جاء إضراب أصحاب الشاحنات وحافلات الركاب ليسلط الضوء من جديد على قطاع النقل، والذي استمر مهمشا، ولم ينل حقه من الاهتمام على مدى الثلاثين سنة الماضية، الى الدرجة التي اخذت الحكومة قراراً بإلحاق النقل مع وزارة الاشغال والإسكان، رغم وجود وزارة للنقل، وهيئات مستقلة تتناول النقل كل من طرف، بحيث فقدت الإدارة الرسمية أي رؤية واضحة ومتكاملة للقطاع، سواء في وضعه الحالي أو شكله المستقبلي.
ومع هذا ومهما كان التقييم لهذا القطاع والتعامل معه، فإن الحقائق التالية لا بد من التنبه لها.
أولاً: إن قطاع النقل لا يجوز اعتباره مجرد قطاع خدمي بسيط، إذ إنه يساهم في الناتج المحلي الاجمالي بما يقرب من 10 %.
ثانياً: إن قطاع النقل هو المستهلك الرئيسي للطاقة الأولية حيث يسستهلك 35 % من الطاقة الأولية و49 % من مجمل الطاقة النهائية. هذا في حين أن المتوسط العالمي لاستهلاك النقل في حدود 25 % من مجمل الطاقة الأولية.
ثالثاً: إن النقل ليس محصوراً دوره وتأثيره في أصحاب السيارات على أنواعها، وإنما هو ضرورة لكل مواطن على الاطلاق سواء كان طالبا أم عاملاً أم مزارعاً أم كبيرا في السن أم صحيحاً أم مريضاً. انه الشبكة العصبية للفرد والمجتمع والاقتصاد والادارة.
رابعاً: إن تقديرات البنك الدولي في تقريره عن النقل في الأردن، أن الاقتصاد الاردني يخسر 6 % من الناتج المحلي الاجمالي أو ما يقرب من 2000 مليون دينار سنويا بسبب ضعف الكفاءة وتراجع الإنتاجية للقوى العاملة على انواعها نتيجة لضعف قطاع النقل.
خامساً: إن التكلفة البيئية والصحية للتلوث الناشئ عن قطاع النقل بسبب الافراط في السيارات الفردية.
والحافلات الصغيرة وعدم تنظيم القطاع تصل في المتوسط الى 400 مليون دينار سنوياً.
سادساً: إن جزءا كبيراً من المعونات والقروض والمنح تذهب الى الطرق وبكلفة في حدود 400 مليون دينار سنوياً. وبالتالي فإن الكلفة المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الوطني تقترب من 4 مليارات دينار سنوياً بما في ذلك تكلفة الفرص الضائعة. فهل يمكن الاستمرار على هذا المنوال، خاصة وأن الأرقام في تصاعد مستمر؟
عائدات الخزينة
يستهلك قطاع النقل ما يقرب من 3 ملايين طن سنوي من الوقود على شكل مشتقات نفطية متنوعة. ولأن الحكومة دأبت منذ سنوات طويلة على فرض ضريبة مرتفعة تماما، بالمقاييس الدولية، على المشتقات النفطية كانت تتراوح من 50 % الى 90 % ( وهي من أعلى النسب في العالم) فقد تزايدت عائدات الخزينة من هذه الضريبة حتى تعدت 1.25 مليار دينار في السنوات الأخيرة باستثناء سنة الكورونا، وأصبح هذا الدخل بشكل الركن الثاني في عائدات الخزينة بعد ضريبة التبغ ومشتقاته. وكلما ارتفعت اعداد السيارات وازداد اعتماد الافراد على النقل الخاص بسبب غياب النقل العام المنظم ارتفع دخل الخزينة من عائدات الضريبة على المشتقات.
وانطلاقاً من الرؤية الخاطئة للإدارة: بأن المال للخزينة قبل الاقتصاد الوطني فقد سارت الحكومات المتعاقبة في مسارب سلبية اربعة، الاول عدم الاهتمام وعدم العمل على إنشاء وتشغيل منظومات حديثة للنقل الجماعي المنظم. والثاني: عدم الاكتراث بالازدحامات المرورية والتلوث البيئي وخاصة في المدن وما يترتب على ذلك من خسائر اقتصادية وصحية وإنسانية. والثالث: عدم رؤية التطورات العالمية المتسارعة في النقل وإدراك نتائجها المالية والبيئية والاقتصادية وخاصة تطور السيارات الهجينة والسيارات والدراجات الكهربائية وشبكات انابيب نقل النفط ومشتقاته، إضافة الى القطارات السريعة وشبكات السكة الحديد. والرابع: الخلل في تنظيم المدن والأحياء والطرق، والتي تهمل ارصفة المشاة وامكانية استعمال الدراجات الهوائية كوسيلة للنقل الفردي في المدينة. كل ذلك كان على حساب الاقتصاد الوطني وعلى حساب اطمئنان المواطن للنقل العام الضعيف (حسب تقرير البنك الدولي) وعلى حساب المرأة من حيث تردد المرأة في الانخراط في سوق العمل بسبب مشكلات النقل( تقرير البنك الدولي).
ونتيجة لكل ذلك اصبح قطاع النقل في حالة زعزعة مستمرة بسبب التغيرات في اسعار المشتقات النفطية والنفط الخام، ومما فاقم الأزمة ان الادارة الحكومية سارت على النهج اللبناني “بتقليص دور مصفاة البترول الوطنية من خلال عدم تجديد عقد الامتياز، لتتمكن المصفاة من الاستثمار البعيد المدى، وبدلاً من ذلك اعتمدت سياسة استيراد المشتقات الجاهزة”. وهذا جعل اسعار المشتقات التي يعيش عليها قطاع النقل غير مرتبطة فقط بأسعار النفط الخام، بل ايضاً بأسعار المشتقات في السوق الدولي وتكاليف الشحن من مناطق الاستيراد. وغاب عن الادارة ان خلخلة نظام النقل هو في جوهره خلخلة للاقتصاد الوطني.
التسعير
اتخذت الادارة الرسمية منهجاً لتسعير المشتقات لا يتلاءم مع بنية الاقتصاد الوطني، وذلك بتسعير المشتقات النفطية بشكل شهري وحسب تغير اسعار النفط الخام والمشتقات في السوق العالمية. وفي نفس الوقت وضعت تسعيرة خاصة للنقل سواء كان ذلك للركاب او للبضائع ذات الطبيعة المنظمة، وهذا التغيير الشهري في اسعار المشتقات، في اقتصاد صغير الحجم ويتألف بشكل رئيسي من ملكيات صغيرة كالاقتصاد الأردني، من شأنه أن يولد خلخلة متواصلة في كلفة النقل وبالقطاع ذاته من جهة، وإلى ارتفاع الاسعار لكافة السلع والخدمات من جهة أخرى، نظراً لتداخل النقل مع كل نشاط. وكان هذا النهج واحداً من اسباب ارتفاع تكاليف المعيشة لتحتل الأردن المرتبة 52 في الغلاء على مستوى العالم، بينما تقع الكويت في المرتبة 56 والمغرب في المرتبة 117 وتركيا في المرتبة 121 ومصر في المرتبة 126. فإذا أضفنا إلى أسعار الوقود ارتفاع كلفة الصيانة وارتفاع اسعار قطع الغيار وما عليها من جمارك ورسوم وضرائب، فقد أصبح قطاع النقل في حالة صعبة للغاية من حيث جدوى التشغيل والقدرة على الاستمرار.
ومن هنا فإن مدخلاً مختلفا لتسعير المشتقات النفطية يجب المباشرة فيه، خاصة وأن عائدات الخزينة من هذا القطاع ضخمة للغاية عند إضافة الجمارك والرسوم على مستلزمات وآليات النقل. وهذا المدخل يقوم على، أولاً: إنشاء صندوق أو حساب خاص للمشتقات النفطية من العائدات الضريبية قادر على امتصاص التذبذبات السعرية. ثانياً: تكون مراجعة اسعار المشتقات مرة كل ستة أشهر او مرة في العام. وتسوى الفروق من صندوق او حساب المشتقات. ثالثاً: العمل على تخفيض كلفة النفط الخام والوقودات من خلال انشاء شبكة من انابيب نقل النفط ومشتقاته، بدلاً من النقل الفردي المكلف بالصهاريج. رابعاً: عقد اتفاقيات طويلة الأمد مع كل من السعودية والعراق لتوريد النفط الخام. خامساً: اتاحة الفرصة لمصفاة البترول للتوسع في انتاج المشتقات النفطية بدلاً من الاستيراد المكلف والمتذبذب الاسعار. سادسا: حساب الأثر الاقتصادي والاجتماعي للأسعار على قطاع النقل والقطاعات الأخرى ذات العلاقة.
إعادة الاعتبار
إن قطاع النقل يشكل ركيزة أساسية لجميع القطاعات ابتداء من التعليم والصحة وانتهاء بالسياحة والصناعة والزراعة، ومن هنا فإن التعامل مع القطاع من منظور العائدات المالية للخزينة فقط على حساب متطلبات الاقتصاد الوطني لا بد من وضع نهاية فورية له.
وعلى الدولة أن تعمل وفق برنامج واضح باتجاه تحديث واستقرار قطاع النقل ليصبح اعلى كفاءة وأكثر موثوقية وأجدى اقتصاديا، وهذا يتطلب، اضافة الى ما تقدم، العمل على انشاء شبكة حديثة للنقل العام، وعلى رأسها انابيب النفط ومشتقاته وشبكة سكة حديد من العقبة الى الرمثا، (دون انتظار سكة حديد الشمال القادمة من حيفا) واعادة النظر في تنظيم المدن والطرق والشوارع لتكون قادرة على استيعاب المشاة والدراجات الهوائية.
وفي نفس الوقت بل وقبل كل شيء ان تضع الحكومة برنامجاً اقتصادياً ماليا للخروج التدريجي من اعتماد الخزينة الكبير على الضرائب المفروضة على المشتقات النفطية والسيارات خلال خمس سنوات أولا للمحافظة على الاستقرار في الأسعار، وثانيا لمواجهة التحولات العالمية المتسارعة نحو المركبات الكهربائية والطاقة النظيفة.
إن وزارة المالية ووزارة الطاقة بحاجة الى خبراء اقتصاديين وعلماء في الدراسات التكنولوجية المستقبلية، كما أن الحكومة بحاجة إلى إعادة وزارة النقل وتدعيم بنيتها الهيكلية حتى تكون شريكا فاعلا في إدارة وتنظيم وتفعيل وتحديث قطاع النقل.