كان يوم الجمعة الماضي 9/8 هو اليوم العالمي لمحوالأمية. وكان الشعار الذي وضعته اليونسكو لهذا العام ” تعزيز محوالأمية من أجل عالم في مرحلة انتقالية: ارساء أسس مجتمعات مستدامة ومسالمة” ولأن الشعار يركز على ثلاث مسائل بالغة الأهمية والتعقيد في نفس الوقت وهي الأولى المرحلة الانتقالية بكل ما تحمل من مستجدات وتقلبات، والثانية المجتمعات المستدامة بكل ما يسستلزم ذلك من تطوير اقتصادي واجتماعي وأمن مجتمعي وأمن غذائي، والثالثة السلم بين المجتمعات لتصبح المجتمعات مسالمة. الأمر الذي لا يتحقق طالما أن فروق القوة بين المجتمعات كبيرة، الأمر الذي يغري القوي بالاعتداء على الأقل قوة.
وهذا يعني أن مفهوم محو الأمية أي “القرائية” قد تغير من المفهوم البسيط المتمثل في مجرد معرفة ” القراءة” والكتابة والحساب”، أو”فك الخط” كما نقول في التعبير العامي، تغير إلى مفهوم “القرائية المتقدمة” والتي تقوم ليس على مجرد معرفة القراءة وانما تعني الانتقال الفردي والمجتمعي إلى مستويات جديدة من العلم والثقافة والمعرفة والتعلم تتطلبها الأهداف والمراحل التي يطمح اليها المجتمع باتجاه التقدم والارتقاء، وتفرضها موجة الاتصالات والمعلومات التي تجتاح العالم، متجاوزة كل الحدود السياسية والجغرافية والثقافية. وهي موجة معقدة متجددة وضعت الانسان البسيط سواء كان طفلا في الرابعة أو شيخاً في التسعين من عمر كل منهما وضعت الإنسان في صدام متواصل واحتكاك دائم مع المعلومة والخبرة والمادة العلمية بل ومستجدات العلم والتكنولوجيا، لأنها اصبحت جزءا من حياته اليومية وتتدخل في إدارته لشؤون نفسه بل وفي كل تفاصيل الحياة.
ومن هنا وحتى لا يقع المجتمع الوطني فريسة لما يقوله وينجزه ويفرضه الآخرون، فالمتوقع أن تعمل الدولة بكل مؤسساتها ذات العلاقة، وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية والثقافية والرياضية والاعلإمية، تعمل لكي ترتقي القرائية وتتجاوز المفاهيم التقليدية البسيطة وتتقدم باتجاهات عديدة في مقدمتها اولاً: ان يكون تعليم القراءة والكتابة والحساب في المدرسة ليس شكليا ولا تلقينيا، وإنما ذهني محفز، ودافع للمتعلم نحو التفاعل مع ما يقرأ ما وما يكتب. والملاحظ ان كثيرا من البلدان النامية ونحن منها تصل نسبة عالية من الأطفال الى سن العاشرة ويجتاز الطفل الصف الرابع من المدرسة، ومع هذا لا يكون قادراً على استيعاب ما يقرأ، ولا التفاعل مع المادة المقروءة، ولا متمكنا من كتابة حصيلة ذلك بوعي ذهني وفكري يقظ وتبصر. وهو ما يعرف بفقر التعلم. ويصل معدله في الدول النامية الفقيرة الى ما يقرب من 65 % وفي الأردن 52 %
ثانيا: ان مستقبل التعليم بمختلف مراحله واتجاهاته يتحرك باطراد نحو تغيير قواعد العملية ليقوم على أساس التعلّم (الذاتي)، وليس مجرد التعليم (من طرف آخر)، والتعلم مدى الحياة وليس لفترة زمنية محدودة تنتهي بانتهاء زمن المدرسة أو الكلية أو الجامعة. وسيصبح التعلم عن بعد والتعليم الإلكتروني هو الأكثر انتشاراً. وان كان هذا لن يلغي دور المدرسة والجامعة إطلاقا، بل ستتطور الأدوار باتجاه تحفيز الطلبة واكتشاف مواهبهم وإطلاق ابداعاتهم والبحث العلمي والإبداع وحل المشكلات. وهذا يعني أن “محو الأمية” في مفهومها البسيط القديم لن يمكن الفرد من عبور المستقبل بعلم ودراية وتفاعل وتنافسية عالية، وبالتالي لن يقود إلى نجاح الفرد ولا إلى تقدم المجتمع ثالثا: ان توجه العالم نحو الإدارة الإلكترونية والعمل عن بعد يضع الإنسان العادي البسيط، وفي حياته اليومية، في مواجهة مباشرة مع القراءة والاستيعاب لمختلف المواد العلمية والإدارية والصحية والمرورية والمناخية والقانونية والزراعية بل وكل شيء. وهنا لا يجدي النمط التقليدي المبسّط لمحو الأمية، وانما يتطلب الأمر قرائية مركبة متقدمة أو مجموعة من القرائيات والمهارات العلمية والرقمية والتفكيرية والتحليلية والحياتية والبيئية رابعا: ان تعيد المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والمهنية صياغة برامجها مناهجها ونشاطات ذات العلاقة بحيث يكون واحدا من الأهداف الوطنية يتمثل في الوصول الى مجتمع يمارس القراءة باستمرار، يتمتع بقرائية متقدمة تغطي اساسيات بل وتفاصيل المفاهيم الحياتية في جوانبها المختلفة. كل ذلك يتحقق عن طريق المتعلم والمثقف والمهني والكاتب والإعلامي الذي تم تمكينه من القرائية في نمطها المتطور . خامساً: لا بد أن تعطي الدولة اهتماما خاصا للصناعات الفنية والثقافية والتعليمية والعلمية والفكرية حتى يمكن من خلالها تغذية العقل المجتمعي بكل ما تستلزمه الحياة والمستقبل.
ان المفاهيم التي أشرنا إليها أعلاه تتطلب الاهتمام الكافي ليس فقط في الصفوف والسنوات الأخيرة من الدراسة، وانما الاهتمام بالصفوف الأولى والسنوات الأولى من التعليم المدرسي والجامعي على حد سواء. وتتطلب التركيز على المسيرة التعليمية في مراحلها المختلفة وتتطلب اثراء خبرة المعلمين والاساتذة في هذا المجال. ولأننا كمجتمع عربي تميل ثقافتنا نحو”القول”، فإن القرائية المبسطة أو المتقدمة لدينا في خطر، نتيجة لضعف الاهتمام بالقراءة من جهة، وقلة الكتب المؤلفة الجديدة وارتفاع اثمانها من جهة ثانبة، والأخطر من ذلك التطبيقات التكنولوجية الجديدة والتي يستطيع الأنسان اوالطالب ان يصل الى الاجابة بمجرد الكلام والقول وليس بالضرورة الكتابة والدراسة.
واخيراً فإن بناء المجتمع المستدام والمسالم كما يطمح اليه شعار اليونسكو في اليوم العالمي لمحو الأمية، لا يتحقق الاّ اذا تمكن المجتمع من التحرك اقتصادياً وتكنولوجيا واداريا باتجاه العلم والانتاج، والذي يتطلب التفاعل المتواصل على طريق المستقبل.