تتمتع إسرائيل بعلاقات خاصة مع كل من روسيا وأوكرانيا. فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي ارتحل على مدى (10) سنوات ما يقارب من (1) مليون شخص من الاتحاد السوفياتي إلى إسرائيل، وكان معظمهم من روسيا. وغدت اللغة الروسية اللغة الثانية لدى دولة الاحتلال بعد اللغة العبرية. ولذا راحت الجالية أو المجموعة الروسية تلعب دوراً بالغ الأهمية في الانتخابات الإسرائيلية وفي سياسة الاستيطان، وفي توجيه القيادات الاستعمارية المتشددة. ومن جانب آخر فإن الكثير من الأوكرانيين اليهود قد هاجروا إلى فلسطين منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي في فلسطين. وظهر من الجالية الأوكرانية العديد من الشخصيات الإسرائيلية البارزة مثل: شمعون بيريز وغيره. ويعيش اليوم في روسيا نصف مليون روسي يهودي، وفي أوكرانيا (300) ألف أوكراني يهودي.
وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية كهدية من المجهول لإسرائيل، نظراً للمكاسب التي تعمل على تحقيقها خلال هذه الفترة، وتغطية تحركاتها وأعمالها بغبار الحرب، خاصة وإن الإعلام الغربي الذي يسيطر على (90 %) من فضاء الإعلام في العالم يركز جل جهوده في هذه الفترة على احداث الحرب في أوكرانيا وتلوينها بالألوان التي يريد، ويتجاهل إلى حد كبير ما يجري في بلدان أخرى. وتسعى إسرائيل في هذه الفترة وبصمت ودون ضجيج أن تحقق الكثير من المكاسب على المستوى الفلسطيني والمستوى العربي والدولي، وعلى النحو التالي:
أولاً: «الحنجلة» الثلاثية، حيث يتراقص الإيقاع الإسرائيلي بين أمريكا وروسيا وأوكرانيا. فإسرائيل لا تخرج عن الخط الذي ترسمه الولايات المتحدة الأميركية وهي التي تعطي الدعم المطلق لإسرائيل في كل شيء و لذا تمد الشركات الإسرائيلية أوكرانيا بالمعدات والأجهزة المتاحة لديها. هذا في حين تطمح إسرائيل إلى اجتذاب الروس اليهود إلى جانبها وإبقاء صلاتها قوية مع الأغنياء والمتنفذين من اليهود في الدولة الروسية، خاصة في فضاء الأعمال والأموال والعالم السفلي. ومن جانب آخر تريد أن تجتذب ما تبقى من يهود أوكرانيا إلى إسرائيل، وبالتالي تستمر في علاقات قوية مع زيلينسكي الرئيس الأوكراني اليهودي المؤيد لإسرائيل في كل اعتداءاتها على الفلسطينيين، وعلاقات قوية مع بوتين بصفة روسيا حجر التوازن للوجود الإيراني في سورية.
ثانياً: تحاول إسرائيل أن تظهر بمظهر حمامة السلام التي لا تريد أن ترى الحروب ولا تشاهد ضحايا التدمير. فهي تظهر تعاطفاً مبالغاً فيه مع الأطفال الأوكرانيين الذين تشردوا من بيوتهم إلى بولندا ورومانيا، وتأسف للمستشفيات التي أصيبت بالقذائف في عين الوقت الذي تقتل فيه الأطفال الفلسطينيين بشكل يومي… وتتناسى أنها ارتكبت من الفظائع ضد الفلسطينيين وعلى مدى (74) عاماً أفظع الجرائم ابتداء من قتل المرضى والشيوخ والأطفال والنساء الحوامل في دير ياسين وأم الفحم، وانتهاء بسجن (2) مليون فلسطيني في غزة في حصار مستمر منذ (14) عاماً. ورغم الحروب العدوانية البشعة التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على دول كثيرة راح ضحيتها ملايين الأبرياء، فإن حمامة السلام الإسرائيلية كانت غائبة تماما. ويعمل الإعلام الغربي على تعزيز صورة تلك الحمامة الإسرائيلية المزيفة، ولا يذكر شيئاً عن ما تقوم به في فلسطين.
ثالثاً: الإمعان في التهويد في مدينة القدس، والإسراع في مصادرة الأراضي الفلسطينية وترحيل الفلسطينيين وإطلاق المستوطنين يعيثون فساداً في كل مكان، وإصدار قانون يمنع لم شمل المقدسيين، وهدم البيوت والمصانع والمرافق الفلسطينية أينما كانت، خاصة وأن الرئيس بايدن لم يلغ أيا من قرارات ترامب العنصرية الهوجاء المنحازة بالكامل لإسرائيل. وهي تفعل ذلك في ظل انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا وانشغال العرب كل في شأنه الخاص.
رابعاً: إنشاء تحالفات جديدة مع أقطار عربية، مدعومة باتفاقيات طاقة وأخرى مالية واقتصادية ونفطية هدفها إنشاء حلف شرق أوسطي على غرار الأطلسي، ولكن بحجم أصغر تكون هي العمود الفقري للحلف، وتتبعها دول خوفاً من التهديد الإيراني المفتعل. وقد بدأت ذلك بتوقيع اتفاقيات دفاع مع بعض الدول العربية مثل المغرب والبحرين والإمارات.
خامساً: الإسراع في إبرام إتفاقيات خط السكة الحديد حيفا – أبو ظبي باعتبار أن هذا المشروع سيفتح الباب للوجود الإسرائيلي الموسع على شاطئ الخليج، تمهيداً لتحويل تجارة الخليج لتكون عن طريق حيفا سادسا الاتفاق مع الإمارات على إنشاء خط أنابيب لنقل النفط الخام مستقبلاً من الخليج إلى أسدود على البحر المتوسط وتصديره إلى أوروبا. وجاءت الحرب في اوكرانيا والعقوبات الاقتصادية على روسيا لتبرر الاستعجال في هذا المشروع وتصدير النفط وإقامة قاعدة عسكرية.
لقد استعادت إسرائيل علاقاتها القوية مع تركيا واستقبل الرئيس طيب أردوغان نتالي بينيت في العاصمة التركية. ويسعى أردوغان لاستعادة الدعم العسكري الإسرائيلي لتركيا وتأكيد وجودها على الأراضي السورية كعامل ضغط على سورية. وفي نفس الوقت سيقوم بينيت وبهدوء ترطيب الأجواء بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية.
والسؤال هنا: ما هو الموقف العربي؟ وكيف سيواجه الفلسطينيون هذا الموقف البالغ الصعوبة؟ خاصة وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي أعلن بكل وضوح، أنه غير معني بحل الدولتين، وأن على الفلسطينيين أن يقبلوا الأمر الواقع وربما يصلون إلى نوع من الحكم الذاتي وليس دولة. والحكم الذاتي الذي تلمح له حكومة بينيت سيكون فقط لغزة مقابل ابتلاع كامل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. وهذا ما أصبحت الإدارة الأميركية تتبناه بهدوء وحرص شديد، وتشجع الدول الأوروبية على السير على خطاها في هذا الاتجاه. وسنجد ذلك واضحاً في الانتخابات الفرنسية المقبلة.
هل يمكن أن تصل الفصائل الفلسطينية إلى الاتفاق وتنهي الانقسام من نفسها؟ بعد أن فشلت محاولات كثيرة في ذلك ووساطات كان آخرها الجزائر؟ هل تتنازل الفصائل عن بعض مواقفها لصالح القضية الفلسطينية وحفاظاً على كل شبر في فلسطين ابتداء من غزة وانتهاء بالقدس؟ هل يمكن للدول العربية المستقرة أن تعمل سياسياً معاً ومع الفلسطينيين لتدارك الأخطار؟ أم أن غبار الحرب في أوكرانيا وتبعاتها سوف تغطي على كل شيء؟ فالولايات المتحدة الأميركية سوف تواصل الضغط على البلاد العربية المنتجة للنفط والغاز، وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر والعراق لرفع إنتاجها في كلا المادتين لتعويض النفط والغاز الروسي، وفرنسا سوف تضغط على الجزائر بنفس الاتجاه، في حين أن هذه البلدان لا تريد أن تخسر علاقاتها مع روسيا ولا تفسد برامج أوبك في الإنتاج. كما أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وكلفة الإنتاج والنقل أوقعت المنطقة العربية وغيرها في أزمات اقتصادية واجتماعية معقدة. هل ستعمل مجموعة الدول العربية المستقرة معا وبالتعاون والتشارك والتنسيق فيكون لها تأثير دولي وإقليمي؟ أم أن كل دولة عربية ستعمل بمفردها كما جرت العادة؟ تلك هي المسألة.