في لقائه رئيس مجلس الأعيان ورؤساء اللجان في المجلس، أشار الملك عبدالله الثاني إلى موضوع البطالة، وأكد أن ” التصدي للبطالة يتطلب قرارات وطنية شجاعة” وهي اشارة في مكانها ووقتها. فقد تصاعدت أرقام البطالة لدينا بشكل يثير التخوف والقلق، فوصلت 25 %. وهي في بعض المحافظات تصل 28 %.
هذا في حين أن المعدل العام للبطالة في البلاد العربية للعام 2020 في حدود 15.5 %، وفي مصر 10.45 %، بينما المعدل العالمي للبطالة 6.5 %.
وهكذا فان معدل البطالة لدينا يقترب من 4 أضعاف المعدل العالمي وهو أمر غاية في الخطورة. ان الشباب والشابات هم الأكثر معاناة من البطالة. وأصبح شائعا ان يكون لدى العائلة اثنين أو ثلاثة من الأبناء والبنات من خريجي الجامعات ولكنهم عاطلون عن العمل.إذ أن البطالة لدى الشباب تصل الى 55 % في حين ان المعدل العالمي لبطالة الشباب 15.5 % والمعدل العربي 30 %.
كما أن البطالة بين المتعلمين من الثانوية العامة وما بعدها فهي 57 %. وهذا يعني ان بين كل 10 من خريجي الثانوية والجامعات نجد 6 خريجين عاطلين عن العمل. وفي الوقت الذي يطالب الجميع بأن تنال المرأة الأردنية حقوقها نلاحظ أن فرص العمل أمام المرأة محدودة تماما ومستوى مشاركة المرأة في العمل ما يزال 14.5 % وهو ثالث أدنى مشاركة على مستوى العالم، بكل ما يعني ذلك من هضم لحقوق المرأة من جانب وخسارة في رأس المال البشري للمجتمع الأردني من جانب آخر وكأن الأردن يعمل بنصف سكانه.
وإذا كان الملك أشار إلى الشجاعة في القرار فلا بد أن يسبق ذلك شجاعة الاعتراف بأن” البطالة المتفاقمة ليست وليدة الكورونا، وإنما هي نتيجة ضعف الاقتصاد وعدم قدرته على توليد فرص العمل المطلوبة لغياب المشروع الاقتصادي الوطني، فأخذت البطالة في التفاقم منذ سنوات دون اكتراث الادارات المتعاقبة سنة بعد سنة والاكتفاء بالوعود أو الإجراءات التجميلية هنا وهناك”. وهذا يفسر جزء كبيرا من إزدياد حالة الاحباط والعنف بل والجريمة والذهاب إلى المخدرات والتطرف لدى الكثيرين من الشباب.
ثم يتحدث الملك عن “القرارات الوطنية”. بمعنى اننا من جانب يتوجب أن لا ننتظر الحلول الجاهزة من الخارج، ومن جانب آخر لا نحتاج الى تحويل الموضوع إلى مسألة جدلية تتطلب الدراسات والتقارير والحوار والنقاش على الطريقة التي اعتدناها على مدى 30 عاماً مضت.
إن أسباب البطالة عديدة ومعروفة وأهمها: اولا: انسحاب الإدارة الرسمية من الموضوع الاقتصادي وتركيز الحكومات فقط على الجانب المالي. حتى أصبح الاقتراض والبحث عن المساعدات والمنح والقروض جزءا أساسيا في تفكير الدولة، سواء كان الأمر يتعلق ببناء مدرسة ثانوية في قرية، أو سوق مركزي في إربد، أو محطة تحلية مياه في العقبة.
ولم يعترف الجهاز الرسمي حتى اليوم ان الاقتصاد الجيد المتنامي هو الذي يولد المال وليس الضرائب والقروض والمساعدات ثانيا: عدم طرح اي برامج اقتصادية من أي حكومة منذ أكثر من 25 سنة.
والبرنامج الاقتصادي يقوم بالدرجة الأولى على الاستثمار في مشاريع انتاجية جديدة وليس مجرد تصليح طرق، وترميم مباني هنا وهناك. ثالثا: عدم التفات التعليم الأساسي والعالي إلى المهارات المطلوبة في السوق وفي مقدمتها مهارات الريادية وانشاء وادارة المشاريع. وبدلاً من ذلك ذهب التفكير الرسمي الى تفسير البطالة بأنها بسبب تخصصات راكدة ومشبعة. وهو أمر لا يجدي شيئاً.
ان كل طالب مهما كان تخصصه، مهما درس من علوم ابتداء من التاريخ ومرورا بالأدب الجاهلي وانتهاء بالصيدلة والهندسة يجب ان يتسلح بمهارات التخصص إضافة إلى مهارات الريادية وانشاء وإدارة المشاريع، وينبغي إعداده نفسياً وعلمياً ليكون على استعداد لإقامة مشروعه الخاص بعد التخرج.
رابعاً: الإفراط في الاستيراد بسبب عائداته الجمركية، بدلا من الإنتاج الوطني، حتى وصلت قيمة المستوردات السنوية 50 % من الناتج المحلي الاجمالي وفي حدود 16 مليار دينار، مما حول سوق العمل الى حالة هلامية دون ملامح مستقرة. هذا مع العلم بأن كل 30 ألف دينار استيراد في جزء كبير من السلع يعادل فرصة عمل يستفيد منها الصيني أو الكوري أو التركي بدلاً من الأردني.
خامساً: المسارعة إلى بيع المرافق الوطنية وتبديد عائداتها في نفقات مبعثرة، بدلاً من استثمارها في مشاريع إنتاجية جديدة.
وكذلك المسارعة إلى التعاقد مع الشركات الأجنبية عند ظهور أي مشروع وبالتالي تحييد رأس المال البشري الأردني من علماء ومهندسين ومقاولين وفنيين وحرمان الكثيرين من الأردنيين بمستويات مختلفة من فرص العمل، مما جعل ما يقرب من 50 % من عائدات المشاريع والشركات المساهمة العامة والبنوك تتحول الى الخارج ولا تبقى في البلاد لإعادة استثمارها وتوليد فرص العمل الجديدة.
سادساً: عدم التمييز بين الاستثمار الاجنبي الذي يبحث عن صفقة شراء لما هو موجود سواء كان عقارات او اسهم او مرافق، وبين الاستثمار الأجنبي الموجه لبناء مرفق انتاجي جديد يشكل إضافة ذات قيمة الى هيكل الاقتصاد الوطني سابعاً: إهمال التنمية في المحافظات وعدم الاكتراث بإنشاء مشاريع انتاجية جديدة، وتجاهل تطوير مدينة في المحافظة لتكون عاصمة اقتصادية فيها.
ثامناً: عدم الاهتمام بالثروة الاجتماعية الوطنية، وبالتالي تحييد صغار المستثمرين والمدخرين من خلال عدم تشجيع إقامة الشركات المساهمة العامة (بشراكة الحكومة في البداية) لإنشاء المشاريع وبالتالي اهمال الاقتصاد الاجتماعي والتعاونيات. تاسعاً: الخلخلة المتواصلة في إدارة الاستثمار وعدم استقرار التشريعات، بل وعدم تعريف المستثمر، وإهمال المستثمر المحلي الوطني، وعدم الاكتراث بوضع الحلول للمشكلات التي يواجهها أصحاب المشاريع الصناعية أو الزراعية أو الخدمية، مما دفع آلاف المشاريع الى اقفال ابوابها وتسريح عشرات الآلاف من العمال، والهجرة الى بلدان أخرى.
والسؤال هل تكون لدينا الشجاعة كما يطالب الملك لأن تأخذ الحكومة القرارات الوطنية التي تصحح هذه الأخطاء؟ هل يمكن ان تصدر الحكومة “الوثيقة الوطنية لمواجهة البطالة” وتعرضها على مجلس الامة لتصبح عابرة للحكومات، وتتضمن برنامجاً محدداً في اطار النقاط الرئيسية التالية:
اولاً: التزام المدارس والجامعات بتدريس” مادة الريادية وانشاء المشاريع” ابتداء من الصف الرابع الابتدائي حتى التخّرج من المدرسة ثم الجامعة او المعهد.
ثانياً: المباشرة بإنشاء مجموعة من المشاريع الانتاجية في المحافظات يتم تمويلها من خلال شركات مساهمة عامة في اطار من الشفافية والمساءلة ثالثاً: دعوة جميع الشركات المتعثرة او التي اغلقت مشاريعها لعرض مشكلاتها على لجنة وطنية خاصة للوصول الى حلول وتوفير متطلبات العودة الى الانتاج.
رابعاً: البدء ببرنامج للصناعات الاحلالية لاستبدال جزء من المستوردات بإنتاج محلي تقام له المشاريع اللازمة بتمويل وطني من الحكومة و المجتمع.
خامساً: اعادة انشاء بنك الانماء الصناعي بمساهمة من الحكومة والمؤسسات والمواطنين. سادساً:التزام كل جامعة في كل محافظة بتقديم الاستشارات التنموية والاقتصادية للمحافظة والتركيز على الدور الاقتصادي التنموي للمحافظ ولمجلس المحافظة وفق مؤشرات أداء رقمية محددة.
سابعاً: تكليف المؤسسات والشركات الصناعية والزراعية والخدمية الكبرى بإعلان قوائم بالصناعات التكميلية لها سواء قبل الانتاج او بعده ليصار الى انشاء مشاريع انتاجية وفق هذه القوائم. ثامناً: العمل على تصنيع الزراعة وتحديثها والتوجه للزراعة الذكية والمكننة واستخدام الطاقة الشمسية بالتعاون بين المؤسسات الزراعية والجامعات.
تاسعاً: العمل على الارتقاء التكنولوجي بالكثير من المهن والخدمات من خلال الافادة من تجارب الدول الأخرى وخاصة الصين والهند، حتى تصبح هذه المهن والخدمات جاذبة للشباب الأردني.
عاشراً: العمل على تخفيض كلفة الطاقة والمياه باستعمال شتى التكنولوجيات المتاحة بهدف تخفيض كلف الانتاج والتعامل مع الدول بالتصدير والاستيراد على قاعدة التعامل بالمثل. حادي عشر: العمل على تطوير الصناعات المنزلية والإرتقاء بها وتجميعها وتسويقها وإعدادها للتصدير من خلال مؤسسة متخصصة.
ثاني عشر: تصنيع النقل والشروع بمشاريع سكة حديد ومشاريع أنابيب لنقل النفط والمشتقات النفطية اضافة الى الغاز.
ان التردد في القرارالوطني الشجاع او ترحيل مسألة البطالة من شأنه ان يلحق اضراراً اجتماعية واقتصادية هائلة تصعب معالجتها.
ان الحلول ممكنة، والأردن غني برأسماله البشري وحرص مواطنيه، والمستقبل سيكون أفضل لمن يتحلى بالجرأة لأخذ القرار الوطني في الوقت الصحيح.