الخبرات الوطنية … و مخاطر الضياع

(1)

بداية نطلب الرحمة  و نقدم التحية لشهداء الوطن الأبرار الذين إغتالتهم ايادي الغدر و الحقد الإسرائيلي المقيت في عاصمتنا عمان، وكذلك الرحمة لشهداء الأقصى و القدس الذين قتلتهم بكل لؤم بنادق الإحتلال الصهيوني العنصري. و التحية للمقدسيين على صمودهم دفاعا عن المقدسات، و التقدير للموقف الأردني المشرف إزاء كل هذه الأحداث.

(2)

“لماذا نستورد النفط الخام ونكرره بتكاليف اضافية ،بدلا من استيراده جاهزا؟ هكذا يتساءل أحد الكتاب الاقتصاديين في الحديث عن المصفاة …. ومن يريد أن يفكر بطريقته الغريبة، وعلى منواله العجيب يقول : لماذا نزرع الخضار والفواكه  بدلاً من استحضارها من أفريقيا؟ ولماذا نقيم المصانع و نتعب أنفسنا بها بدلا من جلب المنتجات جاهزة من شرق آسيا و بأسعار منخفضة؟ بل لماذا نصنع أي شئ بدلاً من استيراده جاهزاً من الخارج وبأسعار أقل ؟ ولماذا لا نعتمد على الآخرين في كل شيء ؟ ونعيش مرتاحين مستهلكين  وليس منتجين ؟ هل يعقل أن مثل هذا التفكير يطرح للرأي العام ؟ وبالمقابل نقول لماذا تستورد اليابان النفط الخام وتكرره ولماذا تستورد كوريا النفط الخام وتكرره ؟ بل وعشرات الدول في جميع أنحاء العالم تستورد النفط وتكرره؟ بل لماذا تتجه الدول نحو التصنيع ؟

 

أي تفكير اقتصادي يقدم للجمهور و يذهب بهذا الاتجاه.؟.. أين التفكير في العمالة الوطنية ؟ وكيف تبنى الثروة الوطنية بدون  زيادة القيمة المضافة من خلال التصنيع ؟ و ماذا عن تراكم الخبرة التكنولوجية ؟ أين الأمن الاقتصادي ؟ أين أمن الطاقة ؟ كيف تتقدم الدول ؟ أسئلة يبدو أنها غير متداولة لدى البعض .

 

إن مصفاة البترول مؤسسة وطنية لها من الخبرة 50 عاماً، بكل ما يعني ذلك من تجربة وممارسة ونجاح. لقد انتهى امتياز المصفاة عام 2008 ولم تعمل الحكومة على تجديد الامتياز وانما مددت العمل به سنة بعد سنة ثم (5) سنوات . هل يمكن لشركة أن تستثمر مئات الملايين من الدنانير في التوسع والإضافة والتحديث إذا لم تكن مطمئنة إلى مستقبل علاقتها مع الدولة والى مكانتها في السوق و إلى مصير الإمتياز ؟ هل هو تفكير اقتصادي اجتماعي سليم حين تكون هناك تيارات  تسعى أو تدعو إلى التخلص من المؤسسات الوطنية والاستغراق في الاستيراد؟ وقد بلغ العجز التجاري في عام 2016 ما يزيد عن 12 مليار دينار ؟لقد جربت لبنان طريق اغلاق مصافيها معتمدة على استيراد المشتقات النفطية  جاهزة. وهي اليوم تعاني من خلخلة مستمرة في السوق وفي الأسعار و تعمل على إعادة تشغيل تلك المصافي .

 

وجانب آخريتمثل في  البوتاس . لقد مضى على إنشاء شركة ا لبوتاس ما يزيد عن 50 عاما أيضا. وللأسف باعت الدولة حصصها لتصبح ليست صاحبة القرار في سياسات الشركة وبرامجها ومساهمتها في الاقتصاد الوطني وتطوير صناعات مصاحبة . وبالأمس “دعت الحكومة الشركات العالمية لدراسة احتياطي البوتاس في البحر الميت”. هل يعقل أنه بعد 50 سنة من إنشاء الجامعات الأردنية و كليات العلوم و أقسام الجيولوجيا، وإنشاء سلطة المصادر الطبيعية التي فككتها الحكومات السابقة، هل يعقل أنه لا يوجد خبرات أردنية لدراسة احتياطي البوتاس في البحر الميت ؟ أين يذهب العلم والخبرة في بلادنا ؟ وأين تذهب الجيولوجيا والجيولوجيون ؟ أم أن عليهم فقط أن يتفرجوا على الشركات الأجنبية تدرس وتحلل وتختبر وهم يتأملون ويحملقون ؟ تماماً مثل إنشاء الهيئة الاستشارية للطاقة النووية من الخبراء الأجانب ( مع الاحترام والتقدير وعدم التمييز والتعصب ) دون أن يكون من بينهم خبراء أردنيون .

 

وكذلك شركة الخطوط الجوية الملكية عالية .فعلى الرغم من أنها بدأت قبل 50 عاماً و حظيت بدعم الدولة المتواصل خلال هذه السنوات،وكانت مؤسسة حكومية ثم تمت خصخصتها لكي تكون أعلى كفاءة و أكثر إنتاجية، و تتحول من الخسارة إلى الربح.و تم بيع الطائرات و اللجوء إلى الإستئجار و غير ذلك الكثير، و مع هذا تتوالى الخسائر و يتراجع مستوى الخدمة .. هل يعقل أنه لم تتكون لدينا الخبرة الكافية  لإدارة شركة طيران بعد 50 عاما ؟ هل يعقل أنه ليس لدينا إداريون و فنيون متميزون ؟ أم أن المسألة تعود إلى أسرار لا يعرفها أحد؟حتى السوق الحرة حين دخل الأجانب كشركاء رئيسيين أصبحت تحقق أرباحا . و هنا نقول الأردن لديه الإمكانات ،و لكن الخلل يكمن في  الطريقة التي تدير بها الحكومات هذه الإمكانات، و الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع المؤسسات الوطنية الكبيرة، وتعيين إداراتها، والانشغال بالمكاسب والامتيازات التي تتراكم لتصبح  تكاليف إضافية بالملايين.

 

لقد آن الأوان أن ندرك بعمق و مسؤولية وطنية ،ما أدركته دول شرق آسيا قبل أربعين سنة ،وكانوا متخلفين عنا :أولاً : أن أي ازدهار اقتصادي حقيقي ودائم دون تصنيع لكامل القطاعات الإقتصادية هو مجرد وهم، و إهدار للوقت، و إضاعة للفرص . ثانياً :ان الزراعة والسياحة والخدمات و التي تشكل أكثر من 80% من الناتج المحلي الإجمالي، لا تنتج  قيما مضافة عالية لتحقيق الثروة الفردية و الوطنية الا من خلال التصنيع الشامل . ثالثاً : إن فصل الاقتصاد عن البعد الاجتماعي الوطني هو طريق مسدود لا يؤدي إلا إلى مزيد من الفقر و البطالة. رابعا: إن ما يبدو رخيصاً من السلع المستوردة الجاهزة ،تدفع الدولة والمجتمع بطريقة غير مباشرة  تكاليف إضافية لها تتمثل في كلفة  البطالة والفقر والإحباط و ترهل جهاز الدولة و تدني الخدمات. خامساً : على السياسيين والاقتصاديين و الكتاب  أن يدركوا أن الشركات الكبرى والمساهمة العامة ،هي ليست مجرد شركات يمكن بيعها أو اقفالها أو إفشالها أو  تسليمها أو خصخصتها بطريقة سيئة كما تباع دكان صغيرة في طرف القرية . انها قلاع وطنية هامة ،تشكل أعمدة رئيسية للاقتصاد  الوطني، وللخبرة وللتكنولوجيا ولكل ما هو حديث. والأموال فيها أموال عامة بالمعنى القانوني والاقتصادي والاجتماعي .سادسا:  ان فشل الشركات و المؤسسات التي للحكومة قول في تعيين إداراتها هو فشل للحكومة في القرار، و تتحمل المسؤولية الأدبية و الأخلاقية إزاء ذلك. و أن الإسترضاء و التنفيع لمن يراد استرضاؤهم، و هم في منازلهم، أقل كلفة على الوطن و المواطن و أقل إضررا و إيذاء لمستقبل الإقتصاد من وضعهم فيما هم ليسوا قادرين عليه .

 

نحن بحاجة إلى مراجعة حالة الشركات المساهمة العامة، والعمل و التعاون  على الإرتقاء بها ،و حل مشكلاتها. فالإقتصاد الحر لا يعني التفريط في المؤسسات ،ولا يعني تحويل الوطن إلى ساحة للاستثمار الذي لا يشارك فيه المواطنون بقوة ، ولا تسيطر الدولة على توجهاته. الاقتصاد الحر لا يعني تحويل البلاد إلى مجتمع مستورد لكل صغيرة وكبيرة. فالتجارة دون إنتاج لا تبني إقتصاد الدول.  ولا يعني الإقتصاد الحر العبث في مجالس الإدارة كما اتفق للتنفيع أو الاسترضاء و دون مساءلة و محاسبة على الإنجاز وعلى النجاح أو الفشل، ولا يعني اهمال الدور الاجتماعي للاقتصاد، ولا يعني إهمال الأرياف و البوادي و المحافظات