تحتل مسألة الفقر موقعا مهما في نشاطات دول العالم باعتبار أن الفقر “ يمثل حالة من عدم الإنصاف في المجتمع، ويتأتى عنه حرمان الشرائح الفقيرة من المفردات الإنسانية الأساسية وفي مقدمتها الحياة الكريمة والتعليم والحق في المشاركة”. وظاهرة الفقر موجودة في جميع دول العالم تقريباً، ولكن بنسب مختلفة ووفق معايير متباينة تعتمد على متوسط دخل الفرد، ومستوى الأسعار وعلى حجم الضمانات الاجتماعية التي تقدمها الحكومة ومؤسساتها. وبالنسبة لنا في الأردن فإن التقارير غير الرسمية ومنها تصريح لنائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية تشير إلى أن نسبة الفقر 24.1 % وتعطي بعض التقارير الدولية أرقاما أعلى. وهذا يعني أن ربع السكان أي 2.8 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر. بمعنى انهم غير قادرين على توفير الحد الأدنى المطلوب للحياة الكريمة اجتماعياً والمرغوب فيه من مستوى المعيشة. اما الفقر المدقع فإن النسبة حسب بعض التقارير تصل إلى 10 % أو ما يزيد على مليون مواطن ومقيم. ويصاحب الفقر كما هو معلوم الكثير من الإشكالات الصحية والاجتماعية والنفسية والتعليمية والأمنية والثقافية والإنسانية . وإذا نظرنا إلى الدول العربية غير النفطية سنجد نسب الفقر مرتفعة فيها جميعها. ففي مصر تصل نسبة الفقر إلى 35.7 % أي ما يقرب من 40 مليون إنسان وفي سورية تجاوزت 69 % أي 14.5 مليون نسمة وفي السعودية 13.5 % وغيرها. مع التأكيد على أن هذه الأرقام تختلف من تقرير لآخر حسب مستوى الدخل الذي تبنى عليه الحسابات: 2.15 دولار للفرد يوميا أو 3.65 دولار أو 6.85 دولار يوميا. والسؤال هل هناك حلول لمشكلات الفقر غير المعونات والمساعدات والتي تيسر المعيشة ولكنها لا تخرج الفقير من دائرة الفقر؟ هل هناك آليات اجتماعية اقتصادية لإخراج الناس من حفرة الفقر؟ الإجابة نعم. فهناك بلدان عديدة منها الهند والصين وماليزيا وبنغلادش استطاعت أن تقلص من حجم الفقر لديها بنسب كبيرة. فنسبة الفقر في الهند اليوم 11.3 % بعد أن كانت أضعاف ذلك قبل سنوات. أما الصين فقد انخفضت نسبة الفقر فيها من 88 % عام 1981 إلى 1 % عام 2015 .
تحقق ذلك حين أخذت الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والرواد الاجتماعيين الاقتصاديين موضوع الفقر بكل جدية، واعتبروا تقليص الفقر واحدة من الأولويات الوطنية الكبرى. ومع أن ضعف النمو الاقتصادي يمثل واحدا من الأسباب الرئيسية لاستمرار الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى، إلا أن تقليص الفقر يتطلب برامج تنفيذية جادة ومحددة تتناول مختلف الأبعاد ذات العلاقة ومنها: اولاً:إجراء دراسات اجتماعية اقتصادية تكنولوجبة مهنية دقيقة وموثقة بالأرقام للحالة، حتى يمكن وضع الحلول المناسبة. ثانياً: الدفع المتواصل للاستثمار في المشاريع الإنتاجية التي تتطلب أيد عاملة، وتقديم التسهيلات المالية والإجرائية والضريبية لها. ثالثاً: توزيع المشاريع الإنتاجية في المحافظات وجغرافيا لتشمل المناطق الأعلى في البطالة وبالتالي جيوب الفقر. رابعاً: وضع ضوابط للاستيراد بحيث يتم تشجيع الصناعات المحلية لتحل محل جزء من المستوردات وخاصة الصناعات الصغيرة والخفيفة التي لا تحتاج إلى الاستثمارات الكبيرة والتكنولوجيات المعقدة. خامساً: إعادة النظر في أساليب تمويل المشاريع الصغيرة والصغيرة جداً وهنا يمكن الإفادة من تجربة “محمد يونس” في بنغلادش.
إذ لاحظ استاذ الاقتصاد البنغالي محمد يونس أن الكثير من الفقراء قادرون على الخروج من دائرة الفقر إذا اتيح لهم تمويل مشاريعهم الصغيرة جدا، وتبين أن عقدة التمويل للنساء هناك وخاصة في القرى هي عدم إمكانية توفير الضمانات مقابل القروض. فبدأ بمشروع تقديم قروض صغيرة للنساء وخاصة في الأرياف دون ضمانات ولكن مع متابعة حثيثة للتسديد من خلال جمعيات محلية. وكان النجاح في هذه السياسة مرتفعا وبنسبة 96 %. وتشجع محمد يونس فأنشأ بنك “جرامين للفقراء” للقروض الصغيرة جداً، وساهمت الحكومة البنغالية بنسبة متواضعة، ولكن وجود الشراكة الحكومية كان مهماً. وتوسع بنك الفقراء وفتح فروعاً في 40 منطقة وله 2568 مكتبا فرعيا وعدد موظفيه 22 ألف موظف واستفاد من خدماته ملايين البنغاليين، وطور من أعماله فأصبح يقدم قروضا تعليمية لأبناء وبنات الفقراء وقروضا للمشاريع الريادية والمشاريع الصغيرة المتعثرة وغيرها. وتقاعد محمد يونس من عمله عندما بلغ السن القانونية. ومع هذا فإن الجماهير البنغالية عادت إليه قبل ثلاثة أسابيع في 22 آب 2024 وهو في الرابعة والثمانين من العمر ليتولى رئاسة وزراء بنغلادش، بعد أن ثار البنغاليون على رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسنة التي تركت البلد هاربة إلى الهند. إن الإشكال الكبير في إدارة الدولة حين “يألف المسؤول الحالة مهما كانت سيئة، ويألف الرقم المرتفع فلا يصدمه، وتصبح المسألة بكاملها عادية..”.
إن التمكين الاقتصادي للمرأة والذي يؤكد عليه جلالة الملك في كل مناسبة لايتحقق الا من خلال تمكينها من مزيد من المشاريع خاصة وان المرأة الأردنية لها حصة في التعليم مثل الذكور. ولا شك أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات اليوم تيسر من تمكين المرأة بانخراطها في أعمال ومشاريع إنتاجية صغيرة أو حتى مشاريع تستخدم التكنولوجيا الرقمية دون الحاجة دائما إلى الانتقال من مكان إلى آخر، وبذا يمكن رفع مساهمة المرأة الأردنية في سوق العمل من 15 % إلى 30 أو 40 %.
وأخيرا فإن الوسائل متاحة وتجارب الأمم غنية، ولكن المطلوب أن ننظر إلى مسألة الفقر والبطالة بكل الجدية التي تستحق، ولا ننتظر المشاريع الضخمة التي تحتاج إلى مئات الملايين من الدنانير من مستثمرين من الخارج. فالمشاريع الصغيرة هي العمود الفقري للاقتصاد والإنتاج والتشغيل وتقليص الفقر إلى أدنى الحدود.