برنامج نتنياهو والسلام الإقتصادي

كان فور ترامب في انتخابات الرئاسة الامريكية مفاجئا، بل وصادما للكثيرين داخل وخارج الولايات المتحدة الامريكية. فتصريحاته الجدلية و إشاراته المستفزة، و عباراته الإقتصادية ضد العولمة و التجارةالحرة، خلال الحملة الإنتخابية تبدلت تماما بعد الفوز، فراح يتحدث بهدوء ،ويخاطب كل الأمريكيين بما في ذلك المهمشين و المحرومين. وهذا أمر متوقع للغاية .ذلك أن ترامب الرئيس ليس هو ترامب المرشح. و بالتالي لا يتوقع أن يكون عهده بالصورة التي رسمها كمرشح، و أن يختلف ًجذرياً في الشأن الخارجي عن عهد اوباما، وخاصة فيما يتعلق بسياسة أمريكا في الشرق الأوسط ،ربما باستثناء مسألتين :
الأولى : التعامل مع ايران ومحاولاتها الدؤوبة للتمدد في المنطقة،إضافة للمسألة النووية . فمن المرجح أن تدرك الإدارة الأمريكية خطورة هذه المسألة على المصالح الأمريكية، و تعيد الثقة إلى دول الخليج بالدعم و المساندة .و قد تسعى ايران بجهود سرية لتقليص فجوة التفاهم مع اسرائيل بعد أن فعلت تركيا ذلك. والثانية : الحرب في سوريا واحتمال التوصل مع روسيا الى حل ولو مؤقت، يبقي على نظام الأسد والقواعد الروسية الجديدة ،مقابل بعض التنازلات في اوكرانيا و الأسلحة في اوروبا.
لقد أعلن نتنياهو فور إعلان النتائج عن سروره و ترحيبه بفوز ترامب مشيرا إلى علاقات الصداقة التي تربط بينهما، و التي سبق و أن عبر عنها ترامب بحرارة غير مسبوقة، في خطابه الإنتخابي شديد الإنحياز لإسرائيل في اجتماع “الإيباك”.حيث أكد على عزمه نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، و بشر الحضور اليهود أن ابنة ترامب ستنجب طفلا يهوديا قريبا جدا.و هذا يعني أن الموقف من اسرائيل سيقوم على الدعم المطلق ،وان كان الجمهوريون مؤهلين لأن يكونوا أكثر حزما في المسائل المختلفة بما فيها الضغط على الفلسطينيين و العرب، و أن كان نتنياهو سيظهر أقل غطرسة في تعامله مع ترامب. وسيحاول اللوبي الصهيوني ،و من خلال رجال الأعمال اليهود، استغلال عقلية الاقتصاد، و نفسية رجل الأعمال المسيطرة على ترامب، وشغفه في المشاريع و الصفقات، إلى تمرير الرؤية الصهيونية لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي بإذابة “مشروع الدولة ” من خلال “التجميد في الأنابيب الإقتصادية” كما تفعل الآن في غزة ، ومن خلال الإندماج الحذر في المنطقة من بوابات الإقتصاد و المشاريع.
و هنا علينا أن نتذكر ان الدول ،شأنها شأن الافراد، تخضع للضغوط بشتى أنواعها الداخلية والخارجية ،والاقليمية والدولية ،ولا تستطيع التهرب من التعامل معها في كثير من الاحيان. وكلما كانت الدولة أكثر تماسكا واكثر اعتمادا على نفسها، وأعلى درجة من الثقة بين المواطن والدولة، وأكثر تشاركية في صنع القرار مع القوى السياسية والمجتمع المدني و أهل العلم والفكر والخبرة، كلما استطاعت ان تصمد امام الضغوط ،وأن تجعل النتائج أعلى فائدة وأقل ضرراً.والمنطقة العربية وخاصة الشرق الاوسط تجتاحها أعاصير هائلة من الحروب والفوضى والضغوط السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية. والمطلوب الصمود والحكمة في التعامل مع الضغوط المحلية والاقليمية والدولية.
كل ذلك واسرائيل لا يصدر عنها ضجيج ولا ضوضاء، رغم اياديها وأصابعها الخفية التي تلعب في كل مكان فيه اقتتال، من خلال الدعم المستور للحركات الإرهابية والمتطرفة سواء بالمال أو السلاح أو الإعلام. وهي في نفس الوقت تمعن في التركيز على انتهاك الاماكن المقدسة إضافة إلى استمرار قضم الأراضي الفلسطينية ،بهدف “تحويل الفلسطينيين إلى مجرد تجمعات سكانية كبديل عن شعب وأرض”. يضاف إلى ذلك حصار غزة الذي دخل عامه الحادي عشر وتغيير معالم القدس وما حولها. كل ذلك للأسف لم يعد مثار اهتمام احد.
و منذ عدة سنوات وجد نتنياهو ان الرياح مواتية تماماً لكي ينهي الجانب السياسي من الصراع على طريقته. و أصبحت أكثر مواتاة بفوز ترامب الذي وصف الفلسطينيين بترويج قيم و ثقافة و تربية الإرهاب.سيعمل نتنياهو من خلال مدخلين رئيسيين: الأول : تسريع وتيرة تآكل الحالة الفلسطينية والثاني : المدخل الاقتصادي لعلاقات اسرائيل مع المنطقة . وبالتالي يستطيع أن يفرض السلام الذي يريد. وهذا قد يتوافق مع الادارة الامريكية الجديدة . فالفرقة الفلسطينية مستفحلة، وسوريا تم تدميرها عمرانياً وسياسياً وعسكرياً، والعراق في ازمة مركبة وتسير على طريق التقسيم ،والضغوط الاقتصادية على مصر والاردن والسعودية ضخمة،و صورة الشرق الأوسط في عقل ترامب و نائبه هي الصورة الإسرائيلية. السلام الذي يريده نتنياهو هو السلام الذي لا يتناول أي موضوع سياسي وانما هو “سلام الإذابة و الإنتهاء”. وهذا يتطلب ادوات ضغط خاصة على الفلسطينيين، وعلى الاردن ومصر. باعتبار الاردن هو الدولة الاكثر دعما والتصاقا وتأثيرا وتأثرا بالموضوع الفلسطيني.
وانطلاقا من الضعف العربي في اجتياز أزماته الاقتصادية، واستمرارتصاعد حاجة الأقطار العربية للمساعدات والمنح والقروض، واهمالها الانتاج و التصنيع، والامعان في الاستيراد، وعدم العمل و الصبر على حل مشكلات الطاقة والمياه والنقل و الزراعة و التصحر، وتأسيساً على أساسيات الفكر في العقل اليهودي التقليدي، فإن المال او الاقتصاد هو المفتاح لكل مشكلة، والحل لكل معضلة. وهذا سيلقى صدى واسعاً لدى ترامب. ولذا نشطت ضغوط وجهود الحكومة الاسرائيلية واللوبي الصهيوني باتجاه فكرة الدمج الاقتصادي او السلام الاقتصادي بعيداً عن السياسة .وهكذا بدأ العمل في مجالين حيويين هما الماء والغاز.، و كلاهما ليس ضروريا ولا مبررا إقتصاديا و سياسيا. وسوف تتبعهما الكهرباء اذا تم الإصرار على انشاء المحطة النووية بحجمها الضخم و الذي يحمل أخطاء فنية و اقتصادية و لوجستية خطيرة. ثم تليها السكة الحديد التي جعلت الحديث عن شبكة سكة حديد وطنية من الجنوب إلى الشمال أمرا منسيا. .وهذه كلها في ظاهرها مشاريع اقتصادية وفي جوهرها سياسية.
و الخلاصة ان على الاردن ان يكون حريصا جدا، متأنيا ، وان لا يدخل في اي اتفاق يتيح لإسرائيل التحكم في المفاصل العصبية للدولة .و أن يعمل قبل كل شيء على الحصول على ضمانات من اسرائيل وضمانات دولية بالتزامها بعدم التعرض للاماكن المقدسة وعدم تهجير الفلسطينيين والمحافظة على الحدود و الإلتزام بالشرعية الدولية. وفي خلاف ذلك تكون الخطة الاسرائيلية تتحرك كما يريد نتنياهو.
يشير الخبراء ان واحداً من أهم الاسباب التي أودت بالاقتصاد اليوناني وبالتالي أدت الى الازمة المالية الاقتصادية الراهنة كان يتمثل في ” تجميل النتائج وتحسين الارقام” كما ان رئيسية جمهورية البرازيل كانت التهمة الموجهة اليها وأدت إلى محاكمتها وعزلها تتمثل في “التصرف بالبيانات لإظهار حسن الاداء”. وما مرت به اليونان والبرازيل تمر به الكثير من البلدان. ولكن تجارب الدول تؤكد بوضوح ان تبيان الحقائق على ما هي عليه في حينها ودون تأجيل او ترحيل او تجميل، وافساح المجال لوجهات النظر المخالفة،دون منعها أو التعتيم عليها ،بهدف الإفادة منها في بناء المستقبل هو الطريق لاكتساب ثقة الشعوب ولتصحيح الاخطاء وبالتالي زيادة قوة الدولة لا إضعافها.