إصلاح التعليم… مشروع دولة/ القبول في الجامعات والتخصصات (2/2)

مرة ثانية فإن قبول الطلبة في الجامعات الرسمية في التخصصات التي يرغبونها ما تزال مشكلة تتجدد كل عام، ولكن بحجم أكبر، وينشغل بها الطلبة وذووهم والإدارة العليا في التعليم العالي وفي الجامعات. وتمر أيام كلها توتر، ينتظر فيها الطلبة ماذا سوف يعطيهم مكتب القبول الموحد، وفي أي جامعة رسمية؟ وفي أي تخصص؟ وهل هناك فرصة لمكرمة؟ أو إمكانية لدخول الموازي؟ أم القبول بما يأتي دون اعتراض؟ إن الأمل والغاية لدى الكثيرين من الطلبة وذويهم يتمثل بالشهادة الجامعية.
لقد أدت الارتباكات والتغييرات المستمرة في أسس القبول في الجامعات إلى التحاق كثير من الطلبة في تخصصات لا يرغبونها أو لا تتوفر لديهم القدرات اللازمة للتفوق والإبداع فيها أو يخرجون للدراسة في جامعات أجنبية كثيرا ما تكون في مستوى أدنى من المطلوب. وقد ترك هذا الأمر آثارا سيئة على نوعية القوى البشرية أو رأس المال البشري والذي هو أساس التقدم في الدول الحديثة. فالحكومات وإداراتها ما زالت تنظر إلى الطالب أنه “مجرد طالب” يريد أن يتعلم وينظر إلى التخصص “أنه مجرد تخصص” في الجامعة وهذه النظرة تغفل أمرا بالغ الخطورة ألا وهو: “إن هذا الطالب خلال ربما عشر سنوات سيكون مسؤولا في إدارة حكومية أو خاصة وأنه ما ان يلتحق بالعمل بعد سنوات الدراسة الأربع أو الخمس حتى يصبح جزءا من ماكينة صنع القرار وماكينة الإنتاج في القطاع الذي سوف يلتحق فيه. ومن هنا وحين تكون أسس القبول قائمة بدرجة كبرى على استرضاء المواطنين ومجرد احتواء أو استيعاب الطلبة وليس التعليم النوعي المتميز حسب قدرات الطالب وإمكاناته واهتماماته فكأن الجامعات تضخ سنويا آلاف الخريجين الذين درسوا غير ما يرغبون فيه أو تخصصوا في مواد لا يمتلكون القدرات اللازمة لها بكل ما يعني ذلك من ضعف في الأداء وعدم الاكتراث وغياب الابتكار والإبداع والقدرة على المنافسة وهو ما نراه في كثير من المؤسسات. فإذا أضفنا إلى ذلك هجرة الخبرات والعقول والمهارات إلى الخارج بسبب ضيق فرص العمل وبطء النمو الاقتصادي فإن النتيجة تكون استنزاف رأس المال البشري الوطني إلى حد كبير.
وبالمقابل، إذا أخذنا حالة الدول في أوروبا وأميركا والكثير من دول العالم نجد أن القبول في الجامعات ليس بالمشكلة بمثل هذه الملابسات التي لدينا. إذ يتقدم الطالب هناك إلى الجامعة التي يريد، والتخصص الذي يرغبه، والجامعة وحدها تقرر القبول مباشرة أو امتحان القبول أو عدم القبول بذلك بناء على الإمكانات العلمية ومدى تواؤم قدرات الطالب مع التخصص الذي يريد والمقاعد الجامعية المتاحة. يتم ذلك بهدوء ودون توتر أو انتظار يملؤه القلق والتوقعات. وإذا لم تقبله جامعة معينة يتقدم إلى أخرى حتى يحقق ما يريد.
ومن هنا وبعد أن وصل أعداد الطلبة الدارسين في الجامعات الأردنية إلى أكثر من (320) ألف طالب وطالبة وتوسعت التخصصات في كل اتجاه، وتوسعت الاستثناءات من المنافسة العادلة بين الطلبة حتى وصل الاستثناء الرسمي منها إلى (49 %) من المقاعد الجامعية المتاحة، فإن الخروج من هذه المشكلة من خلال حل دائم وعادل ومستقر، لا يتغير من عام إلى آخر، ومن وزارة إلى أخرى، أصبح مسألة عاجلة وضرورية على طريق إعادة التوازن والهدوء إلى المجتمع، وإلى الإدارات الحكومية والجامعية، وإلى قطاع التعليم العالي بكامله، حتى تتاح الفرصة لكي يركز كل طرف على القضايا الأخرى المتعلقة بنوعية التعليم وجودته، ومستوى الخريجين وإمكاناتهم التي تتطلب الانتباه والمعالجة.
وفي معظم الدراسات السابقة الخاصة بالتعليم العالي وفي جميع الاستراتيجيات الوطنية التي تم وضعها خلال السنوات العديدة الماضية، وردت اقتراحات بتغيير أسس القبول في الجامعات كما ورد ذلك في نشرات حقوق الإنسان.
ومن هنا فإن قواعد جديدة للقبول في الجامعات نادت بها الاستراتيجيات السابقة (ولم تنفذ)، ونادت بها الاستراتيجية الوطنية لتنمية الموارد البشرية، لا بد من اعتمادها لتكون مستقرة دائما ويجري تنفيذها على مدى (7) سنوات وربما في الإطار التالي:
أولاً: إن الفيصل في القبول هو العدالة والمساواة بين الطلبة من جهة، والمحافظة على نوعية التعليم وجودته في أبعاده العلمية والتربوية والبحثية والمهاراتية من جهة ثانية، واعتبار أن طالب اليوم هو صانع القرار بعد سنوات قليلة من جهة ثالثة. ثانياً: ان تلتزم كل جامعة، بكل شفافية وإخلاص، بقبول العدد من الطلبة الملائم للمرافق القائمة لديها من مختبرات وقاعات ومشاغل وملاعب ومساحات، والمتوافق مع أعداد الهيئة الأكاديمية في التخصص، بحيث لا تزيد نسبة الطلبة إلى الأساتذة على (20) إلى (1) ، وأقل من ذلك في بعض التخصصات. أي حسب طاقتها الاستيعابية المعروفة والمعلنة والمتوافقة مع معايير هيئة الاعتماد. ثالثاً: أن يكون قرار القبول خاصا بالجامعة نفسها، والتي ستكون موضع مسؤولية ومحاسبة عن نوعية التعليم ونوعية الخريجين، وذلك وفق (3) معايير واضحة: أولها: الطاقة الاستيعابية في كل تخصص والتي يجب أن تكون معلنة.
وثانيها: العلامة الخاصة بالدراسة الثانوية (التوجيهي وغيره) لغايات المفاضلة بين الطلبة المتقدمين. وثالثها: امتحان القدرات للتخصص الذي يرغب فيه الطالب والذي تجريه الجامعة أو مركز وطني متخصص.الرابع: تحويل الاستثناءات والمكرمات من مقاعد إلى منح، بحيث تتمتع كل فئة لديها اليوم استثناء أو مكرمة لأبنائها وبناتها من التنافس العلمي مع زملائهم، إلى منح دراسية تعطى لهم على ضوء نتائج التنافس، بل ويمكن زيادة المنح. وبذا يتحمل الطالب والمدرسة مسؤولية الاجتهاد والإنجاز، ولا يكون الجانب المالي عائقا أمام الطلبة المجدين المجتهدين.
وإذا احتسبنا أن أعضاء الهيئة الأكاديمية في الجامعات الرسمية تقترب من (7500) أكاديمي فإن القبول في هذه الجامعات يتوقع أن يكون في حدود (35) ألف طالب. وهذا يعادل (50 %) من الطلبة المتقدمين للجامعات. وهنا يبرز دور الجامعات الخاصة باعتبارها الجزء المكمل للمنظومة الوطنية للتعليم العالي.
الخامس: أن يتم إلغاء الموازي على مدى (7) سنوات. بمعنى أن تتوقف الجامعات عن قبول الطلبة الجدد في المسار الموازي ابتداء من السنة الدراسية القادمة، وتستمر مع الطلبة الذي بدأوا بذلك قبل عام وإلى أن يتخرجوا من الجامعة. السادس: أن تقرر الجامعة نفسها وفق معايير إرشادية متفق عليها بين الجامعات أية تخصصات بحاجة إلى سنة تحضيرية وما هي المواد وكافة التفاصيل المتعلقة بذلك.السابع: الخروج من أن تكون علامة امتحان التوجيهي وحيدة ومفردة هي المعيار للتنافس، وإنما تستمر المحافظة على التوجيهي كامتحان وطني، ولكن يجري تخفيض علامته لغايات التنافس تدريجيا وعلى مدى (5) سنوات لتستقر عند (60 %)، بينما يتم تخصيص (20 %) لنتائج أداء الطلبة في المدرسة محسوبة للسنتين الأخيرتين. وتخصص (20 %) لامتحان القدرات حسب الكلية التي يرغب فيها الطالب.
هذا البرنامج الذي سبق إقرار معظم مفرداته في الكثير من الدراسات والتقارير والاستراتيجيات، وبالترافق مع “برنامج تمويل التعليم العالي” الذي قدمناه في مقالة سابقة، لا يحتملا التأجيل والترحيل، لأن كل تلكؤ وتباطؤ يعني حيودا عن مبدأ العدالة والإنصاف، ويعني استمرار الارتباك في الأداء الكلي لمنظومة التعليم العالي، وتواصل الضعف والتراجع للخريجين في أي موقع يوصلهم المستقبل إليه.