دور الثورة الصناعية في تقدم التعليم

1-مدخل

انطلق التعليم في الأقطار العربية ببطء شديد مع بدايات القرن العشرين ولكنه سرعان ما راح يتصاعد وينتشر في كل مكان مع ظهور الحركات التنويرية والإصلاحية. فتوسع التعليم في مستوياته المختلفة وراحت الجامعات بمفهومها الحديث تقام كالجامعة الأمريكية في بيروت عام 1867 وجامعة الخرطوم 1902 وجامعة دمشق 1923 وجامعة القاهرة (فؤاد سابقاً) عام 1908 وجامعة بغداد عام 1957 والجامعة الأردنية عام 1963. واليوم وبعد مرور ما يقرب من 120 عاماً نتحدث عن أكثر من 800 جامعة عربية تضم أكثر من 6 مليون طالب جامعي ويعمل فيها حوالي 250 ألف أستاذ جامعي. أما المدارس فيزيد تعدادها عن ربع مليون مدرسة تضم أكثر من 60 مليونطالب وطالبة وما يقرب من 3 ملايين معلم ومعلمة. ويبلغ متوسط نسبة أعداد الطلبة الجامعيين في الأقطار العربية 1.5% من السكان في حين يرتفع هذا الرقم في البلدان التي تميزت بالاهتمام بالتعليم كالأردن لتكون النسبة 4.3% من السكان، وهو رقم مرتفع تماماً بالنسبة للمقاييس العالمية وحسب ما هو مبين في الجدول رقم (1). أما مدة الدراسة للتعليم الأساسي والعالي فهي تختلف من بلد إلى آخر وتتراوح بين 12 سنة و16 سنة وبمتوسط 14 سنة في حين انه يصل في كوريا والولايات المتحدة الأمريكية إلى 16.5 سنة وفي أسترالياإلى 20.4 سنة انظر الجدول رقم (2). ومن المتوقع عام 2020 أن تصل نسبة السكان الحاصلين على درجة جامعية من مؤسسات التعليم العالي18.7% في مصر و25% في الأردن وبمعدل في المنطقة العربية يتعدىحسب تقديرنا 11% انظر جدول رقم (3).

 

جدول رقم (1)

نسبة الطلبة الجامعيين إلى السكان

في عدد من البلدان

(نسبة مئوية)

 

المتوسط العربي سنغافورة اليابان مصر بريطانيا متوسط الاتحاد

الأوروبي

الأردن إيرلندا أمريكا البلد
1.5 1.5 2.18 3 3.3 3.4 4.3 5 5.7 النسبة

 

جدول رقم (2)

مدة الدراسة المتوقعة بالسنوات

للتعليم الأساسي والعالي

(2013)

 

كوريا أمريكا إسرائيل اليابان السعودية مصر الأردن أستراليا فنلندا
16.59 16.54 15.96 15.12 15.84 13.12 12.76 20.43 19.27

 

 

جدول رقم (3)

توقع نسبة السكان المتعلمين

لدرجة جامعية في التعليم العالي

(عام2020)

 

كوريا هولندا مصر الأرجنتين الهند البرازيل
34% 23.4% 18.66% 14.03% 9.45% 8.78%

 

2-الحالة العربية

بعد 120عاماً تقريباً من انفتاح المنطقة العربية على التعليم الذي تصاعد بشكل نوعي وكمي في البدايات وحتى الستينيات من القرن الماضي ثم تباطأ لينزلق في التراجع النوعي على مختلف المستويات، وبقي متواضع التأثير كمحّرك رئيسي في حركة النهوض والتغيير، واستمرت نوعية التعليم عند المتوسط العالمي أو أقل قليلا. إذا أخذنا دليل التعليم Education Index كمؤشر على النوعي. والذي يعبر عن الحالة الداخلية للتعليم وفي إطار مؤسساته جدول رقم (4).

 

جدول رقم (4)

دليل التعليم لعدد من البلدان

(من 10)

نيوزلندا كوريا إيطاليا ماليزيا لبنان تركيا الأردن

الدولة

9.17 8.65 7.9 6.71 6.31 6.52 7.0 دليل التعليم

عام 2013

المصدر: تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2016

 

وحين نتأمل الحالة المجتمعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في المنطقة العربية نلاحظ أنها تعوم في بحر متلاطم من المشكلات ابتداء من تفكك العديد من الدول واستباحة القوى الدولية لها، ومروراً باعتمادها على المعونات والدعم الأجنبي المالي أو الاقتصادي أو الغذائي أو العسكري أو التكنولوجي وانتهاءً بتشتت المشهد الفكري والثقافي وهبوط متواصل في الثقافة المجتمعية بما في ذلك الفنون، ومساهمات ضئيلة في المعرفة الإنسانية وخاصة في العلوم الطبيعية والتطبيقية. ينطبق الحال بدرجات متفاوتة على دول تميزت بالتعليم كالأردن ولبنان، كما ينطبق على دول عريقة مثل مصر والعراق. يؤكد هذه الحالة المؤشرات النوعية من مثل معدل تأليف الكتب وأعداد الكتب الجديدة المنشورة وأعداد براءات الاختراع وأعداد الأبحاث لكل عضو هيئة تدريس وأعداد المكتبات العامة والمتاحف العلمية والإنفاق على التعليم والثقافة والفنون والإنفاق على البحث العلمي وغير ذلك الكثير. فجميع هذه المؤشرات تبين أن المنطقة العربية أقل من المعدل العالمي.

 

بشكل لافت للنظر..أين يذهب التعليم؟ وأين تأثير التعليم العالي؟ وأين دور الجامعات؟ ولماذا لم ينجح التعليم في أنيرتقي بالعقول والمفاهيم والسياسات والبرامج والسلوكيات والمواقف والأذواق على أقل التقدير؟ ذلك جزء من المسألة.

 

ولا زالت المجتمعات العربية تتأرجح بين التحرك إلى الأمام والتراجع إلى الخلف.  ولا زال متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي للأقطار العربية يتأرجح عند 5000 دولار للفرد في السنة مقابل 11000 دولار المتوسط العالمي. أما معدل الإنفاق على التعليم فهو في حدود 500 دولار لكل طالب في التعليم الأساسي مقابل ما يزيد عن 5000 آلاف دولار في الدول الصناعية. انظر الجدول (5).

 

جدول رقم (5)

معدل الإنفاق على الطالب الأساسي والثانوي

الأردن المكسيك إسرائيل متوسط

 دول التعاون

اليابان ألمانيا السويد بريطانيا أمريكا النرويج أمريكا
0.750 3.2 6.7 9.6 10 10.9 11.1 12.1 12.3 15 الإنفاق

1000 دولار

(ألف دولا ر سنوياً)

 

وهنا تبرز الإشكالية التاريخية

 

” لماذا لم يأخذ التعليم دوره كعامل حسم للكثير

من المسائل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية المعلّقة أو المستجدة”؟ ولماذا لا تزال

“ثقافة ما- قبل- العلم “تسيطر على مساحات كبيرة ليس من الجغرافيا العربية فقط وإنما من الفعل العربيوالعقل العربي والوجدان المجتمعي أينما كان؟ ولماذا انزلق التعليم العربي في أخدود الحفظ والتلقين والإعادة والتكرار والتناقل والنقل ولم يستطع الخروج منه حتى اليوم؟ ولماذا غاب العقل والإبداع والتفكير والتجديد، ليس على مستوى النخبة فقط، مع بعض الاستثناءات هنا وهناك، وإنما على المستوى المجتمعي وهو الأمر الأكثر أهمية؟”

الإجابة المركّزة نجدها فيدراسة التاريخ الإنساني وتجارب الأمم الحديثةوالتي تبين بوضوح أن التعليم بمفرده لا يغير المجتمعات إلاّ في حدود ضيقة للغاية، وإنما تتغير المجتمعات من خلال العوامل المتفاعلة التالية

  • مرونة المجتمعوالاستعداد للتغيير.
  • بنية الاقتصادوطريقة تحقيق الدخل وصنع الثروة.
  • التعليم والفكر والثقافة واستقرار مؤسسة الدولة.

 

والملاحظ أن مرونة المجتمعات العربية واستعدادها للتغيير ضعيفة إلى حد كبير باستثناء الإمارات العربية المتحدة بينما تقع الدول الصناعية المتقدمة في مقدمة القائمة جدول رقم (6). أما بنية الاقتصاد فهي هشة في معظم دول المنطقة في حين يتعرض التعليم والفكر والثقافة ومؤسسته الدولة العربية إلى خلخلات مستمرة مرة باتجاه الماضي وأخرى التعصب وغياب التسامح وثالثة بضعف التعليم خارج العواصم وغير ذلك من عوامل الصراعات المذهبية والطائفية والجهوية وغياب المواطنة والديمقراطية وضعف منظمات المجتمع المدني.

 

جدول رقم (6)

ترتيب دليل استعداد المجتمع للتغيير

(ترتيب تنازلي)

بريطانيا ألمانيا هولندا الدنمارك  

سنغافورة

الإمارات السويد سويسرا الدولة
10 9 7 5 4 3 2 1 الترتيب
البرتغال إسرائيل  

اليابان

فرنسا  

قطر

بلجيكا كندا
22 21 20 19 18 17 16

 

المصدر: KPMG

 

Change Readiness Index 2017

 

3-المحركات المتزامنة

لقد أصبح التعليم منذ القرن الثامن عشر بمراحله المختلفة أحد المحركات الرئيسية للدولة الحديثة القادرة على الاستمرار والتنامي والاستجابة لمتطلبات مواطنيها في إطار من العصرية والاعتماد على الذات. غير أن التعليم حتى يحقق أهدافه الفردية والمتمثلة في بناء شخصية المتعلم وتطوير قدراته ليكتشف مواهبه وإمكاناته ويصنع مستقبله باختياره الحر، وحتى يحقق التعليم أهدافه المجتمعية بأن يكون محرّكاً فعالاً للارتقاء والتقدم فإنالتعليم يتطلب البيئة الحاضنة الملائمة في جوانبها المادية وجوانبها الناعمة أي الفكر والثقافة والإدارة. هذا إضافة إلى ارتقاء سائر مفردات التعليم وخاصةالنوعية المعاصرة.

 

·     التعليم

·     المجتمع

·     الاقتصاد

وإذا استثنينا التعليم النخبوي المحدود الذي نادراً ما يترك أثراً كبيراً على المجتمع فإن هناك محرّكات ثلاثة نجدها متداخلة العمل والتأثير ومتفاعلة باستمرار وهي

 

 

 

فالمجتمع في النهاية هو حاضنة التعليم والمتعلمين كما أنه حاضنة العلم الذي يؤثر ويتأثر به وتنشأ عنه “العلمية الخاصة” بالمجتمع. وبدون تعزيز الوجه المجتمعي للتعليم والمتمثل بتفاعل المجتمع مع العلم والتعليم والمتعلمين وتفاعل المتعلم والعلم والتعليم مع المجتمع وتطلعاته واحتياجاته فإن القيمة التاريخية للتعليم والعلم في صناعة التقدم المجتمع المعين ودفع المجتمعات موضوع البحث إلى الأمام تتضاءل إلى درجة كبيرة. (بدران 2017)

 

أما الاقتصاد والذي يؤثر في كل نشاط وموقف وقرار يقوم به المجتمع فهو المصدر الأساس للإنفاق على مشروع التعليم الوطني، وفي نفس الوقت المستثمروالمستفيد من هذا التعليم. يشمل ذلك كافة مفردات التعليم بكل تفاصيلها كما يشمل كافة مفردات الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي بكافة تفاصيلها أيضاً والتي هي بالضرورة جزء لا يتجزأ من حركة المجتمع وإدارته وخبراته وقيمه ومرونته وإبداعاته.وهكذا فنحن نتكلم عن علاقة جدلية تفاعلية بكل معنى الكلمة بين المحرّكات الثلاثة.ولهذا نجد أن تقدم الشعوب وارتقائها المتوازن المضطرد في شتى المجالات في إطار الفكر التنويري والثقافة المنفتحة على التجديد يكون مقترناً بتقدم اقتصادات تلك الدول بالمفهوم العلمي والتكنولوجي المواكب للحداثة وتقدم وارتقاء التعليم والعلم فيها وانفتاح المجتمع على التغيير لبناء المستقبل الجديد.

شكل (1)

التعليم والاقتصاد والمجتمع

التعليم

 

·    إطلاق الإمكانات

·    البحث العلمي

·    حل المشكلات

 

المجتمع

 

·    المرونة

·    العقل العلمي

·    الحاضنة للإبداع

الاقتصاد

 

· مدخلات العلم والتكنولوجيا

·    الإبداع والتنافسية

·    الإنتاج

 

جدول رقم (7)

الدول ذاتأفضل تعليم أساسي

 

 

الدولة

العلامة في

التعليم الأساسي

 

الترتيب الدولي

 

نوعية الاقتصاد

فلندا 114 1 صناعي متقدم
اليابان 104 2 صناعي متقدم
كوريا 101 3 صناعي متقدم
الدنمارك 94 4 صناعي متقدم
روسيا 91 5 صناعي
النرويج 82 6 صناعي
بريطانيا 78 7 صناعي متقدم
إسرائيل 77 8 صناعي
السويد 75 9 صناعي متقدم
هونغ كونغ 70 10 صناعي
هولندا 67 11 صناعي متقدم
بلجيكا 65 12 صناعي متقدم
ألمانيا 63 13 صناعي متقدم
الصين 62 14 صناعي ناهض
سنغافورة 57 15 صناعي

 

جدول رقم (8)

أقوى دول العالم في التعليم العالي

 

 

الدولة الترتيب نوعية الاقتصاد
الولايات المتحدة الأمريكية 1 صناعي متقدم
بريطانيا 2 صناعي متقدم
ألمانيا 3 صناعي متقدم
استراليا 4 صناعي
روسيا 5 صناعي
كندا 6 صناعي متقدم
فرنسا 7 صناعي متقدم
هولندا 8 صناعي متقدم
الصين 9 صناعي ناهض
كوريا 10 صناعي متقدم
اليابان   صناعي متقدم
سنغافورة   صناعي

 

وتبين الجداول (7) و(8) إن الدول الأفضل في التعليم الأساسي وفي التعليم العالي وفي الاستعداد للتغيير هي دول متقدمة وذات اقتصادات صناعية وصناعية متقدمة. بمعنى أن هناك اقتران موضوعي وشرطي واضح بين مرونة المجتمع أي استعداده للتغير وبين المستوى المتقدم للتعليم الذي لا يمكن أن يزدهر ويرتقي في مجتمعات مغلقة متكلسة لا تقبل التغيير وبين البنية الاقتصادية المتقدمة التي يمثلها التصنيع واجتيازها الثورات الصناعية بكاملها.

 

4-المسارات المختلفة

لقد تطور التعليم بأنواعه ومستوياته وتخصصاته المختلفة في الدول المتقدمة تدريجياً وتلقائياً مع تطور تلك المجتمعات ومع تقدمها على مدارج الصناعة والتكنولوجيا والأتوماتيكية والرقمية والمعرفة. وبالتوازي مع ذلك تطورت المؤسسات والثقافات والأفكار بحيث لم تنشأ أو تتسع فجوة زمانية أو موضوعية أو سكانية بين العلم والمتعلم والمعلم والمثقف والأكاديمي والتكنولوجيا والجامعة والصناعة والسياسي والاقتصادي والمجتمع. إنها ماكنة واحدة تعمل أجزاؤها بتزامن وكفاءة نسبية حتى وإن تعرضت بين الفترة والأخرى إلى أحداث طارئة أو نكسات أو حروب أو كوارث طبيعية، إلا أنها تعود لتواصل مسيرتها لأن “الحالة الحضارية تشمل المجتمع بأسره وهي من صنع المجتمع ذاته”. ومن هنا فإن الإنتاج والتعليم والعلم والاكتشاف والتكنولوجيا والصناعة والإبداع كلها متغلغلة في نسيج المجتمع لأنها من صنعه ومنبثقة عنه ومصنوعة من جميع أفراده.

 

وحين نتحدث عن التعليم المناظر في الدول النامية نلاحظ أنه إلى حد كبير تماماً تم اقتباسه ونقله عن التعليم في الدول المتقدمة بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة بما في ذلك البنية المؤسسية والإدارة ونظام العمل والمناهج بل والكتب والجزء الأكبر مما يتضمنه فضاء التعليم. ولا بأس في ذلك من حيث المبدأ، فالأمم تتعلم من تجارب الأمم الأخرى وتفيد من تجاربها وتغنى هذه التجارب بالتواصل والتبادل والانتقال والتنوع والتفاعل والإضافة والإبداع.

كما أن عشرات الآلاف من الأساتذة تلقوا تعليمهم في جامعات مرموقة في الدول المتقدمة وعادوا يديرون المؤسسات التعليمية والبحثية ويعملون بها. لكن الإشكالية الكبرى تتمثل في ضعف النتائج وقصورها عن الطموح.  فلا التعليم ارتقى إلى مستوى الدول المتقدمة ولا المؤسسات التعليمية والبحثية وخريجوها استطاعوا أن ينقلوا المجتمع إلى مصاف الدول المتقدمة. لماذا؟ لأن البنية الاقتصادية بعيدة عن التصنيع وبالتالي لا تشكل بيئة تحمل التحديات المتتالية للعلماء والمتعلمين وإدارة الدولة أدمنت استيراد الحلول الجاهزة فزاد ذلك من عزلة العلم والعلماء والمتعلمين على حد سواء.

 

5-الثورات الصناعية والتغيير

ليس هناك من مسيرة أو سيرورة في تاريخ البشرية ومستقبلها يمكنها تغيير المجتمعات خلال فترات زمنية قصيرة كما كانت ولا تزال الثورات الصناعية. ذلك إن التصنيع في جوهره يمثل الجهد لإحداث التغيير في المادة والشكل والمنتج وعدم الانتظار حتى يحدث التغيير المنشود بفعل الطبيعة مع الزمن. ومن جهة أخرى فإن وسائل ووسائط وأساليب الإنتاج وبالتالي صناعة الدخل والثروة هي التي تحدد بالدرجة الأولى سلوك ومواقف وقيم الفرد والمجتمع على حد سواء. كما أن بنية المجتمع من منظور الفرد والعائلة والقبيلة أو من منظور الريف والمدينة أو منظور الرجل والمرأة أو من منظور العلاقات بين المجتمعات والطوائف والأفراد أو من منظور الحاكم والمحكوم والسلطة والمواطن والحزب والحكومة هذه البنية لا تتغير جذرياً إلاّ من خلال تغيير وسائل الإنتاج وصنع الثروة الفردية والمجتمعية أو بالتعبير الشرقي الدارج “كسب الرزق”. وهذا يعني أنه ما لم يكن للعلم والتعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي دور في تحفيز الاقتصاد وتطويره من خلال انخراطه في عملية الإنتاج فإن اهتمام المجتمع به يصبح هامشياً إلى أقصى درجة.

 

وفي واقع الأمر فإن الثورة الصناعية هي في جوهرها ثورة في العلم والبحث العلمي والتكنولوجيا تنتشر في مختلف زوايا المجتمع.

ومن منظور الفعل والزمن فإن التصنيع في كل جزء من جزئياته وكل مرحلة من مراحله وكل تفصيلة من تفاصيله يفرض حالة من التحدي Challengeالأدائي والعلمي والتكنولوجي والثقافي والإبداعي التي تتطلب الاستجابةResponseالمناظرة وهذه الاستجابة بالضرورة تعود على التعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والمهارات التخصصية والتدريب والتأهيل والقدرات الإبداعية لإعطاء الإجابة وتطوير البديل. وهنا، أي عند الاستجابة، يصبح التعليم شريكاً أساسياً في العملية وفي السيرورة الكلية ويصبح البحث العلمي ضرورة ويقع تحت مفهوم “الطلب”demand للوصول إلى الإجابات المنشودة. وبذا يتطور التعليم والبحث العلمي والإبداع وتتطور المهارات والإنتاج وبالتالي يتطور المجتمع ذاته من خلال تراكم الحلول والإبداعات والمهارات.

 

كما أنأعمال أرنولد توينبي في دراسته للتاريخ واندثار الحضارات تعطي أهمية خاصة لنظرية التحدي والاستجابة فإن التعليم والبحث العلمي تنسحب عليه المقولة. بمعنى أنه “إذا لم يكن هناك طلب على العلم والعلماء وتحديات أمام الباحثين والمبدعين فإن العلم والبحث ينزوي كمسائلة ثانوية”. وهي الحالة التي تعاني منها المجتمعات العربية لأنها تستعيض عن الاستجابة بالاعتماد على التغيير.

 

ونلاحظ أنهعندما انطلقت الثورة الصناعية الأولى خلال الفترة 1765 -1870 كان التعليم في الجزء الأكبر منه وبمستوياته المختلفة تعليماً نخبوياً محدود الانتشار ومحدود الطلب ومحدود التأثير. فالمجتمع الزراعي بطبيعته مجتمع مرتبط بالأرض والمعرفة والخبرة فيه تنتقلبالتوراث والنقل والتقليد وهي بطيئة التغيير تماماً. وكانت الدوائر الأكثر اهتماماً بالتعليم الكنيسة والطبقة الأرستقراطية، ولكن الثورة الصناعية خلقت حالة “الطلب” على التعليم لأن الصناعة بحاجة إلى درجة أعلى من التعليم مقابل الزراعة، وبحاجة إلى تنوعات جديدة تقتضيها العمليات الصناعية كالفيزياء والمواد الكيمياء والمعدنيات والهندسة التي انطلقت الدول الأوروبية في إقامتها مع الثورة الصناعية ومنذ عام 1707 وبشكل مكثف منذ عام 1770. أنظر جدول (9).

 

جدول (9)

أوائل الجامعات التكنولوجية مع الثورة الصناعية

 

الجامعة التكنولوجية في براغ 1707
الجامعة التكنولوجية في برلين 1770
جامعة إستنبول التكنولوجية 1773
جامعة بودابست التكنولوجية 1782
مدرسة باريس التكنولوجية 1794
جامعة ستراتكايد غلاسكو 1796
جامعة جراتس للتكنولوجيا 1811
جامعة وارسو للتكنولوجيا 1826
المعهد الملك للتكنولوجيا ستوكهولم في السويد 1827
جامعة شت وتجارت التكنولوجية 1829
جامعة مدريد التكنولوجية 1844
معهد الهند للتكنولوجيا روركي 1847
المعهد السويسري الفدرالي للتكنولوجيا
زيورخ 
1855

 

ومن جانب آخر فإن تحسن مستوى الدخل لدى الطبقة الفقيرة مكنها من الإنفاق على التعليم. فعلى سبيل الثمال في عام 1833 أصدرت الحكومة البريطانية قانون المصنع Factory Act والذي جعلت بموجبه هناك (2) ساعة يومياً يتم تخصيصها لتعليم الأطفال العاملين في المصانع وبشكل إلزامي، وكذلك منحت الحكومة بعض الأموال للجمعيات للإنفاق على المدارس التي إنشاؤها للمرة الأولى.

 

6-الثورات الصناعية والتغيير

 

انطلقت الثورة الصناعية الأولى عام 1765. وقد اعتبرت “ثورة”لأنها كانت خروجا كاسحاً عن المألوف، وأحدثت تغييرات هائلة في كل شيء: في العمل وفي القدرة على تحريك الأشياء، وفي وسائل وكيفيات وأنماطالإنتاج، وفي ذات المجتمع وأفكاره وقيمه وسلوكياته، وفي التعليم والثقافة والفلسفة والفنون والعلوم. فبعد أن كان الإنسان معتمداً بشكل شبه كلي على المفردات التي تقدمها الطبيعة، تغير ذلك ليصبح الإنتاج معتمداً على ” ماكنة أو آلة” تختصر الجهد والزمن والكلفة بكل ما يتطلب ذلك من التعمق في العلوم لمعرفة خصائص الأشياء والهندسات والتكنولوجيا لمعرفة كيف تصنع الأشياء الأمر الذي يعني انتقال الإنسان إلى مرحلة أعلى وأرقى من حيث التعامل مع الزمن من جهة، واتساع بوابة الإبداع من جهة أخرى. وهذا أتاح الفرصة للتوسع والتنوع في الإنتاج زيادة عن الاستهلاك. ومهّد الطريق لبناء الثروة الفردية والمؤسسية والمجتمعية بوتائر أسرع، واستقلاليةأعلى، ونشط التجارة وعززها بطرق جديدة. وهذه نقلة نوعية تفتقدها الدول النامية والمنطقة العربية حتى اليوم.

 

لقد استلزم نمط الإنتاج الجديد ونمط القوة المحركة آنذاك، حدوث تغييرات اجتماعية واقتصادية وعمرانية وسلوكية وعلمية وتعليمية هائلة، والنمط الجديد أنشأ قيماً جديدة، وأفكارا وفلسفات وثقافات وفنون وخيالات وتخصصات علمية وبحثية وتعليمية لم تكن معروفة، أو لم تكن تحظى قبل ذلك بأي اهتمام. بعبارة أخرى عملت الثورة الصناعية على إعادة تشكيل المجتمع مادياً وفكرياً ومعنوياً وجغرافياً من حيث التوزيع، والاهتمام والوعي والسلوك والتطلع والطموح. فالحديث عن الصراع الطبقي والديمقراطية والمشاركة، بل المواصفات والمقاييس وضبط الوقت والدقة والالتزام، والبحث عن المواد الخام، وتصاعد أهمية الطاقة وارتفاع القيمة الاقتصادية للإبداع والاختراع، وضرورة البحث في قوانين الطبيعة واكتشافها والبناء عليها، وبناء مدن وتجمعات سكانية جديدة، وتطوير أهاليالريف، واشتداد الضرورة الاقتصادية للتعليم، ودخول مواضيع جديدة في التعليم، وخروج المرأة للعمل والتعليم الخ….. كل ذلك ما كان ليتحقق لولا الثورة الصناعية. إذ إنها صنعت بيئة مادية وفكرية وعلمية جديدة دفعت الإنسان الفرد والمجموعات بل والمجتمع بكامله للانخراط في التغيير والمشاركة في صنعه. ومن هنا فالمجتمعات التي لم تدخل الثورة الصناعية بعد، كالمجتمعات العربية لازالت تفتقد البيئة الحاضنة والمواتية للتغيرات والتحولات الاجتماعية والذهنية العميقة، مما جعلها تراوح مكانها أو تتقدم سطحياً أو شكلياً بتأثير الفعل الحضاري الخارجي فقط. وهذا ما لم يحظ بالاهتمام على المستوى الأكاديمي والبحثي والسياسي في المنطقة العربية لقد جعلت الثورة الصناعية من “الهندسة والتكنولوجيا عاملا ثالثاً من عوامل الإنتاجبالإضافة إلى العمل ورأس المال”.وتغيّر مكان العمل والإنتاج من الحقل إلى المصنع بكل ما يستلزم ذلك من تفكيك البنية القبلية وتكوين بنى مجتمعية جديدة، وتطوير أنظمة نقل وحركة، ومساكن وبنية تحتية مختلفة وجديدة تماماً.وكان لابد أن ترافق كل ذلك مؤسسات تعليمية وعلمية قادرة على مجاراة متطلبات التصنيع سواء بالعلوم أو الأبحاث أو الإبداعات والاختراعات. لقدوتراجعت الزراعة لفترة، لتعود تنتعش من جديد بوسائل أكثر فاعلية وأوفر إنتاجاً وأعلى إنتاجية.

 

وجاءت الثورة الصناعية الثانية مع حلول عام 1870، حين دخلت الكهرباء والغاز والنفط كأشكال جديدة من أشكال الطاقة إلى سوق الإنتاج والعمل، مما استدعى تطوير منظومات هندسية إنتاجية جديدة. وفي هذه الأثناء ظهرت آلات الاحتراق الداخلي التي مهدت لانتشار وسائط النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات وبواخر ضخمة، بكل ما يعني ذلك من ترابط وتشبيك وحركية،وانخراط المجتمع بكافة مكوناته وشرائحه ونخبه وقياداته، إضافة إلى التوسعات الكبيرة في أنماط الإنتاج. فظهرت المصانع ذات الإنتاج الجسيم وأصبحت الإدارة والتسويق والريادية والبحث العلمي والاختراعات والمواصفات والدقة والمعايير والزمن، وخصائص المواد والنظام والقانون، كلها من الأمور الحرجة التي يجب مراعاتها والالتزام بها من جميع المنخرطين في التصنيع ابتداء من العامل وانتهاء بالإدارة العليا. وهذا جعل مجالات البحث والتطوير والإبداع مفتوحة لكل من يقدر عليها. وكذلك دفع بكل هذه المفاهيم لتكون جزءً هاماً من منظومة التعليم والتأهيل والمهارات والتفكير والبحث والثقافة.

 

وحقيقة الأمر، أنه مع تحقيق كل إنجاز صناعي جديد سواء كان في المنتج أو في المواد أو أنظمة الطاقة أو التحكم أو في السرعة أو المهارات أو أي متطلب من متطلبات الإنتاج ،كانت تتبلور الحاجة إلى التغطية والمجاراة العلمية والبحثية، ومن ثم التعليمية المتعلقة بذلك الإنجاز. وهكذا فإن الثورة الصناعية حملت معها ثورة تعليمية، وأخرى أكاديمية، وثالثة بحثية. وخلقت علاقات شراكة بين الصناعة والأكاديميا، وهي شراكة ازدادت اتساعاً وعمقاً مع تقدم الثورات الصناعية وتعمقها إلى أن وصلت إلى مرحلة الاقتران الكامل. الأمر الذي تفتقده الجامعات في الدول غير الصناعية، و منها العربية، تماماً.

 

على أن واحدة من أهم نتائج الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، في المجال الاجتماعي السياسي والاجتماعي الاقتصادي، تمثلت في تغيير بنية المجتمع من قبلي زراعي يرتبط الإنسان فيه بالأرض والحيوان، إلى مجتمع يقوم على وحدات جديدة أساسها الفرد و المؤسسة و فريق العمل ، و ليس العائلة أو القرية،و يعتمد على التصنيع، ويستخدم منتجات الصناعة من ماكنات ومعدات وأجهزة ومواد في تطوير الزراعة ذاتها وزيادة إنتاجيتها.

 

عملت الثورتان الصناعية الأولى والثانية على تطوير العادات والتقاليد والثقافة المجتمعية والقيم باتجاه التواؤم مع التغيير، كما عملت على دفع المجتمعات الجديدة باتجاه الديمقراطية وتشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المهنية واتساع منظمات المجتمع المدني لوجود حاجات موضوعية لها. ولم يعد بالإمكان حكم المجتمع الجديد الذي يتألف جزء كبير منه من أصحاب الأعمال والمستثمرين والمهندسين والعلماء والمعلمين والمخترعين والمثقفين والفنانين والخبراء والرياديين والمفكرين والعمال الذين يتمتعون بالوعي وروح العمل الجماعي والنزعة نحو المساواة، لم يعد ممكناً حكمه عن طريق الفردية و العائلية والسلطوية والديكتاتورية. كذلك فإن الحاجة إلى عمل المرأة ساعد على كسر الكثير من القيود التقليدية التي كانت مفروضة على المرأة وتمنعها من الحركة إلا كتابع للرجل. وبدأت الفجوة الجنسوية بين المرأة والرجل في الإنكماش حتى وصلت اليوم إلى ما يقرب المساواة في عدد من البلدان الصناعية مثل الدول الإسكندنافية والدنمارك. وأصبح تعليم المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل ضرورة إقتصادية واجتماعية ليصبح  النمط الاجتماعي الأفضل. وعملت الثورات الصناعية على رفع القيود والحواجز والتحفظات عن الفكر العلمي والتجربة والاكتشاف و النمذجة و الفنون، وخلقت حالة مجتمعية مرتبطة بالعلم، ودفعت المجتمع نحو العقل العلمي الذي على أساسه تكون القرارات والمواقف. وبذا تبلورت “العلمية الخاصة” للمجتمع الصناعي والتي “تمثل تفاعل مجتمع معين مع المفاهيم و المنجزات العلمية فيه”. وراحت البطالة تتراجع، ومساحات الفقر تضيق، لأن كل ثورة صناعية تفتح المجال واسعا لأعداد غير محدودة من المشاريع التي تتطلب الأيدي العاملة الأكثر تعليما و تأهيلا ،والاستثمارات الإبداعية الجديدة.

 

ولأن الثورات الصناعية كانت من صنع المجتمعات نفسها، بمعنى أنها ليست مجرد ماكنات ومصانع مستوردة، وإنما كل شيء فيها من تصميم وإبداع وخيال وإنتاج أفراد المجتمع ذاته على شتى المستويات، يراها الطفل منذ بداية وعيه الأول وينتهي الكبير وهو يتابع مستجداتها، فقد كانت بمثابة حمى إبداعية أصابت الجزء الأكبر من الناس، وخاصة في الفنون والعلوم والخيال والهندسة والاختراع وعلم النفس والفلسفة والقيم، وفوق كل ذلك في “صنع الأشياء”،و صنع الأدوات والأجهزة والمواد، بحيث أصبح كل شيء وأي شيء قابل لأن يصنع أو تصنع له أو من أجله آلة أو ماكنة، مما جعل المجتمعات تدخل في تحولات كاسحة جعلتها تختلف كلية عن فترات ما قبلها. وسوف يستمر التغيير مع تقدم الزمن بدون توقف، وهذا ما نشاهده اليوم في الصين وكوريا والهند وسنغافورة وغيرها. وما تفتقده المنطقة العربية حيث “صنع الأشياء” ليس في الثقافة السادة، ولا الممارسة المجتمعية.

 

لقد كان الحدث الأكبر على صعيد الإنسانية أن الثورتين الصناعية الأولى والثانية أكدتا العديد من المسائل الفكرية والفلسفية الرئيسية:

 

  1. إن عقل الإنسان قادر على الخيال والإبداع والإنجاز والبناء والتصنيع بدون حدود. وان التصنيع ضاعف من قدرات”العقل الإنساني التراكمي” وعزز “الإبداع التراكمي التنوعي للإنسان”. وهذا فتح المجال لفروع جديدة في علوم الاجتماع والنفس والسلوك ومجالات جديدة للبحث فيها.
  2. إن القواعد الأساسية للمفاهيم العلمية التي وصل إليهاالإنسان صحيحة ويمكن البناء عليها وتطويرها، وتحويلها إلى منجزات تكنولوجية وهندسية ومن ثم إلى منتجات قابلة للتسويق والتداول.
  3. إن عقل الإنسان وما لديه من علم ومعرفة،هو الثروة الحقيقية،وهو مرجع المسؤولية ومناط المساءلة المدنية والأدبية والأخلاقية. وبالتالي أصبحت المؤسسات التعليمية والأكاديمية والبحثية هي مصانع الثروة ومناجم الرأسمال البشري أو الثروة المعرفية.
  4. إن الإنسان في المجتمع الصناعي كائن مخاطر ومغامر قادر إلى حد كبير على التعامل مع الطبيعة، من منظور التعايش والقدرة على التأثير والتغيير، وتوظيف العلم والتكنولوجيا لهذا الهدف. وينسحب الأمر على أصحاب العلم كما ينسحب على أصحاب الصناعة.
  5. أن التصنيع هو المدخل الأكثر فاعلية وكفاءة وديمومة للتغيير المجتمعي والفكري والثقافي والسلوكي والنفسي والأخلاقي ،ولارتقاء التعليم وتحقيق أهدافه، وتقدم البحث العلمي.
  6. إن التصنيع هو البيئة الحاضنة والمواتية للتطويرالاجتماعي الثقافي ولتنمية الاقتصاد وزيادة القيمة المضافة وبناء الثروة، والتوجه نحو الديموقراطية والمشاركة. وهو القطار الأسرع لمغادرة محطات الماضي بكل متاهاتها والانتقال إلى المستقبل.
  7. أن التعليم والتعلم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي في جوانبه النظرية والتطبيقية والمهاراتية ينبغي أن يتطور بالسرعة والاتجاه الذي تسير به الصناعة والتي تتطلب الكثير من “التخصصات المتداخلة ” ليفيد منها في التطبيقات العملية، وفي نفس الوقت يعطيها مزيداً من الزخم والاتساع.

 

انطلق العلماء والمفكرون والفلاسفة والمتعلمون والمثقفون والفنانون يبحثون في كل موضوع وكل مسألة بدون حدود. وبذلك انطلق الإنسان بكامل طاقاته متحرراً من أي قيود تحول دونه ودون الخيال و الإبداع والابتكار والتجديد. و”لأن تيار التنوير والتجديد في أوروبا وفيما بعد في الدول الناهضة كان يستند إلى إنجازات فعلية مادية وتنظيمية ومجتمعية جديدة تتحقق في كل يوم، وعلى كل صعيد، ويعايشها كل فرد من أفراد المجتمع،نتيجة الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية.فلم يعد هناك مجال للمجتمع أو الفرد أو المثقف أو الأكاديمي أو الإنسان العادي للاستغراق والتوهان في الجدل الكلامي العقيم الذي لا يعبر عن شيء حقيقي، ولم يعد بإمكان البحث العلمي أن يكون شكلياً أو منفصلاً عن الواقع أو مستمداً فقط من أبحاث سابقة، أو أن تكون غايته الكلية النشر فقط. ولم يعد هناك من قيمة أو مبرر للتطلع إلى الماضي أو الاستغراق فيه.”لأن الحاضر والمستقبل الذي يشارك فيه الجميع أصبح الشغل الشاغل للعقل والفكر والثقافة بل والسياسة والمشاعر والتطلعات والطموحات“.

 

لم يعد ممكنا أو مقبولا في المجتمع الصناعي تأجيل كل شيء، والدوران حول المشكلات دون الدخول فيها كما يجري في المجتمعات الزراعية ،وفي الدول النامية غير الصناعية. إضافة إلى أن حالة التصنيع وما يرافقها من قدرات وإبداعات وابتكارات وأبحاث واكتشافات، هي في جوهرها فرصة لابتكار الحلول للمشكلات. وقد أضافت الثورة الصناعية الثانية ثم الثالثة والرابعة إلى المجتمعات مفهوم السرعة في الحركة والسرعة في الإنجاز والحسم في المسائل،بل والسرعة في كل شيء. وتحسن مستوى المعيشة بفضل انخفاض أسعار البضائع الناتج عن الإنتاج وزيادة الإنتاجية.

 

ولم تقتصر التحولات على المدن بل أن الثورات الصناعية دخلت الأرياف من خلال ربطها بالمدن والمراكز الصناعية، وحملت معها رفع مستوى التعليم والمؤسسات الأكاديمية في الأرياف ،باعتبارها ستدخل ميدان الصناعة، وبالتالي تلاشت عزلة الأرياف بالضرورة، وأصبحت جزء من صميم الحركية الاقتصادية والتعليمية والتأهيلية.

 

ومن جانب آخر كان للثورات الصناعية الفضل الأكبر في انتشار التعليم وارتقائه وتنوعه على المستوى الجماهيري. فلم يعد التعليم نوعاً من الترف ،أو رمزاً للمكانة الاجتماعية مقصوراً على الطبقة العليا، وإنما أصبح هناك حاجة اقتصادية اجتماعية إدارية للمتعلمين والعلماء والباحثين في شتى العلوم والتخصصات. وكلما تقدمت الصناعة في مجال، تابعها التعليم فيه أو سبقها البحث العلمي إليه. لقد أصبحت العلاقة بين الصناعة والتعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والإنتاج والإبداع علاقة تشابكية عميقة متصاعدة ومركبة، نلحظ نتائجها بوضوح في الدول الصناعية المتقدمة، وفي الدول الناهضة. لقد دفع التنافس بين المنتجين للسلع والخدمات، وتراكم الثروة والثقة المطلقة بجدوى العلم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، دفع الشركات لإنشاء آلاف مراكز الأبحاث المتخصصة والمعاهد والجامعات،والإنفاق عليها إضافة إلى تمويل مشاريع البحث والتطوير التكنولوجي في الجامعات الأخرى سواء رسمية أو أهلية. وتصاعد إنفاق القطاع الخاص على البحث والتطوير حتى تجاوز 70% من مجمل الإنفاق في بعض البلدان.ولكن مثل هذه العلاقة تغيب تماما في الاقتصادات غير الصناعية والمجتمعات النامية والزراعية أو في مجتمعات ما قبل الصناعة. ولذلك لا نجد تعليما متقدما متميزا أو أبحاثا علمية طليعية أو اختراقات تكنولوجية في أي دولة غير صناعية وفي مجتمع غير صناعي. انظر جدول (10) و(11) حيث تبين أن أعلى الدول في أعداد الباحثين والإنفاق على البحث العلمي هي الدول الصناعية.

 

جدول رقم (10)

عدد الباحثين لكل مليون من السكان

 

أمريكا السويد إسرائيل فلندا كوريا الصين مصر الجزائر المغرب
4663 5239 8400 7707 4627 1071 617 170 647
الأردن السودان ماليزيا  

المتوسط العالمي

لعام 2015

1150.8
1200 (تقديرالكاتب) 290 372

المصدر: اليونسكو

 

 جدول رقم (11)

الإنفاق على البحث والتطوير لكل فرد

دولار بالقوة الشرائية

 

أمريكا كوريا إسرائيل سنغافورة فلندا مصر السعودية المغرب ماليزيا الأردن
1442 1518 1361 1892 1318 73 60 48 344 76
الصين قبرص السودان الجزائر
المتوسط العالمي

لعام 2015

233

دولار / لكل فرد

 

 

99 151 5 4

 

ومع قدوم عام 1969 انطلقت الثورة الصناعية الثالثة.لتحمل معها ثورة الإلكترونيات والاتصالات وانطلاق الحاسبات وأتمته الصناعة،ومكننة الجزء الأكبر منها، والاختراعات المذهلة في أنظمة الرقابة والتحكم. وفي نفس الوقت تنامت المسؤولية تجاه ما يجري بالعالم. وقد أصبح البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والتعليم المتميز مطلبا وطنياً وركيزة اقتصادية اجتماعية أساسية في كل مكان. وما حملته الثورة الصناعية الثالثة من منجزات وقيم وتطلعات لم يقبع في صالات المصانع ومختبرات البحث للشركات، بل انتقل فوراً وبشكل متداخل إلى التعليم في البيت والمدرسة والمعهد والجامعة ومراكز الأبحاث، وإلى الثقافة والإعلام والى الأرياف والقرى بل والى كل بقعة يمكن الوصول إليها. وحقيقة الأمر انه في كل ثورة من الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة والرابعة كان المجتمع والفكر والتعليم والثقافة والفنون والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي جزء صميمياً في المعادلة،لأن الذي يصنع ويبدع ويصمم ويكتشف وينتج ويسوق ويخترع ويبتكر هم ليسوا النخبة،وإنما عشرات الملايين من أبناء وبنات المجتمع ذاته. من مختلف المدن والقرى والمذاهب والأديان والطوائف والألوان والأعراق. بمعنى أن الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأصدقاء والصديقات كل هؤلاء يصنعون الثورة والثروة، ويفتحون فيها آفاقا جديدة: يعلمون ويتعلمون ويبحثون ويطورون ويبدعون بمشاركة فاعلة من المستثمرين والمعلمين والأكاديميين والبنوك والشركات والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وكل من هو في المجتمع، وكل ما يدفع به الاقتصاد. وهكذا انتقل الاقتصاد وانتقل المجتمع من الإقطاعية أو الفردية إلى المؤسسية، ومن القبيلة إلى المنظمات والشركات. إن هذه الأعداد من العاملين في الصناعة مباشرة أو غير مباشرة يعملون في مجموعات وفرق داخل مصانع ومكاتب وساحات مناجم وآليات “تمثل في مجملها بوتقة للصهر المجتمعي”.فراحت الحواجز والفوارق بين مكونات المجتمع في التراجع والتلاشي ،لان نجاح الوحدة الصناعية ونجاح الإنتاج والمؤسسة المنتجة ونجاح المنتج ذاته، ونجاح البحث العلمي والاختراع ،بل وكل عمل يعتمد على الجميع، حيث يتكامل الأفراد والجماعات بغض النظر عن الأصل والدين والقبيلة والمذهب واللون. وهم يرتبطون بخط إنتاج واحد ويتكلمون لغة مهنية واحدة وتربطهم علاقات قوية بالغة التداخل. هذه الخصائص وغيرها هي عكس ما في المجتمع الزراعي الذي لا يحتاج أفراده إلى مثل هذا التداخل، فتبقى الفروق والحواجز الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية والجهوية والطبقية في كل مكان.

 

ومرة ثانية هذه هي الأهمية التاريخية للثورات الصناعية في تطوير المجتمعات وإعادة صياغتها على شكل أكثر تقدماً وإنسانية ورقياً، رغم العثرات هنا وهناك. لقد انطلقت الدول الصناعية تنفق على البحث والتطوير والإبداع مئات المليارات من الدولارات فساعد ذلك على تكوين الثروة وساعد أيضاً على تحسين المستوى المعيشي في معظم بقاع العالم. ودخل العالم المتقدم مع الثورة الثالثة في مرحلة ضبط الإيقاع والتركيز على قضايا إنسانية كثيرة وما يرافقها من علوم وأبحاث في الإنسانيات من مثل الحاكمية والسعادة والديمقراطية والمشاركة وسيادة القانون ومؤشرات التعليم والمعرفة والفساد وغير ذلك الكثير. وهي كلها قضايا بالغة الأهمية في المجتمع الصناعي بسبب التداخلات العميقة والحرجة بينها وبين النجاح الاقتصادي الذي أصبح هدفاً مشتركاً للجميع، وهو الأمر الغائب في المجتمع الزراعي أو التجاري ،ولا تمليه الضرورة. ومنذ مطلع السبعينات دخلت مجتمعات جديدة ساحة الثورات الصناعية وفي مقدمة هذه الدول كوريا الجنوبية والصين وسنغافورة وماليزيا والهند وإيرلندا والبرازيل فأحدث ذلك خلال عشرين أو ثلاثين سنة أي مع بداية التسعينات ثورة اجتماعية فكرية ثقافية هائلة في تلك البلدان، فتغيرت مجتمعاتها وتطور التعليم لديها والبحث العلمي بعد أن كانت مكانتها في التعليم العالي والبحث العلمي في ذيل القائمة الدولية. سنغافورة و كوريا نموذجا.

ومرة ثانية تبدو الثورات الصناعية وكأنها تيار كهربائي يسري في شبكة عصبية للإبداع والابتكار والتجديد والخيال،و هذا روح التعليم، فينتفض المجتمع ويصحو من حالة الاسترخاء والفراغ والضياع إلى حالة جديدة. فانطلقت تلك المجتمعات تبدع وتصنع في كل اتجاه وراحت مفردات الجسم المجتمعي والمؤسسات والقوانين والإدارة والسياسة تتواءم مع متطلبات التجديد وأصبح العلم والتكنولوجيا يشكلان قاعدة الانطلاق لكل شيء، فوقعت تلك التغيرات الهائلة حين تحرر الإنسان من عقد الماضي وقيوده، وأعادت المجتمعات اكتشاف نفسها وأعادت بناء نظام التعليم لديها في محتواه وأدواته و مناهجه و مؤسساته، وأعادت تأهيل المعلم والمدرسة والجامعة بل وتأهيل كل فرد في المجتمع.

 

وفي عام 2000 دخل العالم الثورة الصناعية الرابعة أو الثورة الرقمية حيث أصبح التواصل المجتمعي، ونقل وتخزين وتداول المعلومات والبيانات منفتحا بدون حدود. وتطور العالم الافتراضي بتفاصيل مذهلة، ابتداء من ألعابالأطفال ومرورا بالغرف الصفية والمختبرات الافتراضية، وانتهاء بالفضاء. واحتلت الأنظمة الذكية والروبوطات مكانة متقدمة في الصناعة إلى الدرجة أن العديد من الأعمال والمنتجات أصبحت تنفذ من خلال الروبوطات والأنظمة الذكية، ابتداء من التصاميم المعمارية وانتهاء بدراسة الفضاء وأعماق البحار. وبدأ الذكاء الاصطناعي يحل محل الإنسان في كثير من الأعمال، وتطورت صناعات وعلاقات صناعية قائمة على هذه المعطيات. هل كان من الممكن أن يتم كل ذلك وغيره دون التشبيك الهائل بين التصنيع وبين الأكاديميا بالتأكيد لا. لقد أصبح كل منهما مدرسة للآخر ومختبراً للتعليم والإبداع المشترك وهذه الأجواء هي التي تولد قادة الفكر والعلم والتكنولوجيا.توسع الإنسان في استعمال مواد وأنظمة جديدة من خلال أنظمة رقابة وتحكم واتصالات محمولة، مما أتاح الفرصة للمنافسة العالمية على مستوى الوظيفة الواحدة والعمل الواحد. وأصبح التواجد الفيزيائي الفردي في مكان العمل ليس ضرورياً في كثير من الأحيان.

 

وهذا أعطى فرصة جديدة لتطوير العقلية العلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية المجتمعية و الجامعية ،وأصبحت “العلمية الخاصة” بالمجتمعات الصناعية تستبق نظيراتها في المجتمعات النامية بمراحل كثيرة. واستلزم كل ذلك إعادة النظر في برامج التعليم المدرسي والدراسات في كليات الهندسة والعلوم والاجتماع وجميع التخصصات على الإطلاق، وفتح آفاقاً غير محدودة للتعلم عن بعد والتعلم الإلكتروني في شتى المواضيع، وجعل الإنترنت مكتبة عالمية مفتوحة. كل ذلك للتماهي والتجاوب مع التغيرات المرافقة للثورة الصناعية الرابعة.

 

دخل العالم مرحلة جديدة تقوم على ترشيد الطاقة وحفظها، والاعتماد المتزايد على الطاقة المتجددة على مختلف المستويات: ابتداء من المستهلك المنزلي البسيط وانتهاء بالصناعات والمدن وإنارة الشوارع ومحطات ضخ المياه والمركبات الفضائية. كل ذلك حرك الموضوع الاجتماعي والعلمي التكنولوجي والتعليمي والبحثي باتجاه المستقبل أكثرفأكثر. رافق ذلك الاكتشافات والأبحاث والاختراقات الهائلة في الطب وهندسة الجينات، وما انبثق عنها من صناعات طبية هندسية جديدة، أدخلت تغييرات على الإنسان والحيوان والنبات،وأصبح المنظور للأشياء مهما كان صغرها أو ضخامتها، بساطتها أو تعقيدها،يقوم على إعادة الهندسة وهندسة الأشياء الجديدة في كل مجال، لينعكس كل ذلك على مستوى المعيشة والدخل والفكر والثقافة والفنون والتعليم والإبداع والخيال وتنظيم المجتمع.

 

7-الدول الناهضة

 

كيف يمكن تفسير هذا التغيير في الدول الناهضة؟ الإجابة الموضوعية المركزة هي:” انه كان لدى كل دولة ناهضة مشروع وطني للنهوض والتحول من حالة التخلف إلى التقدم ومن الاقتصاد الزراعي التجاري الهامشي إلى الاقتصاد الصناعي في شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. “بمعنى أن التصنيع الشامل كان جوهر المشروع الوطني. وبالرجوع إلى ما قاله وكتبه مهاتير محمد في ماليزيا و لي كوان يو في ماليزيا وكزياو بنج دنج في الصين نجد نماذج ساطعة على وضوح مشروع النهوض الوطني للدولة في عقل القيادة،والإصرار من خلال البوابة الاقتصادية القائمة على التصنيع ثم التصنيع ثم التصنيع على تنفيذه بل والتضحية من أجله. وحتى تتمكن هذه الدول من اجتياز بوابات الثورات الصناعية الثلاث، استعانت بالمفكرين والعلماء والخبراء والمبتعثين إلىجميع أصقاع الدنيا طلبا للعلم والمعرفة. وفي البدايات وقبل أن تدخل مرحلة الإبداع والابتكار لجأت تلك المجتمعات إلى مبدأ ” الهندسة العكسية “Reverse Engineering” في كل شيء تقريبا. بمعنى أن تنقل الأمور والتصاميم والصناعات كما هي من خلال التفكيك والتقليد، لتنتقل بعد ذلك إلى إتقان العمل، وبعد ذلك إلى التغيير والإضافة، ومن ثم إلى الإبداع والتجديد.لم يكن يعنيها في ذلك الوقت نشر الأبحاث النظرية والمستلة من رسائل الماجستير والدكتوراه، ولم يكن يعنيها موقعها في المجلات العلمية بقدر ما كان يعنيها التزاوج المثمر بين الأكاديميا والصناعة، بين البحث العلمي وتطوير الإنتاج إلى أن تمكنت من ذلك.  وهكذا استطاعت الصين أن تضاعف دخل الفرد 32 ضعفاً خلال 40 سنة وكوريا الجنوبية 19 ضعفاً وإيرلندا 12 ضعفاً وسنغافورة 11 ضعفاً في حين لم يتجاوز ذلك في المنطقة العربية 6 أضعاف.

 

ونظرة سريعة إلى ما كانت عليه الصين أو كوريا الجنوبية مثلاً عام 1965 وتتبع التغيرات المتلاحقة في الصناعة والمنشآت والمجتمع والتعليم والبحث والتطوير والتكنولوجيا والإبداع والفكر والثقافة وللفنون، يدرك المرء بوضوح أن هذ الدول ومجتمعاتها مرت بالثورات الصناعية الثلاث السابقة واجتازتها بنجاح، إذ لا يمكن عمليا القفز عن واحدة أو التخلي عن أخرى كما يتوهم البعض. ولكن يمكن اجتياز المرحلة أو الثورة الواحدة بسرعة ورشاقة لأسباب ثلاثة:

الأول: الإفادة من تجارب الثورات السابقة والتعلم من الدول المتقدمة الثاني: التصميم على إنجاح المشروع الوطني للنهوض. الثالث: توافر مواد ووسائل وتصاميم وإمكانات وبدائل وتعليم وبحث علمي لم تكن متاحة في الماضي.

 

8-المنطقة العربية

 

إذا استثنينا التغيرات السطحية الناشئة عن التأثر بالعولمة، واستيراد المنجزات الحضارية الحديثة دون تصنيعها، فمن الواضح أن المنطقة العربية لازالت تراوح مكانها أو تتراجع في المحاور الأساسية للحضارة المعاصرة، ونعني بذلك المحاور الاجتماعيةوالاقتصادية والفكرية والعلمية والتكنولوجية والإبداعية. وبمراجعة مؤشرات هذه المحاور نجدها في المنطقة العربية أدنى من المتوسط العالمي في معظم الحالات.

يعود ذلك إلى أسباب رئيسية أربعة: الأول: إن الانشغال الدائم لدى الإدارات العربية هو الحكم والسلطة، وليس بناء الدولة بالمؤسسات والقانون، وتطور المجتمع من خلال تغيير المفاهيم والسلوكيات والأداء. الثاني: إن هاجس التغيير الجذري يمثل مصدر قلق دائم لصاحب السلطة، لأنه يسعى دائماً إلى بقاء الأوضاع على حالها، واستمرارها كما هي. الثالث: إن المنطقة العربية عموما تشكل الصحراء والبوادي والمناطق الجافة 85% من مساحتها، بكل ما يعني ذلك من ضآلة الإنتاج ومحدوديته واستبداله بالتجارة، والعزوف عن صنع الأشياء وتطويرها وتحسين كفاءتها.الرابع: الاعتماد التاريخي على ” الآخر” وعلى ” الأجنبي “سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الدفاع أو العلم أو التكنولوجيا أو الغذاء. وبالتالي أصبح الاستيراد هو العمود الفقري للبقاء في المنطقة (باستثناءات قليلة).

ومن جانب آخر فإن السياسيين والمثقفين والمفكرين ركزوا في معظم الأحيان على السياسة وليس صنع الثروة الوطنيةوالاقتصاد من خلال الإنتاج الوطني. وركزوا على المتوارث المنقول وليسالتنوير الذي تبدعه العقول، وعلى الماضي وليس المستقبل، وعلى التخويف والنصح والتبشير، وليس على خلق آليات التغيير الحقيقية، وفي مقدماتها أنماط ووسائل الإنتاج. ولم يتأملوا أو يدرسوا المصانع والماكنات من منظور اجتماعي فكري ثقافي علمي تعليمي، ليبحثوا في دورها وتأثيراتها في تغيير الإنسان والمجتمع، ولم تجذبهم المناجم والمعادن ليتابعوا التغيرات في المدن والقرى. واعتبر الكثير منهم أن الأدوات والماكنات والمعدات كلها مسائل ثانوية أو مجرد ” حديد ” يمكن استيرادها في أي وقت ومن أي مكان ودون الإدراك بأن هذا “الحديد” بما هو عليه قد تعلمت منه الأجيال وطورته على مدى السنين فغيرته وتغيرت. وحين يتناولون التغيير الاجتماعي لا يحرصون على البحث في البيئة المادية المواتية والحاضنة للتغيير. فتارة يرون السياسة مصدر التغيير، وتارة يرون التعليم أساس التغيير، وتارة يركزون على الفكر العقائدي. والنتيجة على مدى المئة عام المنصرمة أن السياسة هبطت لعدم تقدم المجتمع، والتعليم تراجع حتى أصبحضباباً. والتغيير تحول إلى انقسام وتفتيت وحروب، وتمزقت الأحزاب بين توجه السياسيين للحكم والسلطة، وتوجه المثقفين والمفكرين نحو السياسة والماضي والتراث والعموميات الكلية. ولذا لم يتبلور في أي بلد عربي ” مشروع وطني للنهوض ” على غرار ما جرى في دول شرق أسيا. وبالتالي لم يصبح التصنيع هدفا لتطوير الاقتصاد وتغيير بنية المجتمع، وإنما قبع التصنيع على أطراف الفضاء السياسي والاقتصادي باستثناء فترات محدودة وقصيرة (محمد علي باشا وجمال عبد الناصر في مصر مثلا)،وباستثناء المبادرات الفردية لإنشاء مشاريع صناعية قائمة بذاتها وليست حركة تصنيع شاملة. ومع انزواء التصنيع في الأطراف انزوت الديمقراطية والمشاركة والثقافة المجتمعية والأحزاب إلى الأطراف أيضاً، وخاصة من حيث الفعل والتأثير لان المجتمع لا يتغير إذا لم يتغير نمط ووسائط الإنتاج. وحتى يومنا هذا لا زالت الدول العربية لا يهتز لها رمش لو مئات أو آلاف المصانع أغلقت أبوابها في حين تنتفض الدولة من أجل مظاهرة أو مقال يطلقه أحد المعارضين.

 

ولم يتنبه الكثير من السياسيين والمفكرين والاقتصاديين والأكاديميينإلى ضرورة الإجابة على السؤال: لماذا لا ينمو الاقتصاد الوطني بمعدلات كافية لمواجهة متطلبات المجتمع في جوانبها المادية والخدمية والمعرفية؟ لماذا تستمر موازنات الحكومة في حالة عجز من سنة إلى أخرى؟ ولماذا تضطر الدولة إلى تغطيتها بالمساعدات والاستدانة والمنح؟ ولماذا لا يتغير المجتمع إلى الأمام؟ ولماذا هذا الاعتماد المتواصل على ” الخارج” في كل المسائل الهامة؟ لماذا تتراجع الزراعة ولماذا تتصاعد المستوردات؟ ولماذا نجد أن نصيب الفرد العربي من الإنتاج الصناعي أو الزراعي أقل من المتوسط العالمي وأقل من 15% من متوسط نصيب الفرد من هذا الإنتاج في الدول المتقدمة؟

عشرات الأسئلة كان ينبغي أن تثار للوصول إلى الإجابة الصحيحة وهي:”أنهدون اقتصاد صناعي متقدم ومجتمع صناعي فإن الدول بمجتمعاتها ومؤسساتها وأفرادها، لا تستطيع أن تجاري متطلبات الحضارة المتقدمة المعاصرة. وبدون التحول إلى الاقتصاد الصناعي فإن التغيرات البنيوية في المجتمع تبقى سطحية وضئيلة، وتبقى العقلية التي تتعامل مع الحاسوب ومع الشبكة العنكبوتية هي العقلية قبل صناعية، ويصعب أذاك انتظام المجتمع في برامج ومؤسسات وسلوكيات وأخلاقياتوإبداعات وأحزاب. ويصعب للتعليم أن يتقدم، وللبحث العلمي أن يزدهر، وللتكنولوجيا أن تتطور. فهذه كلها من صميم خصائص المجتمع المتقدم أي المجتمع الصناعي.إن الخارج لا يغير المجتمعات ولا يعيد بناءها، ولا يفشل تعليمها ولا ينشر البطالة فيها ولا يهمل أريافها وبواديها ولا يوصل شبابها إلىالإحباط، ولا يطفئ جذوة الإبداع في أبنائها وبناتها. ولكنه إذا أراد الشر والأذى فإنه يستغل ما فيها من ضعف وما يعتورهامن ثغرات.

 

9-سوق التعليم العالي والبحث العلمي

 

ولعل الفترة التي تلت استقلال الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية هي الفترة التي شهدت التوسع في التعليم العالي والطلب عليه، لأن الدولة المستقلة كانت بحاجة إلى المتعلمين وخريجي الجامعات لتلبي احتياجاتها من الموظفين. ولكن هذا “الطلب” تمت تلبيته خلال بضع سنوات وراح التعليم العالي خاصة يعاني من التعثر والبطء في الحركة فلا الخريجون قادرون على مواجهة متطلبات السوق، ولا الفنيون قادرون على إيجاد فرص عمل. ولذا لم يعد التعليم يترك أثراً يُذكر في الحالة الحضارية للشعوب. وبقيت المنطقة متخلفة في الإنتاج، بطيئة النمو، تعتمد على استيراد المنجزات الحضارية واستيراد المعرفة دون صنعها. وما نشهده اليوم في المنطقة العربية هو عجز متبادل بين الأركان الثلاثة للتقدم وهي المجتمع والتعليم والاقتصاد.

 

وعند التدقيق في بنية الاقتصادات العربية نجد أنها إما اقتصادات ريعية تقوم على بيع الثروات الطبيعية كالنفط والغاز وغير ذلك من الخامات لتشكل الجزء الأكبر من الناتج الوطني كما هو الحال في الدول النفطية، وإما اقتصادات تعتمد على التجارة والزراعة التقليدية وقليل من الصناعات وكثير من الخدمات ذات القيمة المضافة المتواضعة. أما استخراج الثروات الطبيعية وبيعها فغالباً ما يتم من خلال الشركات الأجنبية والخبراء الأجانب. وأما التجارة والصناعات المتواضعة فهي رهن الاستيراد: استيراد الغذاء واستيراد المعدات والماكنات واستيراد كل ما هو حديث وفيه تكنولوجيا. وبالمقابل فإن الجامعات تخرّج طلابها بغض النظر عن الاقتصاد والسوق. وأساتذة الجامعات يجرون أبحاثهم النظرية في غالبيتها لغايات النشر والترقية وبالتالي فهم بعيدون عن الحياة الاقتصادية الاجتماعية. ومع أن عبارة “الاعتماد على الاستيراد” تبدو عادية للكثيرين، إلاّ أنها تمثل مدخلاً قاتلاً “للطلب” على البحث العلمي و التطوير التكنولوجي، وقاتلا للطلب على التميز في التعليم والإبداع،ذلك أن كل التحديات تجرى الاستجابة لها من إنتاج الآخرين. فلماذا البحث والتطوير والتشبيك والإنفاق والإبداع؟؟

 

وهذا من شأنه أن يلغي حالة “الطلب” على التعليم ومنتجاته وعلى البحث العلمي ومنتجاته وعلى التطوير التكنولوجي والإبداع ومنتجاته.

 

في عام 1961 وبعد الانقلاب في كوريا و في بدايات الثورة الصناعية الثالثة، أدركت الحكومة العسكرية ضرورة تصنيع البلاد وكذلك إصلاح التعليم و تحفيز الهوية الوطنية.

 

وفي السبعينات كان على الحكومة الكورية أن تصلح التعليم وتبدع في الإدارة الأكاديمية و”تتيح التنوع “لكي تواجه احتياجات سيرورة التغيير الاجتماعي الاقتصادي.

وفي التسعينات أدركت الحكومة أن عدم التوازن بين الكمية والنوعية في التعليم لم يساعد على دخول مجتمع المعلومات والمنافسة على المستوي الدولي، فكان لا بد من إصلاح جديد للتعليم وفي إطار تغيرات التعليم العالي عام 1994 تم تشكيل هيئة رئاسية على طريق “خلق كوريا جديدة”، وركزت اللجنة في تقريرها على تحسين التنافسية الدولية وتحسين نظام دخول الامتحانات. وهكذا كان إصلاح التعليم استجابة لما تتطلبه الثورتان الصناعية الثالثة و الرابعة والتنافس الدولي في كل مرحلة.(جيونغ – كيو لي(2001 Joeng – Kyu Lee

 

قد تكون هناك أسباب كثيرة في المنطقة العربية

تفرض الحالة السائدة، ولكن واحداً من أهمها

” إن الأكاديميين والتربويين والاقتصاديين والسياسيين

على حد سواء لم يدرسوا بتمعن كيف ازدهر التعليم في

الدول المتقدمة، ولذا لم يهتموا بالحاضنة المجتمعية

والاقتصادية للعلم والتعليم، وإنما كان “التركيز على داخل

التعليم” حتى أسوار المدرسة أو الجامعة، أي الهندسة

الداخلية للتعليم. ولذا لم يدركوا إن التعليم والعلم والبحث

العلمي والإبداع كلها لا تعمل في الفراغ، و إنما تعمل وتتعامل

وتفعل وتتفاعل مع الدائرتين المكملتين ،أو الفضائيين

الملازمين، وهما: المجتمع والاقتصاد.وهذا يعني أن نقل التعليم

كأساليب ومناهج ومقررات لا يكفي  أبداً لكي تصل الأمور

إلى نهايتها كما ينبغي”

 

ولأن الأقطار النامية وفي مقدمتها الأقطار العربية دأبت على استيراد مستلزماتها مهما كانت هذه المستلزمات لفترة طويلة، فقد تأصلت نزعة الاستيراد ،وتغلغلت في جميع مرافق الحياة.. وبذلك قتلت الدول العربية مبدأ التحدي والاستجابة الذي أشار إليه أرنولد توينبي في ازدهار الحضارات واندثارها عند دراسته لتاريخ العالم (توينبي 1934).

 

 

10-الاستنتاج

 

دون الدخول في التفاصيل فإن المعايير العامة للتعليم العالي المتميز تتمثل في محاور رئيسية هي:

 

  • التأثير الاقتصادي الاجتماعي الثقافي

للكتلة المتعلمة من الخريجين

  • التعليم النوعي الذي يصدر عنه خريجون متمكنون في تخصصاتهم قادرون على التجديد والإبداع والإضافة.
  • بناء عقل وشخصية الطالب وتخفيز إمكاناته الإبداعية وروح التشارك والفريق والإنجاز.
  • إنتاج واحتضان علماء مرموقين في تخصصاتهم ومهندسين ومفكرين وفلاسفة وقادة رأي قادرين على تناول مشاريع أو مواضيع كثيرة ومعقدة وجديدة.
  • التنوع في التخصصات والاهتمام بالتخصصات المتداخلة.
  • بناء و تطوير وإغناء مراكز الأبحاث والدراسات والتطوير التكنولوجي.
  • النشر العلمي وبراءات الاختراع.
  • استشراف المستقبل ومخاطبة المسائل الوطنية الكبرى.
  • متابعة المستجدات العلمية والهندسية والتكنولوجية الجديدة والمساهمة في حل المشكلات التي تعترض القطاعات الصناعية والاقتصادية المختلفة.
  • التشبيك مع المؤسسات العلمية الوطنية والدولية والتشبيك مع الصناعة.
  • تعزيز منظومة المهارات لدى الطلبة بما فيها مهارات التخصص والمهارات الحياتية والمهارات الحاسوبية ومهارات التوظيفية.

 

والسؤال هل يمكن تحقيق هذه المعايير موضوعياً وليس شكلياً وبكفاءة وفاعلية واستمرارية في مجتمع غير صناعي؟ هل يمكن تحقيقها لكي تصبح جزء من جسم المجتمع و عقله، وليس عصفوراً في قفص النخبوية دون تصنيع القطاعات الاقتصادية المختلفة؟ هل يمكن الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي بسخاء وبما يكفي، من اقتصاد ريعي أو من خزينة الحكومة إذا كان مثل هذا البحث والتطوير دون عائد اقتصادي؟ هناك عشرات الأسئلة السياسية والعلمية والتعليمية والبحثية والإبداعية والاجتماعية والفكرية والثقافية تدور في نفس الحلقة وتبحث عن الإجابة. حيث لا إجابة ولا بديل عن الدخول في التصنيع كمشروع وطني والاعتماد على الذات. الثورة الصناعية ثورة اقتصادية اجتماعية وعلمية وثقافية كاملة.

مراجع مختارة

1. إبراهيم بدران،2017

عقول يحاصرها الضباب

دار الشروق

عمان

2. إبراهيم بدران، 1985

مشكلات العلوم والتكنولوجيا في الوطن العربي

دار الشروق

عمان

3. إبراهيم بدران

النهضة وصراع البقاء، 2005

من مآزق التخلف إلى آفاق التقدم

المؤسسة العربية للتحديث الفكري – المركز الثقافي العربي

بيروت

4. إبراهيم بدران، لبنى البدري،2007

الهندسة والمهندس

الأساسيات والمفاهيم

دار الشروق

عمان

5. Dillon Rathman, 2012

Cultural and Economic Impacts of the Industrial Revolution

https://prezi.com/0-h-uqnt7gni/cultural-and-economic-impacts-of-the-industrial-revolution/

 

6. دائرة الإحصاءات العامة الأردنية

التقارير السنوية

7. UNESO, 1991

Education for the 21st Century

8. الأمم المتحدة، 2016

تقرير التنمية البشرية

9. KPMG, 2018

Change Readiness Index 2017

10. Arnold Toynbee, 1934

A study of History

Oxford University Press

London

11. WW McMahon, 1987

Education and Industrialization

Illinois University