لعل موقع المحطة النووية من أهم المسائل التي ينبغي تناولها بالتحليل والتقييم قبل اتخاذ القرار بالسير في المشروع. ولكن الكتاب الأبيض الذي أصدرته هيئة الطاقة النووية الأردنية مر على الموضوع بسرعة خاطفة وترك الكثير من الغموض والضبابية. فهو:
أولاً: لم يربط بين موقع المحطة وبين تحلية المياه، والتي يشير إلى أهميتها أكثر من مرة . و تحلية المياه ربما كانت الدافع القوي وراء التفكير في المحطات النووية. من أين ستأتي المياه التي يمكن تحليتها وبكميات لا تقل عن (50) أو (100) مليون متر مكعب سنوياً؟ هل هي من البحر الأحمر أو من قناة البحرين؟ أو سيتم نقل الطاقة إلى العقبة وإنشاء محطة تحلية فقط هناك؟ ثم يعاد ضخ المياه من العقبة إلى شمال البلاد ووسطها؟ وما هي المنشآت اللازمة وما تأثيرها على الكلفة؟ كل ذلك كان غامضاً في الكتاب الأبيض. هذا في الوقت الذي تتحدث فيه هيئة الطاقة النووية عن (3) مواقع مختلفة أشد الاختلاف: العقبة أو الخربة السمراء أو الأزرق.
ثانياً: لم يشر الكتاب الأبيض إلى منهج الوقاية والاحتياطات المتوقع اتخاذها لمنع التلوث الإشعاعي البطيء للتربة والمياه والهواء، والتي تتطلب دائرة أمان يتراوح نصف قطرها بين (26) إلى (36) كيلو مترا. وتزداد هذه المسافة في الأجواء الحارة الجافة وشبه الصحراوية. وهذا أمر له علاقة مباشرة باختيار الموقع.
ثالثاً: كما تريد هيئة الطاقة النووية فقد اتجه الكتاب الأبيض إلى الربط التلقائي بين اليورانيوم وبين المحطة النووية . وهذا أمر غير صحيح. كما أن الدولة التي تستخرج اليورانيوم لا تتحول تلقائياً إلى دولة تكنولوجية متقدمة، كما هي حالة الباكستان مثلا، ولا تنهال عليها الأموال بالمليارات كما الدول النفطية، وهي حالة عدد من الدول الافريقية. إن استراليا لديها (31%) من احتياطي اليورانيوم في العالم وهو الأكبر بين جميع الدول. ومع هذا فليس لديها محطات طاقة نووية. ولا يزيد إنتاجها السنوي بالمتوسط عن (5) آلاف طن لا تزيد قيمتها عن (650) مليون دولار.ذلك ان القيمة العالية جدا هي لليورانيوم المخصب، وهو ما لا يتاح للاردن الوصول اليه.
رابعاً: إن الجزء الأكبر من ما ورد في الكتاب الأبيض عن اليورانيوم مأخوذ من تقارير هيئة الطاقة النووية أو الشركات المنبثقة عنها وهي تقارير غير دقيقة ومشوشة ومتضاربة وصادرة عن جهات غير مؤهلة بما ينبغي. ويكفي أن نذكر هنا أن واحداً من التقارير، كان يشير إلى أن الأردن سوف يصدر (10) آلاف طن من اليورانيوم عام 2012، وما زلنا ننتظر ذلك اليوم بعد دخول عام 2013 إلى ما بعد منتصفه. علماً بأنه لا يوجد دولة في العالم تبلغ صادراتها السنوية من اليورانيوم (10) آلاف طن .
خامساً: لم يشر الكتاب الأبيض إلى كميات المياه الضخمة التي تحتاجها عمليات تعدين اليورانيوم، ولا متوسط كلفة الاستخراج عندما تكون التركيزات متدنية، والمياه شحيحة. كما هي الحال لدينا. وفي خلاف ذلك فإن التلوث الإشعاعي نتيجة لغبار المواد الحاملة لليورانيوم سيكون مدمراً. هذا مع الملاحظة أن شركات التعدين كثيراً ما تهوّن من شأن المياه في التعدين . وشأن التلوث الإشعاعي اثناء وبعد عمليات الاستخراج. وبعد سنوات تكون النتائج غاية في السوء وهذا ما وقع في المكسيك وغيرها.
سادساً: ان خامات اليورانيوم في الأردن متواضعة نسبيا ولا تتجاوز نظرياً (1%) من الاحتياطي العالمي، ولا تقارن أبداً بالخامات الموجودة في روسيا أو كندا أو الصين أو استراليا أو الولايات المتحدة أو الأرجنتين .. هذا بالإضافة إلى ارتفاع كلفة الاستخراج ومتطلباته؛ ما يتطلب جهوداً كبيرة وزمناً كافياً وتكنولوجيا متقدمة. وبالتالي صعوبة أو استحالة التزامن بين إنتاج اليورانيوم وبين تشغيل المحطة النووية.
سابعاً: في شأن الفضلات النووية المشعة يكتفي الكتاب الأبيض بالقول: إن هيئة الطاقة النووية على علم بمتطلبات ذلك، وأنها في طريقها إلى وضع إستراتيجية لذلك.. ما هي الإستراتيجية وهل هي مناسبة؟ وهل تتوافق مع التكنولوجيا المستخدمة في المفاعلات؟ لا أحد يدري، وما هي مسؤولية الشركاء؟ وما هي الضمانات لحسن التعامل مع الفضلات؟ لا نجد إجابة عن ذلك.
ثامناً: لم يتعرض الكتاب الأبيض للحوادث النووية التي تقع باستمرار في المحطات النووية في العالم. وتتراوح كلفة التعامل معها من مئات الآلاف إلى ملايين الدولارات. وكيف يمكن للأردن التعامل معها تكنولوجياً واقتصادياً و لوجستيكيا؟ وهل ستشملها بوالص التأمين؟ وما هي مسؤولية الحكومة ومسؤولية الشريك؟ وغير ذلك الكثير. واكتفى الكتاب بالإشارة الجزئية إلى فوكوشيما . هذاعلما بأن هناك أكثر من (220) حادثة نووية مسجلة رسميا في العالم. وأن فوكوشيما وحدها كافية لدفع أي برنامج نووي للتوقف وإعادة النظر في كل شيء.
تاسعاً: يشير الكتاب الأبيض إلى أن إنشاء المحطة يتطلب الكثير من الماكنات والمعدات المتنوعة، ومنتجات معدنية أولية سيستفيد منها الاقتصاد المحلي. وهذا تعميم لغايات تسويق الفكرة، وينطبق تماماً على الإقتصادات الصناعية. ولم يتطرق الكتاب الأبيض إلى النهج الذي من شأنه أن يساعد على تعزيز تلك الصناعات والتكنولوجيا وغيرها لإنتاج الماكنات والمعدات.
وأخيراً فإن الكتاب الأبيض يفترض فيه أن يكون مرّكزاً ولا يدخل في التفاصيل الموجودة في التقارير الأخرى، ولكن يركز على السياسات والحجج والبراهين التي تبين صحة هذا التوجه الذي تمثله السياسات، ويجيب عن المسائل الخلافية أو الصعبة وهذا ما لا نجده في الكتاب بشكل كاف.
وهنا تكمن مسؤولية وزارات الطاقة والثروة المعدنية والمياه والبيئة والصحة، أو بعبارة أخرى مسؤولية الدولة بكاملها . فالموضوع النووي أكبر وأعقد بكثير من أن يتم التعامل معه بهذه الطريقة . فلا التكنولوجيا معروفة ولا الموقع محدد ولا المياه متوافرة ولا القدرة المالية تسمح بهذا الإنفاق ولا البدائل الأقل خطراً والأكثر ملائمة والأسهل منالاً تم التعامل معها . انه كتاب رمادي جداً.