في كلمته المتميزة في الدورة 79 للأمم المتحدة، خاطب جلالة الملك عبدالله الثاني المجتمع الدولي بعديد من القضايا بكل صدق ومسؤولية وإقناع، كان في مقدمتها: ضرورة إنهاء الحرب الوحشية على غزة، فحجم الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة غير مسبوق في التاريخ الحديث، ووقف العدوان على لبنان، وان إسرائيل تتجاوز الخط الأحمر تلو الآخر، وضرورة إنشاء آلية دولية لحماية الفلسطينيين في جميع الأراضي المحتلة، والرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين باعتباره جريمة حرب لا يمكن السكوت عنها، وان العدالة الدولية (للأسف) تنصاع للقوة، وان المجتمع الدولي اكتفى بدعم حل الدولتين من خلال التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع. هذا إضافة الى العديد من القضايا المهمة التي تبين تقصير المجتمع الدولي والامم المتحدة للقيام بواجبها إزاء الفلسطينيين وإزاء القانون الدولي ومن ثم وضع حد للتجاوزات الإسرائيلية للقوانين والمواثيق الدولية. وبقدر ما لاقى الخطاب الترحيب والاهتمام من معظم دول العالم والمؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدني، فإنه لاقى الاهتمام والترحيب أيضا على المستوى العربي والوطني والفلسطيني.
ولكن يبقى السؤال: هل يحمل الخطاب رسائل الى دول المنطقة العربية؟ ورسائل وطنية لنا في الأردن بشكل خاص؟ في اعتقادنا أن الإجابة نعم. الخطاب يحمل رسائل بالغة الأهمية وعلينا قراءتها بتمعن. أولاً: إن إنهاء الحرب الوحشية على غزة وفي الضفة الغربية وعلى لبنان يتطلب من الجانب العربي عملياً وسياسيا واعلامياً، والتوقف الكامل عن توجيه اللوم للمقاومة لأنها أطلقت طوفان الاقصى، أو التخويف من قوة و تكنولوجيا العدو، أو الترويع من عدد الضحايا، أو تقاعس ايران بالرد على الضربات الإسرائيلية، فالاحتلال الصهيوني التوسعي جاثم على صدور الفلسطينيين منذ 57 بل منذ 76عاما، يقتل ويغتال ويدمر ويسجن ويستبيح ويصادر كل ما هو فلسطيني ويفسد كل ما هو عربي. وبالتالي فالمطلوب اليوم التوقف الكامل عن العودة الى « دفاتر التقاعس والتلاوم القديمة» والتصنيفات التي يتبناها البعض ازاء الفصائل المختلفة بسبب خلفيات مبدأية أو ايديولوجية أو سياسية. بل على الجانب العربي والفلسطيني الرسمي والشعبي ان يعزز مفهوم ودور المقاومة من منظور «شعب يقاوم الاحتلال ويسعى لحق تقرير المصير والخلاص من هذا المحتل الغاصب» الذي ينضح غرورا وكذبا وعنجهية وافتراء وعنصرية كما جاء في كلمة نتنياهو أمام الأمم المتحدة. ثانياً: تمتين وتمكين النسيج الوطني الأردني المتماسك والعمل على تعزيز إمكانات الأردن فعليا بعيداً عن التصنيف والتقسيم الفكري او الايديولوجي. فذلك ليس له مجال اليوم أمام الأخطار التي يصنعها التغول الإسرائيلي الذي يحاول تحويل نظر العالم عن جرائمه التي تجاوزت جرائم النازي إلى محاسبة ايران. ثالثاً: إن تهجير الفلسطينيين الذي ينادى به ويعمل عليه قادة الكيان الاستعماري الإسرائيلي يستهدف الأردن بالدرجة الأولى ومصر وسورية ولبنان. ولذا علينا جميعا العمل بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدفاعية لتحصين الأردن والبلدان الشقيقة ضد محاولات اسرائيل، والتي امتازت بالغدر والمكر والخداع والانتقال من خط احمر الى الذي يليه كما قال الملك. على الحكومة والمؤسسات الرسمية والأهلية ومنظمات المجتمع المدني ان تعمل بكل حكمة وعلم وعقلانية ومشاركة مجتمعية منظمة لإفشال مخططات التهجير التي قد تمتد إلى سنوات، وجعل التهجير الى الأردن وبلدان الجوار امراً غير ممكن، مهما حاول المحتل الاسرائيلي من وسائل وطرق. بمعنى ان على كل مؤسسة ان تضع لنفسها برنامجا تساهم فيه بجعل التهجير الى الأردن غير ممكن. وعلينا ان ننتقل من التصريح الى إجراءات عملية. رابعاً: إنشاء آلية دولية لحماية الفلسطينيين في جميع الاراضي المحتلة. أين الدول العربية وما هو دورها؟ ونحن نرى ان اسرائيل تعتدى على الفلسطينيين وأراضيهم وتعتدي على لبنان وعلى سورية وعلى العراق وعلى اليمن. فماذا تتوقع الدول العربية؟ الا تخشى ان تصلها نيران الاعتداءات الاسرائيلية؟ هل يمكن للدول العربية ان تشكل نواة للآلية الدولية المنشودة. وجيد ما قامت به السعودية بالدعوة لإنشاء تحالف دولي لقيام الدولة الفلسطينية. خامساً: انصياع العدالة الدولية للقوة. وهذا ينسحب على الدولة الواحدة وعلى مجموعة الدول العربية. وكما قال الملك «الأردن القوي هو الاقدر على دعم ومساندة اشقائنا في فلسطين». فكيف وعلى ضوء خطاب الملك نزيد من قوة الأردن وننتقل من مستوى معين الى مستوى أعلى في جميع الابعاد العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والثقافية. وهنا نحن نحتاج الى اهداف محددة لزيادة القوة يمكن قياسها حتى تصبح العدالة الدولية قريبة لما يسعى اليه الأردن ازاء الاحتلال في فلسطين سادساً: ماذا تعمل المجموعة العربية والفصائل الفلسطينية لدعم حل الدولتين باستثناء التصريحات التي ايضاً لا تسمن ولا تغني من جوع اذا لم تكن مدعومة بالإجراءات العملية التي تضغط على اسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا للتحرك في هذا الاتجاه؟.
وأخيراً فإن خطاب الملك في الامم المتحدة يحمل رسائل لا يجوز عدم النظر اليها وطنيا وعربيا وفلسطينيا. لماذا لم تعلن الفصائل حتى الآن انهاء الانقسام والدخول في ائتلاف وجبهة واحدة؟ ومتى يجري الاصلاح والتحديث في إدارة السلطة الوطنية الفلسطينية التي يهاجمها نتنياهو من جهة ويمنعها من التحرك من جهة ثانية؟ ومتى تخرج الدول العربية عن سكوتها وغيابها العملي، باستثناء الأردن، عن الساحة رغم ان الاخطار تهددها؟ فإسرائيل وخلفها الولايات المتحدة وحلفاؤها يريدون للمنطقة العربية ان تكون ساحة مفتوحة تضم دويلات مفتتة مبعثرة، حتى يمكن السيطرة عليها بشكل دائم، وحتى يمكن لإسرائيل ان تتوسع كما تشاء. فهل يكون خطاب الملك بكل إيجابياته وواقعيته جرس إنذار للجميع ليقوم كل بواجبه؟ تلك هي المسألة.