(1)
أثبتت جائحة كورونا، وبعدها الحرب الروسية الأوكرانية، وما ترتب عليهما من انقطاعات في سلاسل التوريد للكثير من البضائع الاستهلاكية، ونقص في المواد الأساسية، وانفلات الأسعار، وخاصة النفط والغاز والمستلزمات الغذائية، وارتفاع نسب التضخم، واتساع مساحات الفقر، وتصاعد معدلات البطالة على مستوى العالم، وبشكل خاص الدول النامية، وبنسب متفاوتة، أثبتت الجائحة والحرب ان نظرية الاعتماد المتبادل المفتوح ينبغي ان تؤخذ بشيء كبير من التحفظ، وأن تعاد قراءتها لتقوم على قواعد من التكافؤ والتعادلية فيما يتعلق بالأساسيات التي تعتمد عليها الدولة.
كما أن الاعتماد الكبير على الاستيراد وخاصة في المفردات التي تشكل مفاصل رئيسة في أداء الاقتصاد وحركة المجتمع وسلامة الدولة، امر غاية في الخطورة، وقد يسبب انهيارات اقتصادية واجتماعية كبيرة. كذلك بينت الحرب الروسية الاوكرانية ان الدول حين تدخل في صدام ساخن أو بارد، أو حين تكون لها أطماع وطموحات في دول الجوار كما هو حال اسرائيل، فإنها تلجأ الى ما لديها من أوراق ضد الخصم، وخاصة إيقاف تصدير المواد الحيوية، كما نرى في موضوع الغاز والنفط الروسيين.
إن العبرة من ذلك كله ان الدولة: ونعني هنا كل دولة، بحاجة الى وقفة مراجعة جادة وصادقة، بعيداً عن الإعلام والشعبوية والتهوينية و”التطمينية”، لتكتشف المساحات الهشة فيها، فتعمل على إصلاحها وتقويتها وتمتينها في الوقت العاجل، قبل ان تكون مدخلاً لخصوم الغد، حتى لو كانوا في عداد الأصدقاء والحلفاء اليوم.
(2)
إن المتأمل في الحالة العربية يجد أنها نموذج للمنطقة المبعثرة التطلعات والمشتتة الاتجاهات، التي لم تستطع، بسبب انفرادية الزعامات بالقرار، أن تبني منظومة تعاون متماسكة، ولا تطوير نظام اعتماد ذاتي متين، ولا حتى اعتمادا متبادلاً ذا قيمة حقيقية، سواء على مستوى الدولة الواحدة أو مجموعة الدول. وعلى مدى 70 سنة بعد الاستقلال لم تحقق أي دولة درجة مقبولة من الاكتفاء الذاتي ولم تتحول دولة عربية واحدة الى دولة صناعية، ولم تنفذ أي دولة ثورة زراعية، ولم تدخل اي منها في صناعات الماكنات والأنظمة الميكانيكية والكهربائية والكيميائية المعقدة كما فعلت كوريا أو ماليزيا أو سنغافورة، إلا في حدود هامشية.
حتى في استخراج ثرواتها الطبيعية لا زالت تعتمد على الشركات الأجنبية في الاستثمار والتكنولوجيا والعمليات. وفي كل مرة تنشأ فيها مستجدة سياسية، تضغط الدول الكبرى على المؤسسات الدولية والشركات، فتنسحب فوراً، كما انسحب البنك الدولي من تمويل السد العالي في مصر قبل 65 عاماً، وانسحبت شركة برتيش بتروليوم من التنقيب عن الغاز في الأردن عام 2014 فجأة ودون مقدمات، بضغط من الولايات المتحدة الأميركية، تمهيداً لتوقيع عقد شراء الغاز من إسرائيل. وهكذا فقد توسع وتعمق الاعتماد في المنطقة على الأجنبي في كل شيء تقريبا، ابتداء من القمح والشعير مروراً بالمصانع والصناعات النفطية والإلكترونية وانتهاء بالطائرات.
كل هذا إضافة إلى الاعتماد المالي والعسكري غير المنقطع، الامر الذي جعل المنطقة العربية ساحة مستباحة للقوى الدولية ودول الاقليم المجاورة تركيا وإيران اضافة الى الكيان الصهيوني الاستعماري الطامع في ابتلاع مزيد من الأراضي العربية. وبقيت الأقطار العربية مبعثرة لا تشترك ولا تتفق الا في البيانات والتصريحات والادانات والاستنكارات، ولا تربطها أي مشاريع مشتركة صناعية أو زراعية أو مائية أو بحثية، ولا شبكة سكة حديد ولا شبكة كهربائية متماسكة.
ومن هنا تأتي زيارة بايدن الى المنطقة وارتماؤه في الحضن الإسرائيلي ترويجاً للحزب الديمقراطي من جهة وتأكيداً للاستراتيجية الأميركية بإعطاء إسرائيل فرص السيادة والقيادة من جهة ثانية، واستكمالاً لبرنامج ترامب المتمثل في إقرار يهودية الدولة بل وإعطائها دور حماية اليهود في جميع أنحاء العالم وهو أمر غير مسبوق دولياً وسياسياً.
هذا إضافة إلى إقرار تهويد القدس وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني تماما، والاعتراف بسيادة دولة الاحتلال على ما سلبت من أراض، وتعزيز التفوق والتغلغل الإسرائيلي في المنطقة العربية من جهة ثالثة، وابتزاز العرب بالنفط وشراء الأسلحة من جهة رابعة، واستبدال العدو الإسرائيلي بعدو آخر هو إيران من جهة خامسة.
وقد أكد البيان المشترك والذي سمي بيان القدس على إنشاء هيكل عسكري أمني في الإقليم تشارك فيه اسرائيل ودول عربية ليكشف ذلك ما يخبئه الأميركيون والإسرائيليون للمنطقة من مفاجآت.
إذ سيضعونها في حلف ضد إيران أو روسيا أو الصين، وسوف يتم ربط البلاد العربية بشبكة من القواعد العسكرية والترتيبات الأمنية التي تقودها إسرائيل وأميركا.
(3)
وفي مقابلته مع شبكة التلفزيون الأميركية سي. إن. بي. سي. صرح الملك عبد الله الثاني “أن المشاريع الاقليمية هي الكلمة المفتاحية للمستقبل” وأضاف، “ان الاردن يمكن ان يكون مركزا اقليميا للطاقة المتجددة من جهة، والأمن الغذائي من جهة ثانية”، وكذلك مركزا للفرص التي نتطلع للبناء عليها في الزراعة، والعمل مع الشركاء في المنطقة لتعزيز أمنهم الغذائي.
إن هذه الرؤية الطموحة والمهمة لا يمكن ترجمتها الى واقع إلا اذا ادركت الانظمة العربية ان الغطاء الأميركي يمكن أن ينسحب في أي لحظة، وأن قوة الدولة ومنعتها تنبع من مجتمعها واقتصادها وعلمائها وخبرائها، وليس من الخارج، ولا تتحقق رؤية الملك إلا إذا شعرت الدول المعنية فعلا بخطورة وضع الإقليم المتفكك، وأولوية العمل الجماعي العربي لبناء المستقبل، وبالتالي تعمل دول المنطقة التي تتطلع الى الشراكة (بعيداً عن اسرائيل) على تطوير حقيقي لبنيتها الداخلية اقتصاديا باتجاه التصنيع والإنتاج، وسياسياً باتجاه المشاركة والديمقراطية الحقيقية وليس الشكلية.
ذلك أن الأنظمة الفردانية مهما كانت نواياها حسنة فهي بالضرورة لا تطيق التوافق لفترات طويلة، ولا تدخل في شراكات استراتيجية. فهل تدرك الدول العربية المعنية تطلعات الملك؟ تلك هي المسألة.
(4)
وبالنسبة لنا نحن في الأردن، علينا أن نأخذ رؤية الملك في أبعادها الوطنية فيدرك كل مسؤول وموظف خطورة استمرار الاعتماد على الآخرين وخطورة الاستمرار في التحكم بالمواطن والاستقواء عليه من خلال البيروقراطية البائسة. وبالتالي تعمل الحكومة بالتعاون مع الشركاء من القطاع الأهلي ومنظمات المجتمع المدني والأكاديمي على التطوير المبرمج الجاد للسياسة والاقتصاد، ربما في الإطار التالي أولاً: أن البطالة والفقر قد وصلا إلى مستويات غاية في الخطورة فلا ينبغي أن نقبل بأن يكون ربع السكان فقراء وربع قوى العمل عاطل، ونصف الشباب عاطل عن العمل.
ثانياً: أن الدولة لا تتقدم ولا تحل مشكلاتها المزمنة دون برامج عمل واضحة ومحددة ومتوافق عليها.
ثالثاً: أن الموقع المتوسط بحد ذاته لا يعني الشيء الكثير في منظومات التجارة والتبادلات الدولية إذا لم يكن مدعوماً بنظومة متقدمة من الخدمات واللوجستيك وفي مقدمتها السكة الحديد، خاصة وان انظمة النقل البري والبحري والجوي والتواصل والتعاقد الإلكتروني قد تطورت عالمياً بشكل كبير يغطي على أهمية الموقع إذا انحصر في الجغرافيا. رابعاً: كذلك فإن الموقع لا يعني الشيء الكثير للمستثمر إذا استمر الفساد والبيروقراطية وارتفاع كلفة الاستثمار وعدم استقرار التشريعات.
خامساً: لكي نكون مركزاً إقليمياً للطاقة المتجددة، فلا مفر من الدخول الجاد في صناعة الطاقة المتجددة وعدم الاكتفاء بوجود رياح وشمس ساطعة لدينا. وهناك تكنولوجيات عديدة في الطاقة المتجددة ابتداء من طاقة الرياح مروراً بالطاقة الشمسية وانتهاء بوقود الهيدروجين الذي لا يزال في بداياته، ويمكن للاردن اللحاق بركب التكنولوجيا هذه. سادساً: ان المركز الاقليمي سواء للطاقة او الغذاء او الزراعة لا يتحقق بوجود خدمات بسيطة ولكن العمود الفقري لهذه المركزية يتمثل في الخدمات والامكانات التكنولوجية والبحثية المتقدمة.
وهذا يتطلب انشاء مراكز ابحاث علمية وتكنولوجية في الطاقة والزراعة والغذاء تكون هي المرتكز في التميز المنشود. وبدون ان تكون هناك مبادرات وطنية في انشاء هذه المراكز، فإن الآخرين لا يرون الأهلية لدينا كافية. سابعاً: توجيه الباحثين في الجامعات للدخول في الأبحاث التطبيقية والتجريبية الأكثر أهمية واستعجالاً وخاصة في مجالات الطاقة والزراعة والغذاء.
ثامناً: أن المياه سوف تبقى الأساس الذي تقوم عليه الزراعة وتصنيع الغذاء بل والمجتمع والاقتصاد الحديث، مهما تغيرت التكنولوجيات وتطورت فستبقى المياه العنصر الأكثر اهمية للانسان وللانتاج. تاسعاً: ان تصنيع متطلبات المياه من خلال مشاريع كبيرة متواصلة وتراكمية تنفذها المؤسسات والشركات الوطنية، ويساهم فيها المجتمع، وكذلك انشاء مراكز اردنية متخصصة في التكنولوجيات المختلفة للمياه هو الذي يؤهل الاردن لأن يكون مركزاً إقليمياً للغذاء والزراعة المتقدمة.
وخلاصة القول، إن القوى الخارجية وعلى رأسها الولايات المتحدة لا يعنيها في الإقليم العربي سوى تفوق إسرائيل وتحقيق أطماعها وتأكيد المصالح الأميركية من خلال التحكم في دول الإقليم، الذي آن الأوان لدوله وقواه السياسية أن تدرك بكل يقين أنه لا يمكن أن يقع التغيير الحقيقي والخروج من حالة التبعية والتخلف إلى فضاء التقدم، إلا إذا حدث التغيير من الداخل وأقفلت كل دولة ملف الاعتماد على الخارج لتعتمد على شعبها ورأس مالها الوطني لبناء المستقبل بالتعاون مع الأشقاء العرب في الجوار.