بدخول مفتشي الأمم المتحدة العاصمة دمشق، وبدء برنامج تدمير الأسلحة الكيماوية، ربما يكون الوضع في سوريا قد اقترب من المحطة قبل الأخيرة، في مسيرة شاقة مؤلمة لم تعرف الديموقراطية، امتدت أكثر من (43) سنة . لقد وافق النظام على تدمير الأسلحة الكيماوية مرغما، تحت تهديد القوة الأمريكية والأوروبية، و”التوافق المبهم” بين روسيا و أمريكا. وكان واحداً من الأسباب الرئيسية التي أخرت الضربة العسكرية الغربية، وجود الأسلحة الكيماوية تحت تصرف النظام وفي مخازنه السرية العديدة. وكما حدث في العراق تماماً، كانت الخشية هي أن يلجأ النظام، في حالة من اليأس، إلى استخدام الأسلحة الكيماوية إما ضد تجمعات سكانية سورية، وإما ضد إسرائيل، باعتبارها الخاصرة الضعفية في الجسم الأمريكي. ولذك كان لابد من استدراج بشار الأسد كما تم استدراج صدام حسين خطوة خطوة لنزع أسلحته الفتاكة يرافقها تنازلات سياسية تنتهي بانتهاء اعهد بأكمله. وكما هو الحال دائماً، فإن الحكام الفرديين والأنظمة التسلطية، لا تقرأ التاريخ ولا تتعظ به. وكل نظام يتراءى له أنه مختلف عن الآخرين، وأكثر حكمة وذكاء منهم . فقد سلم حتى الآن من الضربة القاضية التي أطاحت بهم .
والحكم في سوريا يبدو انه لا يدرك حتى الآن، أن البساط ينسحب تدريجياً من تحت أقدامه حتى بدون ضربة عسكرية أو لجوء للفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن. ذلك أن مجرد استمرار الحرب والقتل والدمار في طول البلاد و عرضها مدة سنتين ونصف، تم خلالها قتل مئات الآلاف، وتهجير ملايين المواطنين، وتدمير الاقتصاد والمنشآت، بما يزيد عن (65) مليار دولار، وإنهاك الجيش السوري وتقسيمه، ودخول عشرات الآلاف من المقاتلين والمرتزقة والمتطرفين والعملاء والمغامرين والجواسيس، كل ذلك جعل النظام يتآكل ليصبح هيكلاً عظمياً .
والسؤال لدى روسيا وايران الآن : من الذي سيبقى حليفاً لنظام متآكل دمر بلده و نفسه؟ فهو “لا يستطيع أن يحكم إذا بقى، ولا يستطيع أن يبقى إذا حكم.” ؟ لقد أخذ حلفاء النظام يبحثون تدريجياً عن مخارج للتحلل من هذا التحالف، وهم يراقبون الآن وينقبون للتعرف على من سيأتي بعد بشار الأسد حتى يتصرفوا في الوقت المناسب. والملاحظ أن الحماسة التي كانت تتحدث فيها كل من روسيا وايران عن النظام قد تضاءلت، وان روحاني بخلفيته السياسية والمخابراتية اكتشف أن التحالف الإستراتيجي مع نظام الحكم في سوريا هو نوع من الوهم. فلا الأسد يستطيع أن يحمي نفسه، ولا هو يستطيع أن يقدم لايران شيئاً بالمقابل . إن النظام أخذ يتعثر ولذا يحاول روحاني القفز الى الجانب الآخر و مغادرة السفينة قبل أن تغرق، ليبدأ مرحلة تفاهم استراتيجي حقيقي مع أمريكا قد تمتد الى عشرات السنين،و تعيد لإيران بعضا من الحيوية المفقودة في اقتصادها المتيبس الذي تقاطعه عشرات الدول.
ومرة أخرى، من هو المستفيد الأكبر من كل ما يجري ؟ الجواب اسرائيل أولاً وأخيراً. فقد كاد لها أن يتحقق تدمير سوريا الدولة، وإنهاكها إلى ما يقرب من الانهيار،و كاد أن يتحقق لها تمزيق سوريا الشعب. ورافق ذلك استنزاف الجيش السوري وانقسام الناس حوله، وفوق كل ذلك تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية التي كانت واحدة من أهم أدوات الردع ضد اسرائيل. لم يبق بيد الجيش السوري سوى الأسلحة الجرثومية، وهذه سوف تتلو الأسلحة الكيماوية خلال اشهر. وبذا تصبح الساحة السورية خالية من أي تهديد يمكن أن توجهه لاسرائيل مباشرة، و بالتالي لا خوف من توجيه ضربة عسكرية في أي وقت. أما التنازل عن الحكم والسلطة من أجل أبناء الشعب وكرامتهم، و صيانة لما تبقى من مقدرات الوطن، فهذا لا يعني للحاكمين شيئاً.
يراهن الأسد على بقائه حتى عام 2014، عام الانتخابات، وهو قد يرشح نفسه وقد لا يفعل. ولكن الإشكال ليس فقط في ذات الشخص وانما في بنية النظام الحاكم الذي لا يستطيع أن يعود الى سوريا من نافذة الانتخابات. لقد تغير الزمان والمكان، وتداعى البنيان، و ربما لم يبق إلا المحطة الأخيرة .