تكاد مسألة تنمية المحافظات تراوح في مكانها تقريبا منذ فترة. وتجتهد الحكومات في تحسين الخدمات والبنية التحتية من طرق ومدارس ومستشفيات ، و لكن دون أن يكون لهذه الجهود مردود مباشر على مستوى الدخل ،وحالة البطالة، وجيوب الفقر التي تعاني منها مساحات واسعة من الوطن .أن إشكالية التنمية في الأرياف والبوادي وصعوبتها، تتمثل في ضرورة إنشاء مشاريع إنتاجية متنوعة، من صناعية وزراعية حديثة ،إلى صناعات يدوية وسياحية ،ذات بعد اجتماعي إلى حد كبير، و هذه من شأنها توليد فرص عمل جديدة، تعمل على رفع المستوى الإقتصادي الاجتماعي للمحافظة بمجملها .
والسؤال الكبير هو: من يقوم بهذه المشاريع و متى ؟ ومن يقدم عليها و لماذا ؟ وفي أي إطار ونحو أي توجه ؟؟ يقول أصحاب القرار :إن الحكومات لا تقيم المصانع ولا المزارع، ولا تنشئ الفنادق ولا مرافق السياحة ،ولا مجمعات الأعمال الحرفية، فذلك كان في الماضي. إذا كان الحال كذلك، فما هو دور الحكومة ؟وكيف يكون فاعلاً وفعالاً في عملية تنمية الأرياف والبوادي ؟ حتى يخرج الأمر من الشعارات والمناداة؟ إلى الواقع العملي الذي ينفع الناس و يتفاعل معه المواطن.
والدارس لتجارب الدول التي نجحت في هذا المجال و منها ماليزيا والبرتغال و ايرلندا واليونان و غيرها يمكن أن يخرج بمجمل الإجراءات التالية : أولاً: ضرورة أن تكلف الحكومة مجموعة من الخبراء بالتعاون مع الجامعات المحلية لوضع “ دليل الاستثمار في المحافظة “. يتضمن الدليل بصورته الورقية والإلكترونية كافة المعلومات الهامة التي تتعلق بالاستثمار وتهم المستثمرين، إضافة إلى مجموعة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة التي يمكن إقامتها في المحافظة بالإفادة من الميزات الخاصة بها. ويضاف إليها الحوافز المتعلقة بتشجيع الاستثمار سواء من حيث توفير الأراضي و الإعفاءات الضريبية و الجمركية و الشراكات المحتملة . ثانياً : الطلب إلى الشركات الكبرى العاملة في المحافظة أو القريبة منها العمل على تحضير مشاريع تتعلق بمستلزماتها الإنتاجية والخدمية والتي يمكن تصنيعها محلياً حتى تكون هذه الصناعات ضمن المشاريع للمحافظة . ثالثاً : تخصيص أراضي للاستصلاح أو لزراعة الأعلاف أو لتربية الثروة الحيوانية على أسس صناعية وتكنولوجية متقدمة وعرضها للمستثمرين لإنشاء شركات مختلطة بين الحكومة والمستثمرين الجدد. رابعاً : إنشاء شركة قابضة واحدة على الأقل في كل محافظة تساهم الحكومة في هذه الشركة وتدعو المستثمرين والبنوك والصناديق المالية لاستكمال المشاركة في الشركة القابضة واستكمال رؤوس الأموال اللازمة لتتولى هذه الشركة إنشاء و أدارة شركات و مشاريع إنتاجية مختلفة . خامساً : دعوة المواطنين من خلال الإدارات المحلية و منظمات المجتمع المدني إلى إنشاء جمعيات تعاونية يساهم ويشارك فيها المواطنون وتدعمها الحكومة والمؤسسات المالية للقيام بمشاريع إنتاجية في المحافظة . سادساً : توجيه دعوات خاصة إلى دول أو مجموعات استثمارية أو شركات كبرى لزيارة المحافظات واستعراض المشاريع الاستثمارية الممكنة بما في ذلك الصناعات الكبيرة كصناعة الكيماويات والزجاج والرمل الزجاجي و الفنادق السياحية و استخراج المعادن و إنتاج اللحوم وهكذا. سابعاً : إنشاء مجمعات للأعمال الحرفية والأشغال التقليدية في كل محافظة وإنشاء تعاونيات لتسويق تلك المنتجات،و إقامة مركز تكنولوجي متخصص لتطويرها .ثامنا :وضع مشاريع المحافظات في مجموعة أو حزام خاص هو “حزام الأمن الإقتصادي الاجتماعي” لكي تتمتع المشاريع الداخلة فيه بالحماية و الأفضلية لفترة زمنية كافية.
وواضح من تجارب تلك الدول التي حققت نجاحات كبيرة أن “ تنمية الأرياف والبوادي ليست بالعملية السهلة، وليست مجرد قرار أو توجه،أو إنشاء صندوق، وإنما هي عملية اقتصادية اجتماعية تأهيلية ثقافية مستمرة. تقوم على البرمجة والتخطيط العلمي الصحيح القصير والمتوسط المدى ، وتستند إلى المعلومات والأرقام الخاصة بكل محافظة، وتتطلب إدارتها مؤسسة متخصصة و مراكز تدريب و تأهيل و تجميع خاصة، ويقوم نجاحها على تعاون القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والجامعات مع الحكومة، ويتم تمويلها من مساهمات مشتركة و شركات مختلطة في البداية، يتم تحويلها إلى شركات مساهمة عامة محلية، يساهم فيها أبناء المحافظة بمدخرات بسيطة .و بعد ذلك تنطلق المحافظة بإمكاناتها الذاتية.
إن تنمية المحافظات لا يمكن أن تتأتى من خلال المساعدات الدولية المتقطعة، ولا من خلال الاعتماد الكلي على المستثمرين في القطاع الخاص، وإنما هي عملية شاقة طويلة المدى تكون الحكومة فيها صاحبة المبادرات الأولى، وتتطلب الوعي و استقرار الإدارات، و قياس الإنجازات، وتصحيح المسارات والصبر حتى تتحقق. و هو ما لا تطيقه الكثير من الحكومات.
على أن الكلفة المنظورة وغير المنظورة والمباشرة وغير المباشرة المالية والمعنوية والأمنية والاجتماعية التي تدفعها الدولة، ويدفعها المجتمع نتيجة للتردد في تنمية البوادي والأرياف ،وترحيل المشكلة إلى وقت لاحق، هي أكبر بكثير من أية تكلفة سوف تساهم فيها الدولة. وتستطيع الحكومة الجادة أن ترسل (4) وفود من الخبراء إلى (4)دول ناجحة في هذا المجال، ليعودوا بعد (4) أسابيع، ليضعوا مجموعة من توصيات عملية قابلة للتنفيذ.
إن اقتصاد السوق الحر لم يتطور حتى في البلدان الصناعية إلا بعد أن أدت الدولة دورها الهام في وضع اللبنات الرئيسية للاقتصاد الحديث في العواصم والمدن، بما في ذلك إنشاء المشاريع الإنتاجية الكبيرة . و حال البوادي والأرياف اليوم هي ليست أفضل حالا مما كانت عليه المدن قبل خمسين أو ستين عاما. واليوم جاء دور المحافظات ليكون للقطاع العام دوره ،وبعد ذلك يمكن لاقتصاد السوق الحر أن يأخذ مجراه. إن الدول التي نجحت في تطوير أريافها هي تلك التي أدركت في وقت مبكر حق المواطنين هناك بالتنمية و الارتقاء والحياة الكريمة من جهدهم و إنتاجهم، وأدركت أن الأرياف هي العمق الإستراتيجي للوطن ، و المنطلق لصناعة المستقبل.