تجتاح المنطقة موجة حارة غير مسبوقة في مثل هذا الوقت من السنة، إذ لم يحل فصل الصيف بعد، ومع ذلك تعدت درجة الحرارة منذ أيام حاجز 40 درجة سلزيوس (مئوية) في عمان، ناهيك عن مناطق شديدة الحرارة كالأغوار والعقبة ومعان وغيرها، وكلما داهمتنا موجة حارة أو منخفض ساخن، ذهب تفكيرنا إلى المياه والزراعة وإنتاج الغذاء، إضافة إلى المسائل الصحية وتعقيداتها الناشئة عن الحرارة وأشعة الشمس والإنهاك المرافق لكل ذلك. وتدل الشواهد المناخية، وأبرزها بالنسبة لنا ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار، على أن التغيرات لم تعد بطيئة كما كان التصور عند توقيع اتفاقية كيوتو عام 1997 التي التزم بها الأردن، كما التزمت بها 198 دولة، وإنما أصبحت التغيرات سريعة، وتحدث فرقا كبيرا من سنة إلى أخرى، الأمر الذي يستدعي ان تنظر الدولة إلى مسألة المياه وما يتفرع عنها من أمن غذائي وأمن بيئي نظرة مختلفة، تقوم على سرعة الاستجابة، خاصة وان عدد السكان في الأردن قد وصل رقماً لم يكن متوقعا ابداً وهو 11.5 مليون نسمة، وانخفض معه نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 85 متراً مكعباً سنوياً مقابل خط الفقر المائي العالمي 500 متر مكعب للفرد. وفي نفس الوقت فإن معدل الزيادة السنوية الطبيعية للسكان يتجاوز 2.5 % مما يجعل الزيادة السنوية في حجم المياه المطلوبة للمحافظة على المستوى الحالي 24 مليون متر مكعب أو أن ينخفض نصيب الفرد من المياه بمقدار 3.4 متر مكعب سنويا. ولا شك أن وزارة المياه والمؤسسات والشركات العاملة معها ووزارتي الزراعة والبيئة تقوم بدورها بما يستحق الثناء والتقدير، ولكن الجفاف ونقص المياه هي مسألة وطنية شاملة، وبالتالي فإنها يجب ان تكون مشروع دولة، لا وزارة بمفردها. من جانب آخر فإن جميع دول المنطقة العربية، ربما باستثناء موريتانيا، تعاني من نقص حاد في المياه إلى الدرجة التي دخلت العراق اليوم بدجلتها وفراتها ضمن مجموعة الدول المجهدة مائيا، والأمر كذلك للكثير من الدول. فإذا أضفنا إلى ذلك حالة العدوانية الإسرائيلية التي لا تتوقف عند حد، وتطلع اليمين الصهيوني المتعصب إلى تهجير الفلسطينيين لأسباب معروفة يضاف إليها المياه، وتطلع إسرائيل للسيطرة على الطاقة والمياه وسكة الحديد في المشرق العربي، فإن التعويل على المشاريع الإقليمية والمشاريع المشتركة أصبح غير آمن ولا مجد ولا يمكن البناء عليه حتى اليوم.
كل هذا يتطلب الاشارة إلى عدد من النقاط قد يكون بعضها سبق الاشارة اليه، ولكن خطورة المسألة المائية وسرعة التغير المناخي لدينا وفي العالم، وعدم استقرار المنطقة سياسيا وديموغرافيا واقتصاديا يبرر ذلك. أولا: أن تتبنى الدولة خطة عمل أساسها (الأمن المائي 2025 – 2030 ) تعمل بموجبها جميع المؤسسات والوزارات على دعم وزارة المياه وشركائها في تنفيذ بنودها. ثانيا: ان تعتمد الدولة مبدأ التمويل الذاتي للمشاريع الخاصة بتحقيق الأمن المائي، نظرا لأن الوقت الذي يمر حتى يتوفر التمويل الأجنبي بتعقيداته الكثيرة يكلف الدولة الشيء الكثير من حيث سرعة الاستجابة والأعباء المالية والمضاعفات الاقتصادية الاجتماعية. ثالثاً: ان تعتمد الدولة منهجية تقسيم المشاريع الكبيرة، حتى لا تكون ضخمة تتطلب شركات عالمية للتعامل معها، وان تكون الحكومة والبنوك والشركات المساهمة الأردنية القائمة أو الجديدة هي العمود الفقري للتمويل والتنفيذ. فالناقل الوطني الذي لم يبدأ تنفيذه بعد، يمكن تقسيمه إلى مشاريع هي محطة التحلية، والخط الناقل مع محطات الضخ، ومحطات توليد الكهرباء رابعاً: ان نعمل على الإفادة من جميع التجارب الدولية الناجحة والتكنولوجيات ذات العلاقة بالمياه والتغيرات المناخية، دون الاستهانة بالكثير منها لأن الحلول الشاملة والجاهزة غير ممكنة وتتطلب الكثير من الوقت والمال والمخاطرة. خامساً: وكحالة طارئة في إطار ضغط النفقات الحكومية، ان يتم تخصيص نسبة 2 % من الموازنة السنوية، لمشاريع المياه والتي يتوقع ان تشمل السدود الترابية وإعادة التدوير وتحسين كفاءة التوزيع والاستخدام وتطوير أساليب الري في الزراعة والحفر عن المياه العميقة وغيرها. سادساً: إنشاء «المركز الوطني للاستمطار» كمركز متخصص بالتعاون مع المركز الملكي الجغرافي والقوات المسلحة، للاستمطار واقتناص الضباب، وتوليد الماء من الهواء، تشارك فيه الشركات الصناعية لإنتاج المواد والأجهزة اللازمة. سابعاً: انخراط الجامعات ومراكز البحث فيها في العمل على تطوير التكنولوجيات اللازمة سواء للزراعة أو الصناعة أو الاستهلاك المنزلي لزيادة المحصول المائي ولتخفيض الفاقد وتحسين الكفاءة ورفع الإنتاجية. ثامنا: الشروع في استغلال المياه الجوفية العميقة ولو على نطاق محدود في البداية وتطوير مراكز البحث لأساليب الحفر وتحسين الجدوى. تاسعاً: الشروع في برنامج تشجير أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الأردنية لتخفيف التأثيرات الحرارية وتعزيز الأمن البيئي.
وأخيرا فإن مسألة المياه لا يمكن الاستهانة بها أو تسويفها أو انتظار الحلول الجاهزة أو الاعتماد على دولة مجاورة لتزويدنا بالمياه، فهي أخطر بكثير ليس فقط على الزراعة والأمن الغذائي وإنما أيضاً على الصناعة والسياحة ومجمل النمو الاقتصادي بل والأمن الوطني.
لقد سبقتنا عشرات الدول إلى تحلية المياة وإقامة السدود والاستمطار وغيرها من التكنولوجيات ولكن البلدان التي حققت نجاحات مرموقة هي تلك التي اعتمدت على مجتمعها للتمويل، ومؤسساتها للتنفيذ، وثروتها البشرية للإبداع وابتكار الحلول.