انحسار كورونا.. ودور الجامعات

على الرغم من استمرار الإصابات بوباء كورونا في 211 دولة و”محمية” في العالم إلا أن الافتراض السائد هو أن الجائحة ربما وصلت قمتها وهي في تراجع بطيء،مما شجع معظم الدول ونحن منها لتأخذ بالانفتاح التدريجي واستعادة الحركة الاقتصادية مع الالتزام بالاحتياطات الصحية اللازمة. هذا إضافة الى تكثيف الجهود في مراكز الأبحاث لتطوير لقاح للوباء. لقد تأثرت اقتصادات الدول بشدة في فترة الإغلاق نتيجة لهبوط الإنتاج وتوقف القطاعات الأساسية عن العمل وفي مقدمتها الطيران والنقل والسياحة والترفيه والمطاعم والعلاج والخدمات المنوعة والصناعات الصغيرة والمتوسطة والمشاغل إضافة إلى توقف العمالة غير المنتظمة وتعطل الإدارات الحكومية والقضاء والتحول نحو التعليم الإلكتروني أو التعلم عن بعد للمدارس والجامعات.
لقد ارتفعت البطالة ويتوقع ان تصل على مستوى العالم إلى (12 %) و(24 %) في الأردن ، وانخفض معدل النمو الاقتصادي العالمي ليكون سالبا(-6.4 %) بينما المتوقع أن يكون لدينا(-7 %) والمتوقع ان يكون تراجع التجارة العالمية بمقدار (32 %) وتراجع معدل نمو الإنتاج الصناعي عالمياً ليكون (-6 %)، وأن تتسع مساحات الفقر المدقع عالميا بمقدار (1.2 ) ولدينا(1 %) ويصل الفقر لدينا 18 % . هذا بينما تنخفض ابتعاثات ثاني أكسيد الكربون عالميا بمقدار (5562) مليون طن ووطنيا بمقدار (8) مليون طن.
وهنا لا بد من مواجهة الحقيقة والتأكيد على أنه ليس هناك حل جاهز يمكن استيراده أو تقليده للخروج من الأزمة ، وإنما على كل دولة بمؤسساتها الرسمية والأهلية ومشاركة خبرائها وعلمائها أن تبحث عن الحلول الأكثر قابلية للتطبيق بأعلى كفاءة ممكنة في إطار الظروف والإمكانات الخاصة بها. تشتمل الأزمة على جوانب إدارية وأخرى اقتصادية وسياسية واستراتيجية، وجوانب علمية وتكنولوجية تبحث عن حلول. وهذا يجعل الشركاء في الخروج من الأزمة ثلاثة وهم القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع العلمي من علماء وباحثين في الجامعات ومراكز الأبحاث. ودون التعاون المؤسسي الجاد بين الشركاء الثلاثة فإن الحلول ستكون مجزوءة وغير ناجعة.
فالقطاع العام عليه العمل مع الآخرين لحل مشكلات الإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي في إطار تصنيع الاقتصاد الوطني والاهتمام بإنتاج الغذاء وتخفيض كلف الإنتاج بما في ذلك حل مشكلات التمويل والمياه والطاقة. أما القطاع الخاص فعليه العمل مع الشركاء لحل المشكلات التفصيلية والانفتاح على الجامعات بهدف التعاون مع الأكاديميا وإنشاء تحالفات صناعية وزراعية ونوعية متخصصة إضافة إلى تحسين حاكمية الشركات ورفع مستوى الأداء فيها من خلال مدونات سلوك مناسبة. وتتحمل الشركات الكبرى مسؤولية خاصة للمساعدة في إنشاء مشاريع إنتاجية جديدة ذات علاقة بأعمالها موزعة في المحافظات.
ومن المتوقع أن تؤدي الجائحة إلى انكماش دخل الجامعات من الرسوم الجامعية بنسب تتراوح بين 30 % الى 50 %، وتراجع أعداد الطلبة الوافدين بنسبة تزيد على 50 %. الأمر الذي يمثل دعوة صريحة لتنويع مصادر دخل الجامعات وخروجها من الاكتفاء بالتعليم (على أهمية ذلك) إلى أن تكون شريكا للمجتمع في تطوير الحلول لمفردات الأزمة وأن تغدو عقل الدولة في ابتداع بدائل وتكنولوجيات وأفكار جديدة يحدث تراكمها نقلة نوعية. وحتى تكون الجهود مثمرة فإن تجميع الباحثين والمرافق البحثية لتتعدى الكتلة الحرجة يصبح ضرورة وطنية بامتياز، مما يتطلب تنظيم العلاقة بين الجامعات لتشكيل مجموعات تشترك في اهتماماتها وتوجهاتها وأبحاثها. إن كل جامعة منفردة ليس لديها من الباحثين أو المختبرات لتطوير الحلول في الوقت المناسب. وبالتالي لا بد من التوافق في ظروف كورونا وما بعدها على تشكيل مجموعات بحثية وتخصصية للعمل حسب المسائل الأكثر أهمية وفي مقدمتها أولا: دراسة الوباء وتبعاته الصحية والاحتمالات المستقبلية لأوبئة مماثلة. ثانياً: ستتفاقم البطالة نتيجة لتعطل العمل بسبب الوباء من جهة ولاختفاء وظائف ومهن نتيجة للثورة الصناعية الرابعة من جهة أخرى، الأمر الذي يستدعي دراسة هيكل الفرص الوظيفية والتعرف على الوظائف أو المهن التي هي في طريقها إلى الاختفاء والوظائف والمهارات الناشئة، وبدء الجامعات تدريس مستلزماتها.
ثالثاً: دراسة وتقييم تجربة التعليم عن بعد ووضع الضوابط النوعية، وإنشاء برامج لتأهيل الأساتذة، وتوجيه الطلبة لتحقيق كفاءة أعلى. رابعاً: إن السنوات المقبلة ستشهد تراجع فرص الوظائف الجاهزة نتيجة للأتمتة والذكاء الاصطناعي والربوطات والطباعة الثلاثية، وهذا يتطلب أن تقوم الجامعات بتدريس الريادية وإدارة المشاريع
وتمويلها، ومفاهيم الهندسة العكسية وصناعة الأشياء لجميع التخصصات، حتى يصبح الخريج قادرا على انشاء عمله بنفسه مهما كان تخصصه. وفي خلاف ذلك ستتضاعف البطالة بكل مخاطرها.
خامساً: تساهم السياحة بأكثر من 15 % من الناتج المحلي الاجمالي، وهي أمام التنافس العالمي الشديد بحاجة إلى دراسات وأفكار وابداعات جديدة تنجزها الجامعات لتحويل المرافق السياحية إلى مراكز جذب قوية للسياحة الداخلية والعربية والدولية خاصة وإن إنفاقات الأردنيين على السياحة الخارجية تتعدى (1000) مليون دينار سنوياً.
سادساً: إن القطاعات الصناعية والزراعية والحرفية بحاجة إلى تطوير تكنولوجيات العمل لزيادة الانتاجية ورفع القيمة المضافة بما في ذلك تطوير معدات تعمل بالطاقة الشمسية كلما أمكن ذلك، وهذا يتطلب أن تقوم مجموعات بحثية متخصصة بالتركيز على تطوير التكنولوجيات والأجهزة لهذا الغرض بدلا من انتظار استيرادها خاصة وإن لدينا أعدادا كبيرة من المهندسين والتكنولوجيين والكليات العلمية والتطبيقية في كل تخصص.
سابعاً: ما يزال اعتماد الأردن على الغذاء المستورد مرتفعا ويصل إلى (85 %) ويشمل استيراد اللحوم والدواجن والحبوب والزيوت وليس لدينا اكتفاء ذاتي إلا بالخضار وبعض الفواكه. إن الأردن بحاجة إلى ثورة زراعية كما فعلت الهند قبل 55 عاما تقوم على العلم والتكنولوجيا والمكننة والأتمتة، وتشمل على سبيل المثال: تطوير سلالات نباتية وحيوانية تحتمل الحرارة والجفاف ومكننة الزراعة …الخ. وهذه مسؤولية الباحثين المتخصصين في الجامعات حتى يتم تعزيز الاعتماد الذاتي في الغذاء وايقاف التصحر ومواجهة التغيرات المناخية. إن القيمة المضافة في الزراعة لدينا أقل من (12000) دولار لكل عامل مقابل 11500 دولار في مصر و 27000 في ماليزيا و48000 في ألمانيا و 92000 في الولايات المتحدة الأميركية . ويعود السبب في ارتفاع القيمة المضافة في الزراعة إلى مُدخلات العلم والتكنولوجيا فيها نتيجة لأبحاث الجامعات وتعاونها الوثيق مع القطاعين الصناعي والزراعي. ثامناً: قيام فرق بحثية متنوعة لتعريف الصناعات الصغيرة والمتوسطة والقبلية والبعدية التي تحتاجها أو تفرزها الصناعات الكبيرة ، وبذلك تصبح هذه الصناعات مصدرا لمشاريع إنتاجية كثيرة تنتشر في المواقع المناسبة.
وحقيقة الأمر أن الأبحاث التطبيقية المتعلقة بآثار جائحة كورونا هي أكثر من أن يتم تعدادها. وان استمرار كل قطاع يعمل بمعزل عن الآخرين لن يوصل إلى حلول تحد من البطالة والفقر وانخفاض الدخل والانكماش الاقتصادي.
فهل تبادر الحكومة بتكوين المجالس المشتركة ؟ وتتحرك وزارة البحث العلمي لتشكيل الفرق البحثية الجامعية المشتركة؟ أم إن رؤساء الجامعات بحرصهم على المستقبل سوف يتداعون من أنفسهم إلى اللقاء والتشييك والاتفاق على برامج عمل ؟ تلك هي المسألة.