ما أن يمر شهر أو أقل أو أكثر قليلا حتى تخرج التصريحات الأميركية لتتبعها أو تسبقها تصريحات بريطانية وفرنسية وألمانية وأحيانا كندية وأسترالية “أن الولايات المتحدة الأميركية (أو أي من الدول الحليفة) ملتزمة بأمن إسرائيل”، وبعد كل عملية اعتداء وهجوم وحشي يقوم به الجيش الإسرائيلي أو الشرطة أو المستوطنون على بلدة أو قرية أو مستشفى أو مدرسة فلسطينية أو مخيم للاجئين الفلسطينيين حتى تنطلق الأسطوانة من جديد “ملتزمون بأمن إسرائيل”. وما أن يخرج شاب أو مجموعة من الشباب الفلسطينيين للرد على جريمة إسرائيلية بقتل الأبرياء أو تدمير المنازل أو انتهاك حرمة الأماكن المقدسة حتى تنطلق المقولة الالتزام بأمن إسرائيل ويضيفون “حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها ومواطنيها”.
يقول الكاتب الإسرائيلي تسفي برئيل في جريدة هآرتس الصادرة في 12/7/2023 في انتقاده لسياسة حكومة نتنياهو وبن غفير “الولايات المتحدة تلتزم بأمن دولة إسرائيل. هذه المسلمة التي أقسم عليها رؤساء الولايات المتحدة في عشرات السنين الأخيرة وكأنها بند في دستورها. أيضاً قالوا إن “إسرائيل هي ذخر إستراتيجي للولايات المتحدة”. أي أن المس بأمنها هو مس بأمن الولايات المتحدة. ولكن الأميركيين والقول ما يزال لتسفي برئيل، لم يقدروا في أي يوم بأن إسرائيل ستتحول إلى تهديد أمني على دولتهم، وستضر بشكل كبير بمكانة واشنطن الإستراتيجية”. ويتابع تسفي قوله “تجسد الولايات المتحدة مفهومها للالتزام بأمن إسرائيل وتقيسه بكميات السلاح والمساعدات العسكرية والتعاون الاستخباراتي والتكنولوجي وتمويل مشاريع أمنية حيوية والدعم في الأمم المتحدة واجتثات أعداء مشتركين والدفع قدما بمكانة إسرائيل الدولية بشكل عام وفي الشرق الأوسط بشكل خاص من أجل إزالة أي تهديد من طريقها”.
ولذا تتسابق الإدارات الأميركية على تزويد إسرائيل بأحدث المعدات والتكنولوجيا وخاصة العسكرية والاستثمار الصناعي المتقدم من قبل الشركات الأميركية في إسرائيل، بينما ترضي حلفاءها العرب بمعونات مالية لا تغير من إمكاناتها الاقتصادية، أو معدات عسكرية أقل بكثير، من مستوى ما تقدمه لإسرائيل. وحقيقة الأمر أنه منذ عام 1949، وبعد توقيع الهدنة بين مصر والأردن وسورية ولبنان، كل منها منفردة، وبين إسرائيل لم تقم أي دولة عربية بمهاجمة إسرائيل. إن جميع الحروب العربية الإسرائيلية وعلى مدى الـ 77 عاما كان البادئ بها إسرائيل منفردة، أو مع دول أخرى مثل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحرب حزيران عام 1967 وحرب تشرين عام 1973 وهكذا حتى يومنا هذا.
هل هناك حق للمعتدي أو للمحتل بأن يدّعي المطالبة أو الدفاع أو الحماية لأمنه؟ وهو الذي يحرك الجيوش والدبابات والجرافات ضد الجيوش الأخرى المدافعة عن بلادها، بل وضد الناس المدنيين العزّل؟
والسؤال هنا: ما هو مفهوم الأمن الإسرائيلي؟ وما هي حدوده التي ينتهي عندها؟ وأين ومتى يبدأ أمن الآخرين؟
لم تحدد الولايات المتحدة وحلفاؤها حدود وضوابط أمن إسرائيل الذي تلتزم به: هل هو الدفاع عن النفس في حالة هجوم خارجي؟ كما هو المفهوم العام السائد لأمن أي دولة في العالم؟ أم هو الأمن المفتوح الذي يتعدى حدود إسرائيل إلى الدول المجاورة؟
إن الضفة الغربية بما فيها القدس هي مناطق محتلة بموجب الواقع وبالقرارات الدولية، وحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وأراضيه ضد دولة الاحتلال ضمنته القوانين الدولية واتفاقية جنيف الرابعة… وإسرائيل تحاصر الشعب الفلسطيني وتضعه في سجن كبير محاط بالجدران الفاصلة وبالقوات العسكرية التي تحيط به جواً وبراً وبحراً.. إذن أين التهديد لأمن إسرائيل؟ وإسرائيل لا تخفي تطلعاتها التوسعية تجاه الأردن، وقد ورد ذلك صراحة في كتاب نتنياهو “مكان تحت الشمس” عام 1994 وفي خريطة سموتريتش في باريس. ومن جانب آخر، أعلنت إسرائيل ضم الجولان الذي تحتله منذ العام 1967 وأعلنت ضم القدس واعترفت أميركا بذلك. وأعلنت ضم الأغوار الفلسطينية وقبل أيام زحفت إلى قرية لبنانية وأحاطتها بالأسلاك الشائكة.. أين سقف أمن إسرائيل؟ إن الترجمة السياسية العملية لأمن إسرائيل من المنظور الأميركي مؤداه: أن تكون قادرة على أن تفعل ما تشاء دون عوائق ابتداء من قتل طفل في الشارع، مروراً بتهويد المناطق التي تريد، وضم ما تشاء من أراض، وانتهاء بقصف أي بلد عربي بالصواريخ والطائرات، وفي نفس الوقت أن تغض الطرف عن عبارات إعلامية، مثل الاستنكار والانزعاج والقلق. وبالمقابل فالأمن من المنظور الإسرائيلي أن تكون إسرائيل الدولة القوية الوحيدة في المنطقة بين مجموعة من الدول المفككة الضعيفة. ولذا تعمل إسرائيل وبدعم أميركي كامل على تفكيك المحيط العربي حتى تتحرك إسرائيل كما تشاء ومتى تشاء.
والسؤال ألا يرى قادة السياسة والدبلوماسية العربية أن هذا الالتزام المطلق أو الالتزام الأعمى أو الالتزام المفتوح فيه تهديد لأمن الدول العربية كل واحدة بذاتها؟
لقد آن الأوان لأن تتحرك الأقطار العربية منفردة ومجتمعة وخاصة الدول المحيطة بإسرائيل والقريبة منها أن تطالب الإدارة الأميركية وحلفاءها بوضع حدود واضحة وسقوف محددة للأمن الإسرائيلي من المنظور الخارجي بما فيه الأراضي الفلسطينية المحتلة. بمعنى أن تتوقف إسرائيل عن النظر إلى قوة مصر الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية كتهديد للأمن الإسرائيلي، وألا تكون قوة الأردن كذلك. أم أن احتلال العراق وتدمير سورية وتفكيك لبنان ونسف ميناء بيروت وإضعاف الأردن وتحييد مصر وإضعافها يمثل ذلك التزاما وضمانا للأمن الإسرائيلي الذي تسعى الدول الغربية للمحافظة عليه.
لقد آن الأوان أن تفكر الدول العربية المحيطة بإسرائيل بموضوعة الأمن العربي أو الأمن الوطني، وتخرج كل منها من الرؤية الضيقة. فالأمن الإسرائيلي ما هو إلا غطاء سياسي للأطماع التوسعية وتفاصيله من منظور مستقبلي أخطر من ذلك بكثير.