النزاهة والاقتصاد …. المسافات الشاسعـة

‎في لقائه مع هيئة النزاهة أكد الملك عبد الله الثاني أنه قد “ آن الأوان ليشعر المواطن بجهود ونتائج محاربة الفساد”، وانه لا بد من محاربة الواسطة والمحسوبية بجميع أشكالها وعلى جميع المستويات . وقبل أسبوعين تقريباً اشار إلى ضرورة “ الإصلاح الاقتصادي الذي يشعر به المواطن” ويخفف عنه أعباء المعيشة المرهقة .
‎ومن جانب آخر أشار رئيس الوزراء في لقائه مع اللجنة المالية للأعيان، وفي لقائه مع التلفزيون الأردني، إلى ضرورة وضع خطة اقتصادية محكمة لاتاحة الفرصة للاقتصاد الأردني أن يتماسك ويستعيد قوته وتقدمه. وهناك صلة قوية بين استمرار الفساد من جهة، وبين تعثر الاقتصاد وتباطؤه من جهة ثانية، و غياب الديمقراطية والأحزاب من جهة ثالثة. فحسب التقارير و الدراسات و المؤشرات الدولية نجد أن الدول الأعلى على سلم النزاهة أي الأقل فساداً وهي الدول الاسكندنافية والدنمارك ونيوزيلندا، هي الأكثر سعادة، والأعلى ديمقراطية، والأكثر رخاء اقتصادياً بالنسبة لمواطنيها.
‎وربما لا نجد منطقة تتحدث عن محاربة الفساد والنزاهة والأخلاق والاستقامة والاصلاح السياسي والاقتصادي والمثل والقيم كما المنطقة العربية .ومع هذا، لم تفلح الجهود حتى الآن في تحفيز أي اقتصاد عربي وتحويله إلى اقتصاد صناعي، كما ولم تنجح معظم دول المنطقة في محاربة الفساد والالتزام بالقانون، و لا تحولت أي دولة إلى الديمقراطية. لماذا يزداد الفساد انتشاراً و تتعمق المحسوبية في الكثير من الأقطار العربية؟ رغم التشريعات والهيئات والعقوبات والتصريحات؟ ولماذا تعاني من تراجعات اقتصادية اجتماعية خلفت الفقر والبطالة في كثير منها فخلقت بيئة حاضنة للإحباط والمظلومية والتطرف والإرهاب.؟ وباستثناء الإمارات العربية المتحدة، فإن المنطقة العربية بكاملها تقع تحت خط 50% من مؤشر الفساد، في حين حصلت الإمارات 60% والأردن 48%، و6 دول عربية أخرى تقع في ذيل القائمة.
‎ و بالنسبة لنا ، فالسؤال الجوهري هو: هل هناك استعداد حقيقي لدى الإدارات الحكومية لتنفيذ خطة متماسكة، و برنامج عملي لمحاربة الفساد ولتعميق النزاهة من جهة، وتنشيط الاقتصاد من خلال شراكة ناجزة مع القطاع الخاص من جهة ثانية، و تعزيز مشاركة الأحزاب و منظمات المجتمع المدني من جهة ثالثة “إلى الدرجة التي يشعر بها المواطن” كما يدعو الملك ؟ هل هناك ايمان من إدارة الدولة بضرورة وأولوية ذلك، واستعداد و”همة” لتحمل المتاعب التي ترافق الإصلاح في الأداء والسلوك والاقتصاد والتحول الديمقراطي ؟ هل يرضى الموظف والمسؤول أن يخدم المواطن والمستثمر ولا يكون له نفوذ ؟ ولا تقبل منه أو له واسطة ؟ والمطلوب هنا أن تضع الحكومة “برنامجا لتحفيز وتأهيل أجهزتها الإدارية، نفسياً وذهنياً وعمليا” ليكونوا على أهبة الاستعداد للتغيير.
‎ إن البداية والقيادة هما دائما بيد الدولة . وسواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو النزاهة أو الديمقراطية ، فإن المبادرة تأتي من المؤسسة الرسمية، ومن الأعلى الى الأدنى. ويبدأ التحول فقط، حين تصبح الإدارة العليا للحكومة نموذجاً وقدوة للنزاهة والمساءلة والشفافية ومحاربة الفساد، وقدوة في الانجاز والإبداع و الهمة العالية، وشريكا في الممارسة الديموقراطية، والحس الاقتصادي الوطني العالي . واذاك يمكن للمستويات الوسطى و الأدنى أن تحذو حذوها. و يتطلب ذلك برنامجاً موسعا تضعه الحكومة لمؤسساتها كما فعل “مهاتير محمد” في ماليزيا، و في الإطار التالي:أولاً : تهيئة الموظفين لمدة شهر أو شهرين من خلال الندوات والمحاضرات والنشرات و الإعلام على تحقيق هدف واحد هو “تعزيز الاقتصاد الوطني وخدمة المواطن بالسرعة الممكنة وضمن القانون بعيداً عن الواسطة والمحسوبية والرشوة والقرباوية”. ثانياً : أن يلتقي رئيس الوزراء مع كبار المسؤولين في الدولة لدعوتهم إلى “أداء قسم النزاهة و الإلتزام بتحمل المسؤولية التي نادى بها الملك”. ثالثاً: أن تضع كل وزارة ومؤسسة “مدونة سلوك خاصة بأعمالها” توضح السلوكيات التي ينبغي الالتزام بها والأخرى التي ينبغي الابتعاد عنها بما في ذلك السلوكيات الخفية والمختبئة والمؤجلة .رابعاً : أن تدعو الحكومة غرف الصناعة والتجارة والاتحادات النوعية ورؤساء مجالس الشركات المساهمة العامة للقيام بنفس ما قامت به الحكومة.خامساً : يتم تغليظ العقوبة المتعلقة بالفساد والإسراع بإيقاعها. وكذلك يكون التراخي والإهمال وعدم الانجاز موضع مساءلة حقيقية. سادساً : يصدر مجلس الوزراء قرارا يتحدد فيه “ليس الراتب” و إنما “الحد الأعلى لما يتحصل عليه شهرياً” من يمثل الحكومة براتب الوزير أو بضعف متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، سواء من الوظيفة المباشرة أوالتقاعد أو مكافآت التمثيل في مجالس الإدارات أو اللجان أو الهيئات وما في حكمها، طالما أنه يمثل الحكومة أو يعمل معها وأن لا يتعدى ذلك لمدة (10) سنوات بعد تركه الوظيفة وانسحابه من كل مسؤولياته . سابعاً : تشكيل “اللجنة الوطنية لتسويات الشركات والمصانع المتعثرة” لوضع الحلول المناسبة تمهيداً لإقرارها من الحكومة.ثامناً: وضع رسوم” خدمات متأخرة “15%على بيع وشراء العقارات لغير الأردنيين . خامساً: وضع رسوم0.2% على بيع وشراء الأسهم في سوق الأوراق المالية .عاشراً: حصر عضوية موظفي الدولة في مجالس إدارة (3) مؤسسات فقط كحد أعلى وانتداب موظفين آخرين إذا كان قانون المؤسسة ينص على ذلك .حادي عشر : تخصيص 75% من العائدات المتأتية عن هذه الاجراءات لصناديق المشاريع الانتاجية في المحافظات.
‎و أخيرا ،أن الحكومات تريد من المواطنين أن يتحلوا بالنزاهة ويبتعدوا عن المحسوبية والواسطة والفساد ويلتزموا بتطبيق القانون بعدالة، والمواطن لا يقوم بذلك إلا إذا رأى المؤسسة الرسمية شرعت في اجراءات المشاركة والديمقراطية والنزاهة والمساءلة ومحاربة الفساد في قلب ماكنتها الإدارية، حتى يقتنع بجديتها. وبين هذا وذاك تضيع المسألة ويتراجع الأداء الاقتصادي والثقافي والإداري، وتتجمع الغيوم في سماء المستقبل، ما لم تبادر الحكومة للعمل بشجاعة وثقة.