الإدارات الحكومية.. والقفز عن المراحل

‎يبدو أن هناك فهماً ملتبساً لدى الإدارات الحكومية  و في كثير من الأقطار العربية لأساسيات التطور الحضاري، و وسائل الخروج من مأزق التخلف و الإعتماد على المساعدات إلى حالة بناء القدرات الوطنية و الإعتماد على الذات.
و هناك عدم تدقيق لدى المسئول العربي عموماً في عمق المتطلبات الواجب تنفيذها و بشكل متسلسل لإحداث تغيير نوعي في الحياة الإقتصادية الإجتماعية و رفع مستوى معيشة المواطن و اللحاق بالدول الناهضة. أحد الشخصيات السياسية المرموقة علق على الدعوة إلى الاهتمام بالسكة الحديد وتنمية المحافظات بأنه موضوع  متخلف عن المرحلة، وتفكير بالتكنولوجيا القديمة مثل السكة الحديد والقطار والمقاربات التقليدية مثل التنمية الجهوية و تطوير المحافظات. وحسب رأيه فإن الدول المتقدمة قد تجاوزت كل ذلك ،إلى الطائرات والطرق السريعة و إقتصاد المعرفة و تكنولوجيا المعلومات. وأضاف قائلاً “ إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تنشئ خطاً حديدياً منذ عام 1950. و ربما، للمرة العاشرة يقول الخبراء و نقول معهم،  أنه لا يمكن لبلد أن ينهض و يزدهر فيه الأمن المجتمعي، و ينعم مواطنوه بالمستوى اللائق من المعيشة و الخدمات، إذا تركزت الجهود و الإستثمارات في جزء فقط بينما بقيت المحافظات والأرياف و الأطراف تعاني من ندرة المشاريع ، و ضآلة فرص العمل، و عزوف أصحاب المشاريع . ومن جهة ثانية، نقول أيضا ،أن قطاع النقل يمثل ركناً اقتصادياً بالغ الأهمية سواء من حيث كلفته أو من حيث القيمة المضافة. ولا يمكن أن نتخيل حركة اجتماعية داخلية واستمرار العمران في مختلف القرى والأطراف وتجارة مزدهرة ومراكز تجارة إقليمية ودولية كما نسعى أن يكون الأردن دون قطاع نقل قوي ومنظم ودائم.وليس هناك أفضل من السكة الحديد. ففي الوقت الذي تمتلك الولايات المتحدة أكبر حركة للصواريخ وللطائرات و السفن  والركاب في العالم فإن لديها أكبر شبكة سكة حديد في العالم يتجاور طولها (220) ألف كم وتنقل سنويا من البضائع 2400 مليار طن كم. وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على أوروبا بكاملها، وعلى الصين التي تبلغ طول شبكتها الحديدية 120 ألف كم،  وروسيا  (80) ألف كم و ألمانيا والهند وعلى الدول المتقدمة الصغيرة مثل الدنمارك و شبكة الحديد لديها بطول    2131 كم وبلجيكا 3529 كم وهولندا 2800 كم والنمسا وغيرها. ويبلغ معدل أطوال السكة الحديد في الولايات المتحدة 4كم لكل 100كيلو متر مربع من المساحة . وهذا يعادل ما يقرب من 3600كم إذا كان الأردن سيصل إلى مستوى الولايات المتحدة الأمريكية. أما الطائرات فهي بالدرجة الأولى لنقل الركاب وكميات محدودة من البضائع غالية الثمن. ويكفي أن نشير إلى أن أعداد المسافرين بالسكة الحديد سنوياً في بلد صغير مثل سويسرا يصل إلى 475 مليون مسافر  وهولندا 340 مليون وإسرائيل 49 مليون وللوكسمبورغ 20 مليون مسافر .  يتبادر إلى ذهن الكثير من المسئولين والمخططين العرب دائماً أن المرحلة المتقدمة تلغي وتمسح وتنسخ ما قبلها. والحقيقة أن المراحل الحضارية يتم بناؤها بشكل تراكمي وليس الغائي. فالتصنيع الذي انطلق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لا يزال هو أساس الإقتصادات الحديثة و أساس إقتصاد المعرفة، وإن تغيرت الأنماط والآلات والأنظمة.و كان التصنيع و الإقتصاد الصناعي، و لا يزال ،هو الأساس الذي تقوم عليه نهضة الدول ابتداء من اليابان و انتهاء بالبرازيل و ما بينهما في آسيا و أوروبا. هذا في الوقت الذي لا تنظر  الحكومات العربية حتى اليوم إلى التصنيع بأي اهتمام . والنقل هو أساس العمران والتجارة والحركية المجتمعية وإن تغيرت وسائله، وما تغير في السكة الحديد ليس دورها ومكانتها المركزية وإنما التكنولوجيا الخاصة بها من محركات وقاطرات و سرعات و وقود. و المسئول العربي يعتبر النقل مسألة اعتيادية  .  كيف تتوقع  الدوائر المسئولة عن الاقتصاد والاستثمار وتنمية المحافظات من أي مستثمر أن يذهب إلى عمق الأراضي الأردنية لبناء مصنع هناك أو مزرعة حديثة إذا لم يكن مطمئناً إلى وجود ترتيب لنقل منتجاته وعماله في نظام دقيق وفعال مثل السكة الحديد ؟ كيف يمكن إعمار و تطوير  هذه المساحات الضخمة من الأراضي دون نقل و مياه  و طاقة؟ والأمثلة أكثر من أن يتم تعدادها . إن الكلفة المباشرة وغير المباشرة لقطاع النقل في بلدنا تقترب من 3000 مليون دينار سنوياً . ومن المتوقع أن تساعد السكة الحديد على توفير 20% إلى 30% من هذه الكلفة أي ما بين  600 مليون إلى 900 مليون دينار سنوياً. وهذه المبالغ لو تم التعامل معها بحكمة و ذكاء و في إطار الإقتصاد الإجتماعي، كافية لبعث الحياة في تنمية المحافظات والبوادي و الأرياف وإنشاء آلاف المصانع و مئات السدود والحفائر و مرافق  الحصاد المائي و  مراكز الاستمطار و توليد عشرات الآلاف من فرص العمل التي نحن بأمس الحاجة إليها. إن ما فاتنا القيام به أو تأخرنا في بنائه لا يعني في معظم الأحيان أننا تجاوزناه ولم نعد بحاجة إليه، وإنما علينا المسارعة في بنائه وتدارك ما فات، لكي نضيف إليه مرحلة جديدة. تأخرنا في الديموقراطية، و في الأحزاب و في تطوير الإدارة و في البحث العلمي و إصلاح التعليم، و في التصنيع وفي تطوير الزراعة و في محاربة التطرف و الفساد.. الخ الخ . فهل نستطيع القفز عن كل ذلك؟  كلا..لا بد  من إنجاز كل ما تأخر، و لكن بكلفة أعلى . و الواضح أن التفكير العربي يضع مستقبل البلاد في سرداب يصعب الخروج منه . فهناك إصرار على إنشاء المحطة النووية بكلفة 10 إلى 12 و ربما 15  مليار دولار دون أن تتوفر لها المياه في حالة الحوادث، ودون أن يستفاد منها في تحلية المياه، و على حساب المياه التي يجب أن تذهب إلى الزراعة، و دون أن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه المحطة. لقد تراجع نصيب الفرد من المياه في الأردن إلى ما يقرب  من (100) متراً مكعباً سنوياً ويبلغ العجز السنوي في المياه أكثر من (250) مليون متراً مكعباً.وهناك  عدم اهتمام  بإنشاء محطات تحلية المياه بالطاقة الشمسية في العقبة رغم استعداد المستثمرين لذلك. وهناك إصرار على عدم إنشاء سكة حديد ونقل عام منظم رغم استعداد المستثمرين للدخول في شراكة مع الحكومة في هذه المشاريع الكبرى. وفي نفس الوقت هناك إضطرار وإصرار على الاستمرار في الاقتراض وزيادة الدين العام. وهناك دعوة للمستثمرين و محاولة لاجتذابهم. و هذا أمر جيد و صحيح و يستحق الثناء، و لكننا في نفس الوقت لا نحاول حل مشكلات مئات المصانع التي أغلقت أبوابها و أطلقت عمالها لسبب أو لآخر. ويستمر القضاء على حاله دون تعزيز و مساندة، وتتصاعد تكاليف الطاقة والنقل والمياه بمعدات غير مقنعة. وكل ذلك كفيل بدفع المستثمر إلى التردد. هل تتوقع الحكومات العربية، ونحن منها، أن تصل الأجيال إلى مستقبل مزدهر مشرق فقط بالقفز عن كل مرحلة واجبة التنفيذ؟ وغض النظر عنها ؟ذلك نوع من الوهم الذي يجب التخلص منه. تلك هي المسألة.