(1)- الانتخابات
لم تكن نتائج انتخابات الكنيست الإسرائيلية مفاجئة لمن يتابع الشأن الإسرائيلي. فعلى مدى الثلاثين سنة الماضية تراجعت أحزاب اليسار والوسط التي كانت تحمل شيئاً من الاعتدال فيما يتعلق بتطلعات إسرائيل التوسعية، وكان لديها استعداد لنوع من العلاقة مع الجانب الفلسطيني والجانب العربي بشكل عام. تفككت تلك الأحزاب وانحلت إلى درجة التلاشي، لتحل محلها أحزاب اليمين العدواني المتطرف بكل ما لديها من ثقافة الكراهية وعقلية استعمارية تعود إلى القرن الثامن عشر وإن تغلفت بقشور سياسية ودينية.
وخلال نفس الفترة، تراجعت المنطقة العربية، واندلعت فيها النزاعات والحروب، وتعمق اعتمادها على الأجنبي، وأصبحت ساحة مفتوحة لكل التدخلات الإقليمية والدولية. وهذا أعطى اليمين الإسرائيلي مزيدا من وقود التهويد، إضافة إلى الوقود الأميركي الذي لا ينقطع أبدا، باتجاة التوحش والنهم الاستعماري. وبالتالي على الجانب الفلسطيني والجانب العربي أن يدرك بأن الكيان السياسي لإسرائيل محكوم ليس بنتائج الانتخابات، وإنما بالتطلع اليميني والسياسة الصهيونية التوسعية المتطرفة، والتي يجسدها الكثيرون ومنهم بن غفير الوريث العقائدي لجابوتنسكي وشارون وغيرهم. وخلاصة موقف هؤلاء أن فلسطين “الكبرى” والتي تشمل كامل فلسطين والأردن ومساحات واسعة من سورية ولبنان ومصر هي لليهود. ولا مكان للفلسطينيين في أي جزء من أرض إسرائيل المزعومة، ولا بد من إخراج الفلسطينيين وسائر العرب من إسرائيل الكبرى بشتى الوسائل، وعلى مدى زمني طويل، والسيطرة على الأراضي تدريجياً أو من خلال حروب خاطفة اذا سمحت الفرصة. أما التعامل مع الفلسطينيين فينبغي ان يقوم على القوة والشدة حتى الاستسلام. وعلى دولة الاحتلال وحلفائها ان يستخدموا شتى الوسائل الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والإعلامية لتحقيق هذه الأهداف.
(2) المتطرف والانتهازي
ومن هنا فإن ظهور بن غفير إلى الواجهة لا يضيف شيئاً إلى ما يفكر به نتنياهو ويؤمن به، ولكنه من جهة، يكشف الجانب “غير المعلن” في إسرائيل، ويجعل الصهيونية العسكرية الفاشستية علنية وعلى رأس السلطة. وقد وضع بن غفير مطالبه الاستعمارية والقمعية ضد الفلسطينيين في شروط اتفاقية التحالف مع نتنياهو. وبادرت الحكومة الإسرائيلية بالتنفيذ الفوري. فازداد التوحش الإسرائيلي بقتل الشباب والأطفال، وتوسيع دائرة الاعتقالات وهدم البيوت، وتشديد الحصار على غزة ومنع الصيادين من تصدير أسماكهم إلى الضفة الغربية، وشرعنة المستعمرات في أراضي الفلسطينيين. وسيندفع نتنياهو إلى الإفراط في الانتهازية والخبث والاحتيال والاستماتة في الاستجابة لطلبات بن غفير وكتلته اليمينية حفاظا على حكومته وعلى بقائه في السلطة. لقد أعلن نتنياهو تأكيده على سياسته التي التزم بها خلال السنوات الماضية، والتي أصبحت جزءا من التوجهات الأميركية المستقرة، والتي “تقوم على غض النظر بالكامل عن الجوانب السياسية للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي والاحتلال والانخراط في المشاريع والمشاركات الاقتصادية مع المحيط العربي”. وحقق من خلال الضغط الأميركي نجاحات في اتفاقيات الغاز والمياه والصناعة والزراعة والسكة الحديد وغيرها.
ولقد ساعد فرط الاعتماد العربي على الدول الأجنبية في شتى القطاعات وبشكل خاص على الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ساعد ذلك على تعزيز ثقة نتنياهو واليمين الإسرائيلي بالمضي قدما في تنفيذ “ما بعد صفقة القرن” التي تبناها بايدن بهدوء شديد ودون إعلان، وبالتالي بإمكانية تحقيق الحلم الصهيوني بإسرائيل الكبرى خلال الخمسين سنة القادمة، واستكمال تهويد القدس كما يسعى متحمسا بن غفير وجماعاته.
(3)- التغيرات السياسية
لقد كشفت السنوات الثلاثون الماضية، أن تأييد إسرائيل بل والصهيونية أصبحت ورقة انتخابية رابحة لدى السياسيين في عدد من دول اوروبا والولايات المتحدة. وغدا السياسي المرشح للانتخابات البرلمانية او الرئاسية أو ما في حكمها لا يعنيه الموضوع الخارجي ولا يعنيه الحق والعدل والعمل بالقانون الدولي والإنساني ولا الشرعية الدولية، بقدر ما يعنيه النجاح في الوصول إلى الموقع السياسي. ولذا انطلق الكثيرون من السياسيين أفرادا وأحزابا وخاصة الأميركيين والبريطانيين يتنافسون في إعلان صهيونيتهم، كما فعل ترامب وبايدن اللذان اتخما مؤسسة الرئاسة والحكومة بالوزراء والمستشارين اليهود. وغدا المرشحون من أفراد وأحزاب يتحركون لإرضاء اللوبي الصهيوني. ولم تتردد رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ليز تراس بإعلان صهيونيتها بفخر وعنجهّية، وسار على نهجها خلفها ريشي سوناك. ورغم أن هذه التوجهات كانت خجولة نسبيا في القرن الماضي، إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفراد أميركا بتوجيه السياسة العالمية، جعل الدولة العميقة في أوروبا وأميركا تتغاضى عن كل الانحيازات المخالفة للقانون الدولي حين تكون إسرائيل طرفا فيها، لأن أحداً لن يقف أمامها وخاصة في المنطقة العربية. ومن المتوقع أن يستمر هذا الحال حتى تتغير موازين القوى السياسية وتتمكن كل من روسيا والصين تغيير وضع الأحادية القطبية إلى حالة من التشاركية في الشؤون الدولية. إن المؤسسة الصهيونية واليمين الإسرائيلي يعتبرون انفسهم اليوم في العصر الذهبي للتوسع في الاستيلاء على الاراضي العربية وكامل فلسطين. فالمنطقة العربية تطلق البيانات هنا وهناك ولكنها تلهث وراء الرضا الأميركي وبعضهم من خلال البوابة المفضلة إسرائيل. لقد أنهك الفلسطينيون والعرب تلك الانقسامات والحروب الأهلية والجهوية والطائفية والإدارات السلطوية التي تدعمها الدول الكبرى، هذا إضافة إلى التغيرات المناخية وما تحمله من جفاف وتصحر وشح للمياه، بكل الضغوط على الزراعة وانتاج الغذاء وتوفير المياه. إن التعاون العربي تراجع إلى أدنى المستويات. كل هذا في الوقت الذي انطلقت فيه إسرائيل تتقدم بالتكنولوجيا وبيع الأسلحة والزراعة الذكية وانتاج المياه حتى وصل الناتج المحلي الإجمالي لها 482 بليون دولار مقابل 423 بليون دولار لمصر… فهل هناك مبرر من منظور صهيوني لتغيّر إسرائيل من تطلعاتها الاستعمارية التوسعية؟ بالتأكيد كلا.
(4)- بن غفير
وإذا نجح بن غفير أو أحد زملائه باستلام حقيبة الأمن الداخلي، فإن الضغط على الفلسطينيين المتمسكين بأراضيهم سوف يزداد قوة ووحشية. وسيعمل بن غفير ويستجيب له نتنياهو على إصدار مزيد من القرارات والقوانين التي تبيح لأفراد قوى الأمن والجيش والمستوطنين إطلاق النار على أي فلسطيني بحجة أنه إرهابي وأن المسألة دفاع عن النفس. وسوف تزداد الاعتقالات ومنع الفلسطينيين من أي نشاط يدعم صمودهم. أما اقتحامات الأقصى فسوف تزداد اتساعاً في كل اتجاه ليحقق التقسيم المكاني والزماني. ويتطلع بن غفير وجماعاته إلى إعادة استئناف حملة التهجير والاستئصال للفلسطينيين وخاصة في القرى والمواقع قليلة السكان. وفي نفس الوقت سيستمر نتنياهو بابتكار المشاريع التي تتيح لإسرائيل التغلغل في مفاصل الدول العربية، وسوف يوظف دولا عربية إضافة إلى أميركا في هذا المجال.. هل يتغير نتنياهو؟ كلا. بل سيزداد ممالأة وانصياعا لرغبات المستوطنين المتشددين.
(5)- الأمل
يبقى الشعب الفلسطيني على أرضه وفي وطنه هو الأمل في الصمود والمقاومة وإفشال المخطط الصهيوني. وسوف يتنبه الشعب إلى المحاولات الإسرائيلية المسستمرة لكسر عزيمته، وبث الفرقة في صفوفه، وتعميق الانقسام بين الفصائل الفلسطينية بشتى الوسائل من خلال أصابع عربية. إن القانون الذي يحكم السياسة هو قانون طبيعي بامتياز لا يتغير الخصم قبل أن يتغير خصمه المقابل إن هذا الانزلاق اليميني المفرط لنتنياهو وحكومته سيكون دافعاً لإنهاء الانقسام الفلسطينيي، والعمل في جهة واحدة وفق برنامج لتعزيز الصمود المادي والقانوني والسياسي والثقافي لفلسطين. لقد آن الأوان أن تتحرك منظمات المجتمع المدني في البلاد العربية لدعم الشعب الفلسطيني على أرضه وبكل الوسائل. وآن الأوان أن تتبصر الدول العربية الأخطار التي يحملها مخطط اليمين الصهيوني، فتتحرك لدعم الجهود نحو الاستقلال الذي تتطلع إليه الجماهير الفلسطينية.