المياه اللازمة لإنتاج الكعكة الصفراء وما هي كمياتها ؟ الثانية : القيمة الاقتصادية الفعلية على ضوء كلف الإنتاج وأسعار اليورانيوم في السوق الدولي . الثالثة :كيف ستمنع التلوث الإشعاعي المنبعث من خامات اليورانيوم أثناء التعدين وبعده؟
أن آخر التقارير التي بثتها المحطة الألمانية العالمية (D.W) كان يحمل عنوان “أسطورة الكعكة الصفراء”، والذي يبين من الواقع العملي الموثق إن ادعاءات شركات تعدين اليورانيوم  بعدم حصول تلوث لم يكن صحيحاً. بل أن الأمراض الناشئة عن التعرض للإشعاع ظهرت بعد سنوات في أبناء و أحفاد السكان. هل يمكن للهيئة الإجابة على هــذه الأسئلة بشكل محدد بعيداً عـن التعميم والتبسيط ؟
ثانيا: رغم كل التساؤلات المشروعة من المواطنين و الخبراء فإن الهيئة لا تجيب على سؤال الكارثة  وهو: في حالة الكارثة النووية ما هي لوجستيات الإخلاء و بأي كلفة؟ ومن أين ستأتي المياه اللازمة للتبريد؟ وبكميات غير محدودة ؟ وإذا ما وقع حادث لخط المياه من الخربة السمراء فما هي البدائل ؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة هي مسؤولية الحكومة و بشكل قاطع و موثق.
. إن التقارير التي يجري تداولها هذه الأيام وكان آخرها ذلك التقرير الذي صدر عن دار روتليدج Rutledge  الذي شارك في إعداده (28) خبيراً يكشف أن جزء من مشكلة محطة فوكوياما كان الاستخفاف في تقارير الأمان النووي و نشر المعلومات غير الصحيحة ،والادعاء بأن الأمان كاف دون وجود جهة رقابية حيادية، إلى أن وقعت الكارثة وانصهرت المفاعلات الأربعة. السؤال المحدد الذي من حق الشعب الأردني أن يسمع إجابة صريحة وواضحة :من هي الجهة المحايدة التي ستتولى تدقيق الإجراءات الأمنية وما هي مسؤوليتها؟ علما بأن الجانب الروسي عمليا هو المصدر شبه الوحيد للتقارير والتقييم.
ثالثا:: خلافاً لكل التوجهات الدولية فإن المحطة المقترحة بحجمها غير المتناسب مع الشبكة الكهربائية الوطنية، وكلفتها الباهظة ، ومتطلباتها العاجلة والآجلة، بما في ذلك كلفة الوقود النووي ،وكلفة تفكيك المفاعلات بعد انتهاء عملها، لا تحمل أية جدوى اقتصادية حقيقية في اقتصاد صغير الحجم، كالاقتصاد الأردني عالي المديونية، ولتغطية ما لا يزيد عن 16% من فاتورة الطاقة . والسؤال المحدد المطلوب من الهيئة: أين الجدوى الاقتصادية وأين المقارنة مع بدائل الطاقة الأخرى المتاحة في الأردن وفي مقدمتها الصخر الزيتي وطاقة الرياح والطاقة الشمسية ؟ والسؤال الموجه إلى الحكومة أين جدوى الفرص البديلة ؟ بمعنى هل الأفضل للأردن إنفاق (12) مليار دولار على محطة نووية أم استثمارها في أوجه أخرى؟
إن بعضا من دول  المنطقة العربية آخذة  بالتفكك لأن إدارات تلك الدول لم تكن معنية بتطوير بنية الدولة الاقتصادية الاجتماعية اللوجستية ، واتجهت إلى مشاريع واستثمارات ليس لها أولوية. إن السكة الحديد في بلد كالأردن ستكون شريان حياة جديد، وعامل رئيس في زياد الترابط والتماسك الإقتصادي الإجتماعي السكاني. وإن تنمية المحافظات وتصنيع اقتصاداتها هي البوابة الرئيسية لإعمار البلاد و إحياء أريافها و بواديها،كما أن مشاريع تحلية المياه بالطاقة المتجددة ومشاريع بدائل الطاقة هي التي ستمكن الأردن من الاستمرار بقوة ومثابرة وصلابة . السؤال : لماذا لا تنفق المليارات التي ستخصص للمحطة النووية على مشاريع الطاقة غير التقليدية والسكة الحديد وتصنيع المحافظات ؟ هل هناك إجابة علمية و مقنعة ؟
أن الأردن لا يحتمل أي خطأ نووي أو إشعاعي ،وأن أزمة الطاقة في الأردن هي ليست في الأسعار فهذه أسعار عالمية، تخضع لها جميع دول العالم، وفقط (31) دولة أكثر من نصفها في اوروبا من أصل (200) دولة لديها محطات نووية. ولكن الجوهر أن اقتصادنا الوطني متواضع ونموه ضئيل أقل من معدل النمو السكاني، ودخل الفرد لا يتحمل الأسعار السائدة . وما تفعله الدول الواعية الرشيدة هو تكثيف الاستثمار في تنمية الاقتصاد وزيادة دخل الفرد، وعند ذلك يكون المواطن والمنتج قادرين على تحمل الأسعار حتى عند ارتفاع أسعار البترول كما تفعل دول مثل سنغافورة وقبرص و غيرها .
و بعد فهذه مسألة وطنية لا تحتاج إلى دعاية ولا استكتابات من الكتاب العموميين ولا ترويج لدى طلبة المدارس ،إلا إذا كان ذلك يخفي شيئاً آخر. الكل يبحث عن إجابات مقنعة ولا يتعصب لموقف. فهل يطمح المواطن الأردني، حتى يطمئن إلى مستقبله، أن تدرك الحكومة خطورة هذه المسائل فتخرج بإجابات محددة واضحة فتريح وتستريح .