أزمة التمويل . الاقتراض أو المواطن

تعاني البلدان ذات الاقتصادات الصغيرة ونحن منها من مشكلات إقتصادية و مالية كثيرة ،يأتي في مقدمتها تمويل المشاريع الانتاجية التي تحمل معها فرص عمل جديدة، وتمويل الخدمات الاساسية كالتعليم والصحة. وحقيقة الامر أن الدول التي نجحت في تجاوز هذه المشكلات هي التي كانت لديها اساليب مبتكرة بعيدا عن التقليد والمقاربات السهلة.
لقد كانت اسوأ الحلول تلك التي تقوم على الاقتراض و بالتالي زيادة عبء المديونية ،أو تعتمد على جيب المواطن دون تأهيله لذلك. الأمر الذي يؤدي الى فقدان الثقة ،وتدني الخدمات، وضآلة الاستثمار ،وتراجع الاقتصاد ، وارتفاع موجة التذمر الاجتماعي. ونذكر هنا موضوعين رئيسين: الأول تمويل التعليم العالي ،والثاني تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
ففي تمويل التعليم العالي كانت الدولة منذ اكثر من 30 سنة قد اصدرت قانون ضريبة الجامعات لتمويل الجامعات الرسمية على اساس ان يتم تحصيل مبالغ محددة على العمليات الحكومية ليذهب عائد الضريبة الى الجامعات الرسمية. ولسبب غير مفهوم وحكمة غامضة قررت احدى الحكومات ان تذهب العائدات الى الخزينة مباشرة، وتدفع الحكومة للجامعات الأموال حسب احتياجاتها. وبطبيعة الحال وبسبب الأزمة المالية المزمنة تراجعت الحكومة عن دفع كامل العائدات ،واصبحت الجامعات الرسمية تتضخم في الاعداد وتتناقص فيها المرافق، و تتضاءل البعثات ،و تقل أعداد الاساتذة في وسط ازمة مالية دائمة .ولكي تحل هذه الازمة جزئيا ،ذهبت الجامعة الأردنية مؤخرا الى رفع رسوم التعليم بنسب كبيرة (الضعف) ومرة واحدة. وهذا المدخل في المعالجة غير مجد ولا ناجع لحل مشكلة تمويل التعليم .
ان تجارب الدول الاخرى تبين بوضوح، ان الاعتماد على الرسوم الجامعية غير كاف، وان الحل يكمن في المدخل الاجتماعي-الإقتصادي البعيد المدى، وعلى النحو التالي: أولاً: تعود ضريبة الجامعات لتكون في حساب مستقل لا تأخذ منه الخزينة أي شيء، باعتباره مشاركة الشعب في تمويل التعليم العالي. ويتم توزيع حصيلة الضريبة بين الجامعات وفق معادلة مناسبة. ثانياً: ان الارتفاع المتزايد في تكاليف التعليم من جهة ، و تزايد اعداد الطابة من جهة ثانية، لن يمكن الجامعات من الارتقاء بالتعليم إلى المستوى المطلوب دون توفير اموال جديدة. ثالثا إن مساهمة الطالب في تكاليف تعليمه مسألة لا بد منها في ظروف الأردن. ولكن الدولة ينبغي أن تساعد الطالب على توفير هذه المساهمة. رابعا: وهنا لا بد من انشاء بنك التعليم برأسمال مناسب ربما في حدود (250) مليون دينار تساهم فيه الحكومة والمؤسسات المالية المحلية والدولية. ويتولى البنك اعطاء قروض ميسرة تماما للطلبة، ليدفعوا رسوم دراستهم من القروض، مع فترة سماح لا تقل عن 8 سنوات. يبدأ الطالب بتسديد القرض الذي اخذه من البنك بعد التحاقه بالعمل ،.خامسا: لا بد من انشاء صناديق استثمار ووقفيات للجامعات جميعها رسمية أو خاصة ،تساهم فيها الدولة ،وتساهم فيه الشركات والمؤسسات الكبيرة و الأفراد . ويتم بناء الوقفيات و الصناديق على مدى سنوات، وتستفيد الجا معة من عائدات الوقفية والاستثمار دون التصرف بالاصول. سادساً: إن أي تغيير في قيمة الرسوم يجب ان يتم بالتدريج وعلى عدة سنوات، وبعد اعلام المجتمع بذلك. اما التغييرات الفجائية والسريعة والعالية ،فهي دائما محل رفض وتذمر.
بهذه الحزمة المتكاملة يمكن للجامعة ان تطمئن إلى وارداتها، وتحافظ على مستوى التعليم النوعي و تحسن من ادائها ،دون ارهاق الطلبة وذويهم دون مبرر.
و الموضوع الثاني هو تمويل المشاريع الصغيرة و المتوسطة والتي تجد صعوبات كبيرة في التمويل لان البنوك تفضل التعامل مع “الزبائن السمان” بدلا من “العصافير الهزيلة”. هذا على الرغم من ان اكثر من 90% من الاعمال والمشاريع لدينا تندرج تحت مظلة المشاريع الصغيرة وقليل منها المتوسطة. ومرة ثانية تقف الحكومة حائرة متفرجة رغم ان تجارب الامم واسعة و غنية في هذا المجال. لماذا لا تستفيد الحكومة من التجارب الناجحة في كثير من البلدان ابتداء من امريكا و كندا والسويد والدنمارك ،وانتهاء بالهند والباكستان وبنغلادش؟، فتعمل على إنشاء بنوك متخصصة تكون لها مكاتب في المحافظات لتمويل المشاريع الصغيرة و المتوسطة، تساهم فيها الحكومة و المؤسسات المالية المختلفة؟
كيف تتوقع الحكومة ان تنمو الصناعة و الزراعة والسياحة و غيرها ،ويزدهر الاستثمار في المشاريع الانتاجية، وتتوسع فرص العمل و تتضاءل البطالة في الأرياف و الأطراف دون توفير وسائط التمويل المتخصصة؟ كان لدينا بنك الانماء الصناعي وقام بدوره لسنوات طويلة بشكل ناجح، ثم باعته الحكومة في اطار الخصخصة التيلم توفق في فهمها أو تطبيقها. ورغم المطالبات الكثيرة باعادة انشاء بنك صناعي جديد او بنك للانماء الصناعي فإن الحكومات المتعاقبة، ولحكمة لا يعرفها المواطنون، لا تعير الموضوع أي اهتمام. هذا على الرغم من أن البنك كان يحصل على أموال ميسرة و منح و يقرض بفوائد معقولة.
يتمنى المواطن لو يدخل في عقل “الادارة” ليعرف كيف تفكر ازاء هذه المسائل الحيوية؟ هل تستطيع الحكومة بالاقتراض والديون المتصاعدة ان تنفق 600 مليون دينار سنويا على التعليم العالي؟ وهل تستطيع ان تواجه متطلبات الارتفاع في تكاليف التعليم والمتوقع أن تتجاوز 1000 مليون دينار خلال بضع سنوات؟ أم هل تعتقد أن المواطن سيقبل مضاعفة الرسوم و هو لا يساعده أحد في تدبيرها؟ هل يضايقها انشاء وقفيات لجميع الجامعات على غرار ما نراه في امريكا واوروبا والكثير من دول العالم ؟ هل يزعجها وجود بنوك متخصصة لتمويل المشاريع و لتنمية الصناعة والاستجابة لطلبات صغار المستثمرين في المشاريع الصغيرة؟ كيف ستواجه الدولة مسؤوليتها في هذا الشأن؟
إن القاعدة الذهبية في الأعمال و الإقتصاد تقول :أن كل نوع من النشاط له أساليبه و مؤسساته الأفضل في التمويل .كما إن جميع البلدان غير الغنية ذات الإقتصادات الضعيفة ،والتي تركت موضوع التمويل معتمدا على خزينة الدولة ،دون آليات اجتماعية اقتصادية سليمة وطويلة الامد، اخفقت في غاياتها و فشلت في مشاريعها و ازدحمت جامعاتها و تراجع التعليم فيها (مصر نموذجاً) ،وتراجعت فيها المشاريع.
ان المستقبل يحمل ارتفاعات متواصلة في كلفة التعليم الاساسي والعالي، وفي كلفة الاستثمار للمشاريع الصغيرة و المتوسطة،وإن الاعتماد على جيب المواطن ليدفع اكثر او الاقتراض لترفع الدولة من مديونيتها ،لن يساعد شيئا في مواجهة المتطلبات اللازمة للاستمرار والنهوض والتقدم .فالمواطن يقول دائما :ساعدني لكي اساعدك.