يعيد بنيامين نتنياهو على دونالد ترمب ذات القصة التي كان يرددها شارون على جورج بوش الابن، ويضغط من خلالها اللوبي الصهيوني على الرئيس الأمريكي باتجاه الحرب. ومن خلال وثائق سرية مفبركة بالتواطؤ مع وكالة الاستخبارات الأمريكية نقل شارون صورة مضخمة، ولا نصيب لها في الواقع، عن أسلحة الدمار الشامل لدى العراق في عام 2003، وبالتالي التهديد الذي تواجهه اسرائيل من العراق آنذاك، وانه إذا لم تتم مهاجمة العراق وتفكيك قوته العسكرية، فإن اسرائيل مهددة بالزوال. وقبل جورج بوش الفكرة وأيده توني بلير، رغم أن جميع المؤسسات الدولية، والتقارير المحايدة نفت وجود أسلحة تدمير شامل في العراق حينئذ.
واليوم يكرر نتنياهو نفس المسرحية أزاء ايران، ولكن الهدف البعيد العميق لليمين الصهيوني أبعد من إيران. صحيح أن ايران تتدخل بشكل مؤذ في الشأن العربي دون مبرر، ودون مراعاة لأصول حسن الجوار، فهي تمد الحوثيين بالمال والسلاح والتدريب، وتضغط على البحرين، وتحتكر العراق سياسيا وتجاريا، ولها نفوذها وأذرعها وميليشياتها في سوريا ولبنان، ما أسهم بل فاقم من زعزعة استقرار المنطقة،.. لكن كل ذلك لا ينبغي أن يكون مبررا لشن حرب اسرائيلية أمريكية على ايران يرحب بها الجانب العربي، لأن نتائجها وتبعاتها لن تنحصر في ايران فحسب، بل ستصيب دول الخليج جميعها، وتضع المنطقة بأكملها في صراع داخلي وإقليمي ودولي جديد، أسوأ مما خلفه غزو العراق عام 2003 ومما نشهده اليوم. وهذا هو الهدف العميق لليمين الإسرائيلي الحاكم: “التعجيل في تفكيك دول المنطقة بمخالب أمريكية”.
وكما أوهم شارون جورج بوش أن العراق هو الخطر الكبير في المنطقة، فإن نتنياهو يعيد نفس الرواية، ولكن يكشف هو بنفسه عن مزاعم وصول الموساد إلى معلومات (مفبركة أيضا) تؤكد تقدم ايران في التحضير للأسلحة النووية، رغم أن ايران موقعة على معاهدة خطر انتشار الأسلحة النووية، في حين ترفض اسرائيل التوقيع عليها حتى اليوم، ورغم أن وكالة الطاقة الذرية الدولية أكدت عدم إخلال ايران باتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، كما أن الدول الأوروبية التي وقعت الاتفاقية النووية مع ايران وخاصة المانيا وفرنسا نفت أن يكون هناك انتهاك من جانب ايران للاتفاقية، بل وتؤكد الدول الأوروبية، والتي لها مصالح استثمارية وتجارية مهمة مع إيران، أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية يفتح الباب لحروب دولية بالغة الخطورة.
ما كان يريده شارون بالأمس، ويريده نتنياهو اليوم يتلخص في خمس كلمات هي: “ ابتلاع فلسطين وتفكيك دول الجوار” وهذه هي المحطة الرئيسية الكبرى في استراتيجية الأمن الصهيوني الاستعماري لإسرائيل: أن تكون دولة كبيرة وقوية بين دويلات صغيرة وضعيفة ومفككة.
ولذا فإن إسرائيل واليمين الصهيوني الاستعماري يضع كل جهوده في:
أولاً : العمل بكل الوسائل على تفكيك الدول الكبيرة المجاورة لاسرائيل جغرافيا أو لوجستيا، سواء تم التفكيك من خلال انقسامات داخلية، أو من خلال التدمير باللجوء إلى القوة العسكرية الخارجية. وبالفعل تم تدمير العراق وكذلك سوريا، ويجري استنزاف مصر من خلال الجماعات الارهابية في سيناء والداخل المصري، والذي يأتي جزء كبير من تمويلها وتدريبها من اسرائيل. والآن فإن العين الصهيونية الاسرائيلية تتركز على ايران، لأن تطويرها للصواريخ البالستية وتواجدها في سوريا والعراق ولبنان جعلها لوجستيا وعسكريا مجاورة لإسرائيل. وبالتالي لا بد من تفكيكها، وتليها باكستان.
ثانيا: توظيف حالة التذمر المجتمعي والإخفاقات الاقتصادية وغياب الديمقراطية في الكثير من الأقطار العربية، لترويج المقولات الطائفية والمذهبية والجهوية والعرقية، حيث يتلقاها المواطن العربي ويستثمرها بعض السياسيين، وبالتالي تأجيج الصراعات الداخلية في المنطقة العربية، حتى تتآكل دولها من الداخل وتتفكك إلى دويلات.
ثالثا: إطلاق الأقوال والوثائق والتصريحات والتسريبات والفيديوهات المفبركة أو القديمة، والتي يتلقفها الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي عن علاقات كل دولة عربية وزعيم عربي باسرائيل أو اليهود قبل وبعد قيام اسرائيل، وذلك حتى تبقى الشكوك والتخوفات والانقسامات قائمة بين العرب فلا تتعاون دولة مع أخرى، ولا يثق شعب بقواه السياسية أو مسؤوليه.
رابعا: الضغط من خلال الولايات المتحدة الأمريكية على الدول العربية، وبسبب الاعتماد الكبير للمنطقة على الخارج، للانخراط مع اسرائيل في برامج ومشاريع اقتصادية يكون لاسرائيل الكلمة العليا فيها، مثل مشاريع الغاز والماء وسكة الحديد والموانئ والكهرباء، والاتصالات والتمويل والأجواء، وتأمل اسرائيل من خلال ذلك أن تصبح متحكمة بمفاصل اقتصادية أو لوجستية تضغط من خلالها على الدول العربية لعدم مقاومة اجراءات التهويد والاستعمار والتوسع التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين وحولها، وحتى تصبح المسألة السياسية والتزام اسرائيل بإنهاء الاحتلال مسألة ثانوية أمام الترابط الاقتصادي الاستراتيجي اللوجستي، وأمام الضغط الأمريكي المتزايد في المنطقة.
ومع هذا، فإن اسرائيل لن تجرؤ على شن حرب على إيران، على الرغم من الحركات التي يستعرض فيها نتنياهو “عضلاته الأمريكية الصنع”. كما أن ترمب رغم الصعوبة في ترشيد قراراته، فإنه يرى في المبالغة بدعم إسرائيل طوق نجاة من الضغط الداخلي، ولكنه أيضا لن يجرؤ على التورط في حرب مع إيران، وسيستمر في الضغوط والابتزازات السياسية والمالية في كل مناسبة وكل اتجاه، وتشديد العقوبات على ايران.
وعلى الجانب العربي، وخاصة دول المنطقة، أن تنجز عمليات الإصلاح وتخفف من اعتمادها على الخارج، وتدعم صمود الشعب الفلسطيني في أرضه، وتعيد اكتساب ثقة شعوبها. وفي نفس الوقت تستمر في الضغط السياسي على إيران، وعلى كل صعيد، حتى تغير من سياساتها تجاه الدول العربية وخاصة المجاورة لها، وتوقف من تدخلاتها التي لا يستفيد منها الشعب الإيراني سوى الخسائر المتتالية.
وعلى الدول والمفكرين والمثقفين والتربويين ومنظمات المجتمع المدني أن يخرجوا شعوبهم من عقلية الطائفية، وثقافة التفكك والجهوية. وعلى الإعلام العربي والقوى السياسية أن لا تنساق وراء التسريبات الإسرائيلية مهما كانت ابتداء من إرجاع الشخصيات الوطنية العربية إلى أصول يهودية، وانتهاء بالتصريحات المجتزأة أو المحرفة على لسان هذا أو ذاك. إن المستقبل الأفضل للمنطقة ممكن، ولكنه يتطلب العمل والجرأة والثقة والمشاركة والتنبه الدائم للرسالة الصهيونية إزاء المنطقة والمتمثلة: بالتوريط والتشكيك والتفكيك والتهويد.