تحتل سنغافورة المرتبة الثانية عالمياً في جاذبية الأعمال، بينما يحتل الأردن المرتبة 118 في” سهولة الأعمال” والمرتبة 106 في “بدء الأعمال” والمرتبة 109 في “اذون الانشاء للمشاريع. أما مؤشر حكم القانون لدينا فهو 46 من مئة مقابل 85 لسنغافورة. هذا” في حين أن مرتبة الأردن عالميا في الدليل العالمي لتنافسية المواهب هي 58 لعام 2017. اين تذهب المواهب والامكانات الابداعية الوطنية فتجعل المستثمر، الذي ينظر دائما إلى المؤشرات الدولية، متردداً في المخاطرة بأمواله لبدء مشاريع استثمارية جديدة؟ أنها “تضيع بين مسننات الآلة الادارية الرسمية من جهة، والفساد من جهة ثانية”. وهذا ما دعا الملك قبل أيام للتحذير من استمرار المشهد البيروقراطي وحركة الخلف -أمام (خطوة إلى الأمام و خطوة للخلف) إزاء بيئة الأعمال. وأكد على ضرورة إعادة هندسة الإجراءات الحكومية.
انطلقت المطالبة بضرورة اصلاح القطاع العام ووضع حد للفساد قبل 25 سنة تقريباً، وكانت الإشارات إلى البيروقراطية والترهل وعدم اهتمام الموظف العام بخدمة المواطن والنظرة الفوقية والتسلط والتحكم وغياب معايير الكفاءة والأداء، تتكرر في الخطابات الملكية و التقارير الدولية و كتابات الخبراء و المثقفين و الإعلاميين و القطاعات الاقتصادية. وأهم من كل ذلك من المواطنين في طول البلاد و عرضها. ولكن التجاوب كان محدودا و مترددا و مرتبكا. وخلال هذه الفترة تغير العالم سياسيا واقتصاديا واداريا ومعلوماتيا ،وتقدمت دول كثيرة، بينما المشهد لا يزال لدينا على حاله، رغم إنشاء وزارات وهيئات لهذه الغاية، ورغم التأثير السلبي المتسارع لهذه الحالة على الاستثمار و الإقتصاد الوطني و البطالة. هذا رغم نجاح عدد قليل من مؤسساتنا وفي مقدمتها دائرة الأحول المدنية ودائرة السير في تغيير أسلوب العمل بشكل كلي جعلها نموذجاً لكل دائرة أخرى .
تعود المشكلة إلى (8) أسباب رئيسية : الأول: أن الجهاز الرسمي بدوائره المختلفة لا يشعر بالقلق والصدمة ازاء شكوى المواطنين و المستثمرين ،و إزاء التراجعات في الاقتصاد و في فرص العمل، وفي التعليم وفي الاستثمار، و”لا تعنيه أبدا الارقام التأشيرية الدولية التي تمثل معيار نجاح الإدارة أو فشلها، و التي يعتمد عليها المستثمر في قراره.” الثاني : أن الموظف لا يتلقى أي تدريب وتأهيل أزاء دوره في المؤسسة العامة ،وواجباته تجاه المواطن، وتأثير عمله على الاقتصاد الوطني والسلام الاجتماعي .و لا يتلقى اية توجيهات و افكار و تعليمات للخروج من الأزمة. فكل شيء عادي سنة بعد سنة. الثالث : إن الترفيع والزيادات السنوية هي بالأقدمية أو “الواسطة والقرباوية و الإسترضائية”. وبالتالي لا يشعر الكثير من الموظفين بالتزام من أي نوع نحو التحسين و التغيير الا بالحضور صباحاً والدوام الشكلي . الرابع : إن اي وزارة لم تضع لنفسها ولموظفيها معايير محددة للأداء يتفهمها الموظف ويتدرب عليها ويتابعها المدراء للوصول إلى “اهداف محددة بالرقم” للانجاز في نهاية كل عام ، و الإرتقاء بالأرقام التأشيرية للقطاع الذي هو مسؤول عنه. وبالتالي لا يشعر الموظف بأنه مطالب بالتطوير في وقت محدد أو حتى بتيسير الاجراء مع المواطن كواجب وظيفي. وبقي الأمر على حاله حتى مع دخول الحاسوب و التشبيك وإتاحة المعلومة جاهزة أمام الموظف . الخامس: الضعف العلمي و المعلوماتي لبعض القيادات الإدارية و غياب الدافعية ، وعدم اكتراثها بقراءة وتدبر الارقام الدولية الخاصة بالاردن وكذلك تواضع قدرتها على التأثير والتجويد والتحسين والإبداع في عالم متغير سريع الحركة. السادس: غياب المساءلة على المستويات المختلفة سواء للإنجاز و الإبداع لغايات التقدير أو للتقصير و عدم تحقيق الأهداف ،وخاصة عند الأزمات السابع: كثرة التداخلات والتدخلات الجانبية من هنا و هناك، في كل صغيرة وكبيرة ،مما يجعل الادارات مترددة باتخاذ الخطوات اللازمة للإرتقاء بالعمل. الثامن: حالات الفساد الإداري والمالي والإدائي الصغيرة والكبيرة مما يجعل الجهاز الإداري غير عابئ بالانتقادات وغير مستعد للانتفاض والتغيير.
وهنا لابد من الإفادة من تجارب الدول الأخرى في إصلاح الإدارات فيها، ومن هذه الدول سنغافورة والتي تحتل على مستوى العالم المرتبة 10 في بداية الأعمال و10 في اذون الانشاء. وكذلك ماليزيا وكوريا ،ناهيك عن دول أوروبية مثل ايرلندا وفنلندا وغيرها. لقد اكتشفت هذه الدول أن البرامج العامة للإصلاح الإداري لا تفيد كثيراً. وانما لا بد من برامج توعية بأزمة الحالة، ودور المؤسسة بتجاوز الأزمة ،وبرامج خاصة بكل مؤسسة يضعها خبراء يعملون مع المؤسسة ويدركون تفاصيل اعمالها ومهنيتها، ليعرف الموظف تفاصيل واجباته الادارية والقانونية والمهنية و الأخلاقية والوطنية ومسؤولياته في هذا الموقع بالتحديد . وهذا يتطلب سلسلة من الاجراءات و النشرات و مدونات السلوك و التوجيهات و القياسات الرقمية في كل وزارة ومؤسسة بذاتها بحيث تتضمن هذه الاجراءات الأساسيات التالية :
أولاً : وضع برامج تدريبية للموظف حسب تخصص الدائرة التي يعمل به إضافة إلى أساسيات الوظيفة العامة ( خدمة المواطن ،أخلاقيات الوظيفة، مدونات السلوك، قراءة التشريعات ، المعلومات والبيانات). ثانياً : ربط الترقية من درجة إلى أخرى باجتياز برنامج من الدورات تماما كما هو الحال في الجيش . وهنا يتوجب على كل وزارة وضع متطلبات السلم الوظيفي الخاص بها وما هي المواد والدورات التي يجتازها الموظف ومن هي الجهة المشرفة على ذلك وبالتالي تنتهي الترقية التلقائية بالأقدمية. ثالثا: وضع معايير أداء لكل مؤسسة من حيث النوعية والزمن وتقسيم الأداء إلى وحدات يمكن قياسها . رابعا: الاستعانة بمدققين إداريين وخبراء قياس و تقييم من خارج المؤسسة . خامساً : قياس رضا المواطن و الشركاء في القطاع وقناعتهم بالأداء بشكل نصف سنوي، عن طريق جهة خارجة عن المؤسسة ،وإعلان النتائج بكل شفافية ومقارنتها بما يناظرها في الدول المتقدمة .
إن الترهل و اللامبالاة والبيروقراطية هي السم القاتل للانتاجية، و هي صفارة الإنذار للمستثمر للإبتعاد. كما أن الكلفة الاقتصادية والاجتماعية لضعف الأداء في الجهاز الإداري وعدم مرونته لمجاراة التطورات الدولية، بما فيها من سرعة الحركة و المعلومة والتكنولوجيا هي كلفة عالية للغاية، وتصل إلى مليارات الدنانير المهدورة أو الضائعة سنوياً . إن بناء مستقبل مزدهر ينشط فيه القطاع الخاص وينجذب المستثمر فيه إلى العمل والمجازفة يتطلب اصلاحاً حقيقياً فاعلا و متابعة حثيثة شاملة بعيداً عن العموميات الإدارية التقليدية. فهل تجري استجابة حقيقية للإصلاح و لرسالة الملك ؟ تلك هي المسألة.