بينت الارقام الاخيرة في التقرير السنوي الصادر عن البنك المركزي ،ان معدل البطالة في عام 2015 ارتفع بمقدار 1.1% عن السنة السابقة فوصل 13% .وهو المعدل الاعلى منذ عام 2008، و بذلك بلغ اجمالي المتعطلين عن العمل (210) ألف شخص، بزيادة عن عام 2014 مقدارها (36) ألف يد عاملة بين ذكور وإناث. وبينت الارقام ان اعلى معدل بطالة كان بين الجامعيين ، بكالوريوس فما فوق، وبنسبة 18.6% .يعود ذلك حسب البنك المركزي الى “الاختلالات الهيكلية في سوق العمل ،واستحواذ العمالة الوافدة ،وخصوصا العمالة السورية، على عدد كبير من فرص العمل الجديدة في الاقتصاد”.
إن المتأمل في الصورة الكلية، يجد جملة من المتناقضات نادرا ما تجتمع في بلد واحد: فهناك : أولا الكثير من الشركات المتعثرة التي توقفت عن العمل كليا أو جزئيا دون أي جهود حكومية لمساعدتها على تجاوز العقبات التي تواجهها. وثانيا الكثير من المصانع التي تغلق ابوابها وتسرح عمالها(إغلاق 1500 مصنع و مشغل عام 2015) وثالثا الكثير من الصناعات والخدمات التي تطالب وزارة العمل بالسماح بزيادة نسبة العمالة الوافدة لديها لعدم وجود عمالة اردنية ماهرة في هذا التخصص أو ذاك، كما فعلت على سبيل المثال جمعية صانعي الاثاث مؤخرا. ورابعا عزوف كبير من الطلبة و المجتمع عن التعليم المهني و التكنولوجي و إقبال شديد على التعليم الأكاديمي. خامسا عمالة وافدة تتزايد بمعدل 1.6% سنويا وسكان وافدون يتزايدون بمعدل 5.2% واقتصاد ينمو بمعدل 3% سنوي فقط الأمر الذي يعني تناقصا سنويا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي . سادسا قبول العمالة الوافدة بالأجور والرواتب الأقل، الأمر الذي يؤدي إلى إحلال تدريجي للعمالة الوافدة لتحل محل المحلية. سابعا هلامية سوق العمل بين التجارة والخدمات و الصناعات التحويلية البسيطة و ضعف الجانب الإنتاجي مما يجعل التواؤم بين مخرجات التعليم و متطلبات السوق عملية صعبة و غير محددة. ثامنا الإفراط في الإعتماد على الإستيراد ليتعدى حجم الاستيراد 16 مليار دينارمقابل صادرات 6 مليار دينار تاسعا عزوف الحكومة و إحجامها و امتناعها الغريب من أن يكون لها دورفاعل في معالجة ما يملأ المشهد الإقتصادي الإجتماعي من إختلالات تتفاقم سنة بعد سنة .عاشرا تركيز الحكومة على الجانب المالي فقط من إقتراض و مساعدات و منح و جباية و أسعار و تصاعد المديونية،مقابل ألإبتعاد عن الجانب الإقتصادي تماما.
ونحن اذا نظرنا الى واقع الاقتصاد الوطني نلاحظ انه في وضعه الحالي لا يستطيع ان يولد اكثر من (45) ألف فرصة عمل سنويا في حين ان المطلوب يقترب من (100) ألف فرصة عمل تتطلب استثمارات إنتاجية لاتقل عن 2 مليار دينارسنويا. و هكذا فإن المتعطلين عن العمل من الاردنيين يتزايدون سنة بعد سنة وباعداد تقترب من (40) ألف متعطل سنويا، والجزء الأكبر منهم في المحافظات ،ولدى الخريجين الجامعيين من الرجال والنساء. والملفت للنظر ان “الحكومة بمؤسساتها المختلفة” تنظر الى موضوع البطالة بهدوء شديد، وكأنه “أمر عادي” لا يحمل أي نتائج سلبية على الأمن المجتمعي. كما أن البعض يظن ان الاستثمارات الخليجية وكذلك الإستثمارات المتوقع تدفقها على البلاد من خلال شركات صندوق الاستثمار السعودي او الاستثمارات الاجنبية سوف تحل المشكلة. ويصر فريق ثالث على ادخال البلاد، و هي في عمق أزمتها الإقتصادية و التشغيلية، في مشروع المحطة النووية بدون ضرورة و بجملة من الأخطاء الفنية و الإستراتيجية و اللوجستية، والذي سيكلف الاقتصاد الوطني أكثر من (10) مليارات دولار. و يوهمون الرأي العام و الخاص أن ذلك سيوفر لنا الإستقلال في الطاقة، و هو أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة.
ان ايام التشغيل التي تقوم بها وزارة العمل لتشغيل العمالة الوطنية تستحق الثناء ،ولكنها لا تمثل الحل الحقيقي للمشكلة والتي ينبغي مواجهتها من خلال استراتيجية وطنية و سياسة شاملة للدولة على غرار ما قامت به دول أخرى لما تتطلب من جهود دؤوبة و حلول إبداعية.
وهنا لابد من التأكيد على جملة من المسائل، أولاً: ان مشاريع البنية التحتية من سكة حديد وخطوط انابيب وطرق على أهميتها التامة في تخفيض كلفة النقل، ودورها الحيوي في تخفيض فاتورة الطاقة، إلا أنها لا تغير من ميزان العمالة والبطالة الا في اضيق الحدود. ثانياً: ان المستثمر الاجنبي يبحث عن الاستثمار الاكثر ملائمة له، واكثر عائدية واقل مخاطرة ،سواء كان ذلك في شراء ما هو قائم من مرافق ،أو المتاجرة بالعقارات أو في الأسواق المالية ، أو الدخول في خدمات عالية التكنولوجيا ضئيلة الإعتماد على الأيدي العامالة.ولا يعتبر المستثمر الأجنبي نفسه معنياً ابداً بتشغيل المتعطلين عن العمل. بل ربما يستورد عمالة رخيصة لمشاريعه كما نشاهد ذلك بقوة في المناطق الصناعية. ثالثاً: ان حل مشكلة البطالة لا يتحقق الا من خلال مشاريع انتاجية وخدمية كثيفة الاستعمال للأيدي العاملة، و مساعدة الشركات والمصانع و المشاغل المتعثرة ،وإصلاح الاختلالات في الهيكل الاقتصادي .وهذا لا يحدث تلقائيا وعفويا ومن خلال استثمارات غير مقيمة. ولا يتم التوجه اليه بقوة الا اذا كانت الحكومة معنية بذلك وشريكة راسخة وداعمة لهذا التوجه وخاصة في المحافظات و الأرياف و المشاريع عالية المخاطرة أو طويلة الأمد. رابعاً: لا بد من إعادة تأهيل فئات من القوى العاملة الوطنية و تطوير التعليم التكنولوجي حتى تكتسب المهارات الفنية والأدائية و السلوكية التي تتطلبها المرافق الإنتاجية المختلفة.و في خلاف ذلك و بوجود مئات الالاف من العمالة الوافدة بمهارات متنوعة واجور منافسة من المتوقع ان تتصاعد ارقام البطالة بسبب الاحلال البطيء والطرد التنافسي. خامساً: ان مواجهة البطالة تتطلب إضافة الى التوسع المبرمج في المشاريع الانتاجية ضبط العمالة الوافدة من جهة و”انشاء صندوق خاص لدعم العمالة المحلية” من جهة ثانية حتى تصبح العمالة المحلية قادرة على المنافسة في ظل المعطيات الاقتصادية والاجتماعية السائدة والتوجه نحو التصنيع. سادساً: من غير الممكن حل مشكلة بطالة الجامعيين دون “الارتقاء بالمستوى التكنولوجي للوظائف في القطاعات المختلفة ودون الدخول في برنامج وطني لتصنيع الاقتصاد،” ودون التزام مؤسسات التعليم العالي بالتشبيك و الترابط مع المرافق الإقتصادية و الإجتماعية. سابعاً: ومن غير الممكن في ظل الظروف السائدة في المنطقة مواجهة مشكلة البطالة والاخطار الاجتماعية والامنية المرافقة لها دون الدخول في برنامج لتصنيع وانتاج جزء من المنتجات المستوردة، أي الصناعات الإحلالية، و بنسبة لا تقل عن 25% من قيمة المستوردات أي تصنيع ما يعادل 4 مليار دينار سنوياً كمرحلة أولى و عاجلة. ثامنا إدخال “مادة الريادية و مهارات الريادية في جميع مراحل التعليم و في جميع التخصصات” و فتح “مراكز التوجيه والتأهيل الريادي” في جميع المحافظات. تاسعا: تطبيق القواعد المعروفة في مكافحة البطالة و المنشورة في كل المراجع و لدى المؤسسات الدولية في كل مكان: ابتداء من توفيرالتمويل مرورا بتشكيل التعاونيات في الأرياف وانتهاء بمساهمات الشركات والمؤسسات الوطنية الكبرى في مسؤوليتها المجتمعية.
ليس هناك اخطر من البطالة على أي مجتمع وأي دولة في العالم ،وليس أسوأ من ترحيل المسألة من سنة إلى أخرى فيزيدها ذلك تعقيدا، ويضع المستقبل على رمال متحركة. كما أن الإعتماد على المساعدات والإستثمارات الأجنبية بمفردها لحل مشكلة البطالة هو مجرد سراب .أنه ليس هناك من حلول سحرية ،ولا حلول فورية سهلة. وبدون التحول الى الاقتصاد المنتج القائم على التكنولوجيا والتصنيع وفي ظل تزايد العمالة الوافدة و بدون مواجهة شاملة للبطالة ونواتجها ،فإن الامر اخطر بكثير مما يبدو على السطح.