لعل وصفي التل، هو من أكثر رؤساء الوزراء الراحلين الذين لا تزال ذكراهم ماثلة في عقول الأردنيين وضمائرهم، على الرغم من أن الرجل كان خلافيا إلى درجة كبيرة، وكانت مواقفه و قراراته وسياساته وأفكاره بل وشخصيته، محل نقاش وجدال وقبول ورفض. ومع ذلك، و رغم مرور 44 سنة على اغتياله فلا زال الحديث عنه لم ينقطع. لماذا هذا الاهتمام؟؟ هناك أسباب كبيرة ربطت الأردنيين بوصفي التل لعل من أهمها أولاً: على المستوى الشعبي كان يشعر الجميع أن وصفي ابن لهذا الشعب . وهو من نسيج القرية والمدينة، و فلاح مخلص لكل جبالها و وديانها.و لكنه ينعم بالحكمة والدراية و الدهاء. لم تفصله السياسة ولا الرياسة عن صلته بالناس، وعن التلقائية و البساطة في سلوكه، سواء من حيث الاهتمام بكل ما له صلة بالإنسان العادي، أو بإدارة الحكومة و مؤسساتها. ثانياً: انه كان “رجل دولة”، وليس مجرد مسئول وصل إلى رتبة رئيس وزراء. كان يرى الدولة الأردنية بتفاصيلها و مفاصلها أمام عينيه، و تتابعه في عقله وضميره، ويتحرك في سياساته من هذا المنظور. فكان يشعر أن التغيير و التحديث، والانتقال بالدولة من حالة الاعتماد على الآخرين إلى الاستقلال العميق المتجذر والاعتماد على الذات هي من مسؤولياته. كان لديه حلم يعمل على تحقيقه، وهو أن تكون الدولة الأردنية في المقدمة، سواء في التعليم أو الاقتصاد أو الصناعة أو الزراعة،بل و حتى الطبيعة. فلم يكن سعيداً برؤية الجبال والروابي و الوديان الجرداء تأكلها الصخور والرياح في كل مكان .ولذلك انطلق في برامج التشجير في كل بقعة أمكن الوصول إليها، وسخر لهذه الغاية قوى الشباب في المدارس و المعاهد والقوات المسلحة. وأطلق معسكرات الشباب التي كان يراها،و بتأثير خلفيته العسكرية،الأداة الرئيسية لاكتسابهم القوة والانضباط و الالتزام، و روح الفريق و خدمة المجتمع، و الإرتباط بالوطن و كسر الحواجز النفسية والجهوية . ثالثاً: كان مؤمناً بالدولة الأردنية كبنيان سياسي قادر على الصمود والنهوض وقادرً على أن يكون له دوره في النهضة العربية.و كان يستشير من يأنس فيهم العلم والعقل والخبرة و يستعين بهم. لم تكن لديه عقدة الوطن الهش والوطن الصغير، وإنما كان يؤمن بثقة تامة أن الأردنيين قادرون على صنع وطن ودولة لها وجودها ومستقبلها المستقر. رابعاً: كان عروبيا بكل معنى الكلمة. يؤمن بالوحدة العربية كسيرورة سياسية اجتماعية تطورية، وبالمصير المشترك للمنطقة العربية. ولكنه كان عروبيا مستنيرا واقعيا. بمعنى أنه يدرك أن الدولة الوطنية القوية المستقلة هي شرط من شروط بناء الدولة العربية الكبيرة. ولم تكن تسيطر عليه فكرة التضاد بين الوطنية والقومية. ولذا لم ينظر إلى الأردن على أنها الدولة القطرية غير القادرة على الحياة كما كان يتوهم كثيرون من القوميين، بل كان يرى العكس هو الصحيح. وهذا النظرة المستنيرة هي أكثر ما يحتاج إليه السياسيون والمفكرون العرب حتى يومنا هذا. خامساً: الرؤية المستقبلية. إذ كان يشعر الأردنيون أن وصفي التل لم يكن يسير أعمال الدولة يوما بيوم، وإنما لديه رؤية مستقبلية يعمل على تحقيقها، سواء في بناء الدولة وترسيخ مؤسساتها ،أو في تنظيم الحياة السياسية، مثل العمل على إنشاء “الاتحاد الوطني العربي” ليجتمع فيه المواطنون على رؤية واحدة. رؤية مرتبطة بالوطن الأردن العروبي وليس بأية قوى أو أحزاب خارجية. سادساً: كان الأردنيون يرون فيه الرجل الشجاع، يقول رأيه بصراحة أمام الملك و أمام الناس، و يحذر عندما ينبغي التحذير. لا يخشى المواجهة، ولا يتردد من المخاطرة حتى الموت. وكان يذكر احتمال اغتياله كما سبقه في ذلك الدرب هزاع المجالي. وهو إذا توفرت لديه القناعة يتحرك بثبات وجرأة ولا يعبأ كثيرا بالمنصب أو الامتيازات أو الأقارب حتى لو كان عم له في السجن، خاصة وأنه لم تكن تعنيه المكاسب فارتحل وهو لا يملك إلا القليل. سابعاً: كان يؤمن أن الاقتصاد يجب أن يخدم المجتمع بفئاته العريضة، وان لا تكون المكاسب الاقتصادية محصورة على الأقلية. لم يكن اشتراكيا أبدا،بل كان إجتماعيا. وكان ملكيا حتى العظم، يؤمن بالملكية الهاشمية. ولكنه مستعد لتحمل المسؤولية بكاملها، حتى يبقى الملك هو الحكم النهائي، والمرجع الذي لا يتم إشغاله في التفاصيل، والملاذ الأخير للمواطنين جميعاً. وكان يريد للنشاط الاقتصادي أن يصل القرى والأرياف. وهو اقرب ما يكون للاقتصاد الاجتماعي ثامناً: كان وصفي التل مثقفا ومفكرا متميزا. فلم تكن نظرته لما يعرض عليه نظرة البيروقراطي أو السياسي التقليدي، و إنما كان يبحث في المرامي والغايات والتأثيرات الاجتماعية والثقافية. ولذلك كان التعليم والجيش بالنسبة إليه المرتكز الرئيسي لمستقبل الدولة الأردنية . و لذا كان من الداعمين لإنشاء الجامعة الأردنية في وزارته الأولى. وهو الذي اهتم بالشباب والثقافة و الإعلام. كيف لا؟ وهو خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، وواحد من الثلاثة الأوائل في مدرسة السلط الثانوية: خليل السالم وحمد الفرحان ووصفي التل.
لقد اختطف الموت المفاجئ عبد الحميد شرف، و اغتالت يد الغدر كلا من هزاع المجالي و وصفى التل، وحتى اليوم لا زالت هناك بعض ظلال غامضة حول الإغتيال و من كان وراءه.
و سواء اختلف الناس أو اتفقوا مع آرائهم، فقد كان الثلاثة رجال دولة بكل جدارة واستحقاق، و كانوا شموعا استضاء الأردن بنورها لفترات قصيرة، رغم الرياح العاتية التي كانت تسعى لإطفائها. فجعل ذلك منهم محل الذكرى الدائمة، والنموذج المحرك للتغيير، والقدوة المنشودة للبناء. مثل هؤلاء يصنعون المستقبل ،ويبعثون الأمل ،ويساهمون في إذكاء الروح الوطنية…. حتى بعد سنوات و سنوات من الرحيل.