الحرب الاقتصادية.. وانفلات الأسعار

تدل جميع المؤشرات على أن أزمة أوكرانيا لم تحمل معها فقط مضامين سياسية وعسكرية سوف تؤثر على مستقبل التحالفات في أوروبا وأميركا، وانطلاق حرب باردة جديدة ومكشوفة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، وإنما تحمل معها مضامين اقتصادية ومالية معقدة سوف تؤثر على العالم تقريبا ولأشهر طويلة حتى لو توقفت الحرب اليوم.
لقد لفتت الأزمة الانتباه الى أن التوافق الروسي الأوروبي أمر غير مضمون، ومحفوف بالمخاطر دائما، والأهم من ذلك كله أنه شديد التأثر بالمواقف والمصالح الأميركية، التي ما تزال تقودها “نظرية السيطرة والتحكم بمقدرات الأحداث، والانفراد كقوة كبرى لها الكلمة العليا في المنظمات الدولية”.
ولأن أوروبا استثمرت إمكاناتها للنهوض بالجوانب الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية على مدى السنوات الخمسين الماضية، لذا كان اعتمادها في الدفاع مرتكزاً على القوة الأميركية من خلال حلف الأطلسي، ولم تنفق على الدفاع إلا القليل نسبيا، وخاصة إيطاليا وفرنسا وألمانيا. ففي حين تنفق الولايات المتحدة الأميركية 3.7 % من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وتنفق روسيا 4.3 %، فإن فرنسا تنفق 2.1 %، في حين لا تنفق ألمانيا إلا
1.4 % فقط من ناتجها المحلي الإجمالي. وهذا ما دعا ترامب، بصراحته الفجة المعروفة، لأن يطلب من أوروبا ثمن الحماية، ويطلب من ألمانيا بالذات أن تزيد من مساهماتها في تكاليف الحلف الأطلسي. وإذا كانت معظم الدول خارج القارتين الأوروبية والأميركية لم تتأثر حتى الآن سياسيا وعسكريا بمجريات الحرب الروسية في أوكرانيا، إلا أن لجوء أميركا وأوروبا الى العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا، فتح المجال لحرب اقتصادية متعددة الجبهات على مستوى العالم، ومتعددة المداخل: من المالي إلى الاقتصادي إلى التمويني إلى اللوجستي إلى التكنولوجي إلى الطاقة. وسوف تتأثر بهذه الحرب، إضافة إلى أوروبا ذاتها، عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وخاصة تلك الدول النامية متواضعة الدخل، كما هو حال معظم الدول العربية، التي تعتمد في غذائها ومعداتها وأنظمتها التكنولوجية والجزء الأكبر من مستلزماتها بشكل كبير على الاستيراد. لقد تركت الحرب الاقتصادية آثارها على 3 فضاءات هي؛ (أ) التمويل وأسعار العملات، و(ب) أسعار الطاقة والسلع الأخرى كافة و(ج) تقطع سلاسل التوريد.
فروسيا وأوكرانيا معا تنتجان أكثر من
25 % من القمح في العالم، ويتبع ذلك إنتاجهما من الشعير والذرة والحبوب والزيوت النباتية؛ أي المكونات الرئيسية للغذاء في الكثير من دول العالم. هذا إضافة الى النفط والغاز والفحم الحجري، والحديد والألمنيوم ومجموعة من المعادن المتميزة مثل النيكل والتيتانيوم التي تدخل في صناعة الماكينات وخاصة السيارات، وتنتجها روسيا بشكل خاص، إضافة إلى الذهب والنيكل والألماس والأسمدة والكيماويات. لقد أدت هذه الحرب الاقتصادية على روسيا الى نتائج غاية في الخطورة، يأتي في مقدمتها.
أولاً: ارتفاع أسعار النفط الى 115 دولارا للبرميل والغاز الى 6 دولارات للوحدة، وهذه الأسعار مرشحة للارتفاع إذا لم تتوقف الحرب الاقتصادية.
ثانياً:ارتفاع تكاليف النقل والعبور في الممرات المائية بالنتيجة، وهي الأعمدة الرئيسية في منظومة التجارة الدولية والسياحة.
ثالثا: ارتفاع أسعار المواد الغذائية جميعها على المستويين العالمي والوطني وبنسبة تتجاوز حتى اليوم 50 % وفي بعض المواد 90 %. رابعاً: اندلاع موجة عاتية من انفلات الأسعار في جميع السلع والخدمات، وموجة كاسحة من التضخم في معظم بلدان العالم، بسبب عدم وضوح نتائج الحرب ومآلاتها الاقتصادية والتمويلية والمدى الزمني الذي يمكن أن تمتد إليه.
والسؤال الرئيسي: ماذا على المستوى الوطني؟ وكيف سيتدبر المواطن الأردني والدولة أموره إزاء هذه الموجة من انفلات الأسعار، خاصة ونحن نعتمد على الاستيراد في معظم السلع، وفي مقدمتها الغذاء والماكينات والمعدات، إضافة الى مستورداتنا من النفط والغاز؟. فقبل الحرب الروسية الأوكرانية وقبل الموجة الحالية لارتفاع أسعار المواد الغذائية، كان متوسط كلفة الغذاء 40 % من متوسط دخل الفرد الأردني. وخلال فترة كورونا، ومع الحرب، قفزت أسعار المواد الغذائية في العالم الى ما يقرب من 50 %، الأمر الذي وضع أعباء ثقيلة التناول على المواطن؛ إذ ارتفعت كلفة المواد الغذائية الى ما يقرب من 60 % من متوسط دخل الفرد. وهذا يتطلب تدخلاً واضحاً من الحكومة ليس لمراقبة الأسعار فقط وإنما للعمل على تنفيذ برنامج واضح يضمن توفير المواد الغذائية وغيرها من المواد بأسعار يستطيع المواطن احتمالها، ويستطيع الاقتصاد الوطني النمو من خلالها. وقد يكون التدخل المطلوب في الإطار الآتي:
أولاً: وضع برنامج وطني سريع يتركز حول زيادة الإنتاج الوطني وتحسين الإنتاجية بالتشارك بين المؤسسات الرسمية والأهلية والأكاديمية ذات الخبرة، وخاصة في قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة، والشروع السريع في التنفيذ.
ثانياً: وقف الضرائب والرسوم على المواد الغذائية الرئيسية طوال الفترة المتأثرة بأحداث الحرب وتخفيضها على المواد الأخرى.
ثالثاً: تعزيز دور الجمعيات التعاونية لتسهم مع المؤسسات الاستهلاكية المدنية والعسكرية في توفير السلع الرئيسية للمواطنين بأسعار مناسبة.
رابعاً: المبادرة الفورية لمساعدة الشركات المتعثرة وخاصة المنتجة مثل المصانع والمزارع على الخروج من أزمتها واستعادة نشاطها الإنتاجي.
خامساً: السير في تصنيع الزراعة وفق برنامج واضح؛ إذ لا يمكن أن تستقر أسعار المنتجات الزراعية وبالتالي الغذاء في غياب التصنيع سواء لتصنيع المدخلات أو المنتجات نفسها.
سادساً: تكليف فريق من الخبراء لوضع نموذج جديد لأنماط الزراعة، بحيث يعطى الاهتمام للزراعات ذات القيمة الغذائية العالية من حبوب وأعلاف ومنتجات حيوانية. سابعاً: الاهتمام بثقافة التوفير وتخفيض الاستهلاك بدل التبذير، ووضع الترتيبات التي تساعد على تقليل الفاقد في المنتجات الزراعية.
ثامناً: أن تدعو الحكومة الشركات الكبرى والبنوك الى إنشاء مشاريع إنتاجية في المحافظات وحسب أولويات تخدم المحافظة والاقتصاد الوطني دون الانتظار حتى تأتي الاستثمارات الأجنبية التي ستكون ضئيلة أو محصورة في شراء الموجودات الثابتة.
تاسعا: تكثيف الجهود للتوسع في الطاقة الشمسية على المستوى المنزلي والزراعي والصناعي، وتكثيف الجهود للتنقيب عن النفط والغاز. عاشرا: التوسع في صناعة الأسمدة وتنويع المنتجات السمادية والكيماوية ودعوة شركتي الفوسفات والبوتاس ليكون لهما دور قيادي تكنولوجيا وتمويليا في هذا المجال. حادي عشر: الاهتمام بالصناعات المنزلية، وتطويرها إلى صناعات دائمة مستقرة المواصفات من خلال مؤسسة متخصصة، تساعد على تطوير المنتجات وتثبيت معاييرها وتسويقها.
وأخيراً، فإن الإشكال الأكبر لدينا يتمثل في بطء معدلات النمو الاقتصادي، وبالتالي انخفاض دخل الفرد، واتساع مساحة الفقر، وارتفاع البطالة. وهذه تجعل كل ارتفاع عالمي في الأسعار ينتقل ليغدو عبئاً غير محتمل على المواطن. ومهما كانت الإجراءات فلا بديل عن المباشرة في المشاريع الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، والاعتماد على التمويل الوطني من خلال التمويل التعاوني والتمويل المجتمعي ومساهمات كبرى الشركات والبنوك في تعزيز النمو الاقتصادي، وعدم انتظار التمويل الأجنبي من مساعدات وقروض، خاصة أن الحرب الاقتصادية جعلت التمويل مسألة معقدة وطويلة. إن المستقبل القريب يحمل الكثير من العقد الاقتصادية والمالية التي تتطلب الاستعداد لها حتى لا تتحول إلى إشكالات اجتماعية صعبة.