التسامح والسعادة.. والآفاق المستقبلية

كانت مفاجأة للحكومات وللمواطنين في الأقطار العربية ،أن تعلن الأمارات العربية المتحدة عن إنشاء ثلاثة مناصب وزارية جديدة: التسامح و السعادة والمستقبل ، خاصة وان المنطقة ليست في أفضل ظروفها. فالمستقبل مجهول مضطرب، و يكاد إعصار التعاسة والكراهية والتطرف والبؤس، يجتاح المنطقة بكاملها، باستثناءات محدودة. وبعيدا عن التعليقات المرحة هنا و هناك ،فإن الفكرة وراء القرار تستحق الإهتمام والتقدير. وهي إذا أخذت على محمل الجد، ومن مدخل علمي صحيح ، نجد أنها أولا تتطلب الكثير من العمل والإجراءات، وثانيا هي التي يمكن أن تعطي مسحة إنسانية لما تقوم به الحكومات من سياسات وانجازات. و ثالثا تمثل تقييما شاملا و”مقياسا للأعمال بالنتائج” .ورابعا هي نافذة الحقيقة التي يعيشها المواطن بعيدا عن التقارير الإدارية الرسمية التي تسعى لأن تبين بأن كل شيء تمام التمام ،و ليس بالإمكان أفضل مما كان.

والواقع أن العناصر الثلاثة،المستقبل والتسامح و السعادة تحظى باهتمام كبير في الدول المتقدمة و لدى المؤسسات المتخصصة .و لذا تم وضع مؤشرات أو أدلة رقمية لقياسها هي: “دليل السعادة” و “دليل التسامح” و دليل “التوجه للمستقبل”،و هي منشورة في الأدبيات العالمية لمعظم الدول .
إن أية وزارة تتولى شأن السعادة يتوقع أن تسعى إلى تحسين هذا الدليل و رفعه ليقترب من الرقم 10.و تقوم السعادة هنا على أعمدة رئيسية أربعة، وهي: التنمية المستدامة، والمحافظة على القيم الثقافية والفكرية وتنميتها، والمحافظة على البيئة الطبيعية، والحاكمية الجيدة. و تحت مظلة التنمية المستدامة يجري تقييم الدخل والخدمات كالصحة والتعليم، وتحت الحاكمية يجري تقييم الحريات و الأجواء العامة. و لذا فإن دليل السعادة هو مقياس من نوع ما للنتيجة الكلية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية.
لماذا تكون بلاد مثل الدنمارك والنرويج وسويسرا وهولندا والسويد في مقدمة الدول في السعادة؟ على الرغم من أنها لا تملك النفط ولا الجيوش الضخمة ولا المساحات الشاسعة؟ ولا يتجاوز سكان الواحدة منها عشرة ملايين نسمة؟ و لماذا تقع معظم الأقطار العربية في الثلث الأخير من القائمة؟ باستثناء الإمارات التي تحتل موقعا متقدما؟ .ما هي المفردات التي دفعت دولا لتكون في المقدمة ؟و وضعت أخرى في المؤخرة؟ هذه أسئلة ينبغي إثارتها داخل إدارات الدولة و منظمات المجتمع المدني و في مجلس الوزراء.
ومن جهة أخرى فإن انخفاض دليل السعادة، هو بالضرورة مؤشر على إخفاق السياسات والبرامج التنموية، وعلى الفشل في الوصول بالمواطن إلى الرضا ،و التقصير في الحاكمية، و إنذار على تنامي التعاسة والغضب، ليس لمسائل “مزاجية” وإنما لحقائق واقعية تأتي في مقدمتها البطالة والفساد وسوء الإدارة. وينتج عنها الكثير من المشكلات إبتداء بتراجع الإنتاج و الإنتاجية، و انتهاء بارتفاع حالات الطلاق والانتحار. وهذا بدوره يؤدي في كثير من الحالات نحو التطرف سواء في الأيديولوجيا أو الدين أو القومية أو الجهوية أو العرق والرغبة في تدمير الآخر من خلال العنف والإرهاب. و هي كلها قضايا ملتهبة في كثير من المساحات العربية.
التسامح ليس مجرد مسألة أخلاقية معنوية فقط. انه مسألة وطنية سياسية إقتصادية بامتياز. وجزء لا يتجزأ من منظومات التربية والتعليم والثقافة والإعلام. والتسامح جزء لا يتجزأ من عدالة الدولة إزاء مكونات المجتمع، بما في ذلك عدالة الدولة إزاء القرية مقابل المدينة، والريف مقابل الحضر، والعاصمة مقابل الأطراف. وهو جزء لا يتجزأ من نتائج العمل الاقتصادي وعدالة توزيع مكاسب التنمية . إن التسامح جزء رئيسي من إدارة الدولة، والتي هي بأمس الحاجة إلى من يشير إلى نقاط “التحيّز” في سياساتها و “التعصب” في قراراتها و”الظلم” في إجراءاتها حتى يتم تصحيح كل ذلك في الوقت المناسب. لماذا يشعر السويسري من أصل ايطالي أن السويسري الألماني هو مواطن يتمتع بكافة حقوق المواطنة و هو شريك و مكافئ،و له كامل الحقوق، وبينهما الألفة والمحبة؟ بينما يتصارع في المنطقة العربية و في البلد الواحد المسلم مع المسيحي، مع الكردي، مع السني، مع الشيعي، مع العلوي، مع الامازيغي، مع الشمالي ،مع الجنوبي مع الشرقي مع الغربي ؟ لماذا تشيع أجواء التسامح في بلدان كثيرة بينما هو غائب في المنطقة العربية؟
أن تراجع السعادة إلى البؤس والشقاء، واضمحلال التسامح إلى الحقد والكراهية ورفض الأخر والتطرف و العنف، وعدم قراءة المستقبل في الوقت الصحيح يوصل إلى النتيجة الحتمية : الرفض والتمرد أو الإنهيار أو الانفجار الذي قد يؤدي بمستقبل الدولة بأكملها.و هذا ما وصلت إليه بعض الأقطار العربية.
ومن جانب ثالث فإن القيمة الاقتصادية للسعادة والتسامح وعدم الإستعداد للمستقبل أكبر بكثير من ما يبدو على السطح. إن انخفاض كفاءة الأداء في التعليم وفي العمل وفي الإنتاج وفي الإدارة وفي الخدمات و أخذ القرار بعد فوات الأوان ،نتيجة للشعور بالتعاسة أو عدم شيوع التسامح تصل في بعض البلدان إلى أكثر من 20% من الناتج المحلي. و لو افترضنا أن تأثيره في بلد ما 5% فقط من الناتج المحلي فإن ذلك يعني ببساطة خسارة 250 مليون دولار سنويا لكل مليون نسمة من السكان في بلد يشابه الأردن. فهل يعقل أن تستمر الدولة تخسر من الإنتاج والإنتاجية والكفاءة والإبداع والابتكار هذه المئات من الملايين لأنها لا تريد أن تلتفت إلى جذور و ركائز المستقبل والسعادة و التسامح؟
إن العمود الفقري للفكر المتطرف والايدولوجيا الإرهابية هو التعصب وغياب التسامح. وإذا كانت المنطقة العربية على فوهة بركان من الكراهية والطائفية والتعصب، ألا يستدعي الأمر النظر في كيفية جعل الأفراد والمجموعات أكثر تسامحاً؟ ما هي البرامج والسياسات إزاء كل ذلك في المدارس والجامعات والمساجد والمراكز الشبابية والمنتجات الثقافية والإعلامية؟ ومن يراقبها ويدعو إلى تعزيزها؟ ومن جانب رابع فان انخراط الإنسان أكثر فأكثر في التكنولوجيا يتطلب حالة نفسية مختلفة عن العمل العضلي التقليدي الذي ينهك الجسم ويزيل التوتر ويجعل الإنسان أكثر استعدادا للقبول. بينما فرضت ثورة التكنولوجيا والمعلومات نمطا جديدا من العمل يقوم على التفكير والخيال والإبداع والمهارات التي يصعب آن يتقنها مجتمع غير متسامح ولا يقرأ المستقبل ويشعر بالبؤس والشقاء.
أما إنشاء “وزارة دولة” للمستقبل فهذا عين الصواب. هل تستطيع “الدول العاقلة” أن تتحرك بالسرعات الكبيرة التي تفرضها التغيرات الدولية والعلمية والتكنولوجية دون أن ننظر إلى المستقبل. إن الدول المتقدمة تقوم بالدراسات المستقبلية ووضع الاستراتيجيات لفترات تصل إلى 50 سنة و 100 سنة قادمة.إن ألمانيا بتقدمها الهائل هي الأولى على العالم في التوجه المستقبلي. أما الدول العربية فهي في آخر القائمة باستثناء الأمارات و السعودية وحقيقة أن الدول تقيم الوزارات أو المناصب الوزارية حسب احتياجاتها وحسب المستجدات وليس تكراراً للماضي. ففي بريطانيا مثلا هناك وزير دولة “الأعمال والابتكار والمهارات”، وفي كندا للبحث والإبداع .و إذا نظرنا إلى المنطقة العربية نلاحظ أنها عدا عن الإضطراب السياسي الذي تعاني منه و بطء النمو الإقتصادي فإنها تقع في وسط حزام صحراوي يجعلها هشة جدا أمام إعصار التغيرات المناخية الجارف. ما هو مستقبل المياه ؟ ما هو مستقبل الأراضي الزراعية ؟ ماهو مستقبل التصحر ؟ العمران ؟ النقل؟النمو السكاني؟ البطالة ؟ الطاقة؟ الفقر ؟التلوث؟ التدهور البيئي؟ الحرارة و الجفاف؟ إنتاج الغذاء؟ الأمراض و الصحة البيئية؟ هذا إضافة إلى كثير من الأسئلة الإقتصادية والسياسية و الإجتماعية و التعليمية والثقافية..هل يمكن لدولة في مثل هذه الظروف أن تتحرك بثقة دون أن تنظر إلى المستقبل و تتدبر أمرها قبل فوات الأوان؟
بطبيعة الحال ليس” تقليدا” أن يقترح أحد على الدولة العربية إنشاء مثل هذه الوزارات. فالمستقبل المزدهر لا يتحقق إلا إذا تم العمل لأجله في وقت مبكر. والتسامح والسعادة من غايات هذا المستقبل.