الاخلاق العامة… والكلفة الاقتصادية

سؤال اثاره الباحثون: هل هناك قيمة اقتصادية للاخلاق؟ أم أنها مجرد مسألة إنسانية إجتماعية و دينية؟ وهل هناك قيمة مضافة حقيقية للسلوكيات  الإيجابية التي يمارسها الفرد والجماعات والمجتمعات؟ و الاجابة: نعم. “الأخلاق و السلوكيات تحمل قيما إقتصادية لا يمكن تجاهلها” .و كلما ارتقى المجتمع وتقدم كلما ارتفعت الكلفة  وزادت القيمة المضافة. والعكس صحيح. فالمجتمعات الاكثر بدائية هي الاقل تفاعلا وتأثيرا متبادلاً بين الاقتصاد  من جهة، و الأخلاق والسلوكيات من جهة أخرى.

نقول ذلك ونحن امام مشهدين من مئات .الأول: “وقف قبول بعض الخضار الاردنية في دولة الامارات العربية وقطر ثم الكويت بسبب وجود بقايا مبيدات حشرية على تلك الخضار”. و الثاني “مشروع سكن كريم ،الذي كان الهدف منه مساعدة محدودي الدخل للحصول على سكن مناسب، فتحول إلى مباني متصدعة وخدمات متقطعة وافتقار لابسط متطلبات المعيشة الآمنة.” والسؤال: هل يعقل أن لا تكون هناك رقابة مؤسسية كافية على الخضار و الفاكهة و سائر المنتجات الزراعية بالذات وغيرها ،نظراً للتأثير المباشر على صحة الإنسان بما فيها صحة الإنسان الاردني ،و نظرا للضرر الاقتصادي الاجتماعي الهائل الذي يتركه التساهل في هذه المسائل؟ و هل يمكن أن يكون التراجع الأخلاقي وراء غض النظر عن وجود المبيدات؟  و هل كان الغش في “سكن كريم” بعيداً عن الانحدار ؟ ألا يعتبر هذا و ذاك  برهاناً على السلوكيات المعوجة التي لا تلتزم بمواصفات ولا متطلبات؟ أليس الجميع شركاء في هذا الإعوجاح ابتداء من المقاول ومروراً بالمشرف والفني الذي كان ينفذ وانتهاء بالذي تناول  البضاعة أو تسلم المشروع؟ كم هي الخسائر التي ترتبت على هذا الخطأ و الإهمال للمزارع وللقطاع الزراعي، وللمواطن و لقطاع الإنشاءات  نتيجة الغش في التصميم والتنفيذ والاشراف والتسليم؟

ولكن هل نتوقع الالتزام الكامل بالسلوكيات السوية وبالمواصفات المكتوبة والتي تعتمد على “أمانة الشخص المعني” اذا كانت منظومات الأخلاق و التربية والتعليم والثقافة نتيجة للفساد ،تعاني من التراجع والهبوط في المنطقة العربية بأسرها ونحن منها؟

عند الحديث عن الصدق والامانة، والاخلاص والالتزام والعمل، والثقة والتقيد بالقانون و الإلتزام بالتعليمات و المواصفات، والشعور مع الآخر ،والاهتمام بالنظافة، والبيئة ،وعدم الغش والخداع والغبن ،وغير ذلك من اخلاق وسلوكيات، نلاحظ أن المنطقة العربية تشكو من تراجع هذه القيم بشكل كبير وعلى شتى المستويات طولا وعرضا،على الرغم من أنها تدخل في صميم العملية الإقتصادية من إنتاج إلي تسويق إلى تصدير.هذا بينما نجدها عموماً بحالة أفضل تماما في اوروبا واليابان وسنغافورة وامريكا وغيرها. ومنذ اكثر من 170 سنة اشار “رفاعة الطهطاوي” إلى الأخلاق في اوروبا وغيابها في المشرق. و رغم مرور السنوات و انتشار التعليم و المدارس و الجامعات في كل مكان، فإن الأمر يتراجع يوما بعد يوم. والسؤال هنا: هل يمكن أن تتقدم الصناعة والزراعة والسياحة و الهندسة و الطب  و تستقيم الخدمات ، و يتحول المجتمع إلى مجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة دون حدوث تقدم وارتقاء جذري في الاخلاق والسلوكيات من جانب الأفراد و من جانب المسؤولين؟ ألم تتغير الأخلاق و السلوكيات المجتمعية في كوريا و سنغافورا و ماليزيا و الصين عن ما كانت عليه قبل 60 عاما او أكثرعندما تغيرت سلوكيات الإدارات و تطورت التربية والتعليم و الثقافة؟

ألا يعتبر انتشار الفساد والواسطة والمحسوبية والقرباوية والتنفيع والاسترضاء و عدم الإخلاص للوطن جزء من فساد الاخلاق الفردية والمجتمعية ،واعوجاجاً في السلوك وخروجاً عن الالتزام بالقانون و مدونات السلوك و أخلاقيات المهنة و الوطنية؟ ؟. هل هناك فرق بين لص يسرق خروفاً من راعي بسيط، وبين استاذ  جامعي يسرق الابحاث من غيره؟وهل هناك فرق بين شخص مخادع وكذوب وبين سياسي يخدع مواطنيه ويوهمهم بالوعود الكاذبة؟ هل هناك فرق بين قاتل يعتدي على اطفال صغار فيذبحهم، وبين عامل أو فني أو مدير يستخدم مواد قاتلة ومسرطنة في المنتجات الغذائية التي يصنعها؟ لا فرق ابداً. وهل هناك فرق بين محتال يتكسب من الغش والخداع ،وبين موظف أو عضو مجلس إدارة يتقاضى راتباً دون أن يعمل بما يساوى ذلك الراتب؟ لا فرق ابداً… الأول عديم الاخلاق سيء السلوك ،والثاني كذلك. لماذا يحاسب رئيس وزراء في فرنسا على “توسطه” في تعيين شخص في موقع لا يستحقه؟ وهم لا يتغنون بالاخلاق كما يفعل العرب في حين تخسر المنطقة العربية اكثر من 10 إلى 15% من الناتج المحلي لكل بلد بسبب الفساد، الذي هو قمة تدني الأخلاق و سوء السلوك؟

ما الذي يدفع اليابان كبلد متقدم وصناعي ودخل الفرد فيه يتجاوز 37 الف دولار سنوياً إلى تخصيص السنوات الثلاثة الاولى في المدرسة للتركيز على الاخلاق وبناء الشخصية وضبط السلوك وحب اللغة و القراءة والتعلم و النظافة و التعاطف مع الآخرين وتذوق الفنون وعمل الفريق؟ يفعلون ذلك رغم انهم ناجحون في هذه الصفات و السجايا بدرجة جيدة. ما الذي يجعلهم يقدمون التربية والاخلاق والسلوك على “تعليم المواد” منذ السنة الاولى للمدرسة؟ يفعلون ذلك لاسباب اقتصادية واجتماعية و انسانية  و وطنية مستقبلية. فالطفل الذي تجري تربيته و بناء شخصيته اليوم ،سيصبح هو نفسه العامل والفني والطبيب والسياسي والمثقف والعالم و المخترع و الفنان بعد 20 أو 30 سنة . وهو اذا لم ينشأ على اساس علمي و عقلاني و عملي متين من الاخلاق والسلوك و الشخصية الوطنية المهيأة للإضافة النوعية للمجتمع، فلن يستطيع أن يكون المبدع المتيمزمستقبلا. واذاك وسوف تخسر اليابان في حلبة التنافس الدولي و الإنساني، لان التنافس يتطلب الإبداع والتفوق والاتقان والنوعية والتقيد بمتطلبات الصحة والبيئة، سواء في صناعة الغذاء أو الدواء أو السيارة أو اللعبة البلاستيكية أوالرياضةو غيرها. كل ذلك لا يتأتى أبداً مع التربية المتراجعة والاخلاق العليلة والسلوك الفردي و المؤسسي غير القويم. ناهيك أن مجتمع المستقبل سيكون اكثر اوتوماتيكية وأوسع اعتماداً على الالة والحاسوب والانظمة والبيانات الرقمية و الحكومات الإلكترونية. وهذا النموذج لا ينجح في مجتمع ليس فيه صدق ولا امانة ولا اخلاص.

أن المنطقة العربية توظف بالمتوسط 25% من القوى العاملة، ولا تتعدى انتاجية الموظف فيها 20% بالمقارنة مع نظيره الاوروبي والامريكي والسنغافوري والصيني و غيرهم.و يعود جزء كبير من تدني الإنتاجية إلى شيء من الغش و الخداع و الإهمال و غياب القدوة .ومؤدى ذلك اننا في الاردن نخسر نتيجة لغياب الواعزالاخلاقي والضابط السلوكي لدى موظفي الحكومة فقط ما يقرب من 2 مليار دينار سنوياً، أو ما يعادل 7% من الناتج المحلي الاجمالي ، ونخسر ما يساويها في الصناعة والزراعة والسياحة.هل هناك فرصة “للتقويم و التصحيح الأخلاقي و السلوكي تلقائيا؟ هناك شك كبير”.

هل يمكن أن نقبل اقتراحاً ونحن في اطار اصلاح التعليم و الخروج من الترهل و الفساد، ورفع مستوى الموارد البشرية بأن ” تلتزم الحكومة بأن تكون قدوة للمواطن في السلوك،و في نفس الوقت نخصص السنتين الاوليين في المدرسة والفصل الاول في اي معهد وجامعة للتربية والاخلاق والسلوك و بناء العقلية العلمية و الشخصية الوطنية والالتزام بالقانون وعمل الفريق ،و تعمل الثقافة و الإعلام على دعم ذلك؟” هل يمكن أن نستفيد من التجارب الغنية في البلدان المتقدمة؟ تلك هي المسألة.