ليس من المستغرب أن ينتفض الأردنيون جميعا غضبا من أجل معاذ الكساسبة،الطيار الذي رحل عن الدنيا وهو يدافع عن وطنه الذي أحب، وعن مستقبل أبنائه وبناته. رحل كأي جندي مخلص وشجاع في جيشنا العربي. وليس بالمستغرب أن يتعاطف الأردنيون مع آل الشهيد، ويشعرون أن المصاب يشملهم جميعا، والاعتزاز بما قام به معاذ يدفعهم جميعا إلى مزيد من الإصرار على حماية هذا الوطن من كل معتد أثيم،والوقوف في وجه التنظيمات المتوحشة التي انعدمت لديها المعاني والقيم والمشاعر الإنسانية. وراحت تستعمل القتل والذبح والحرق كجزء من صورتها البشعة المفزعة التي تسعى إلى تثبيتها في عقول الشباب لتسحرهم بالقوة والجبروت،وتشيع الهلع في قلوب البسطاء من الناس. أما الدين الذي ينسبون أنفسهم إليه ظلما، و يستعيرون منه الفتاوى والأحاديث و القصص، فهم يعلمون انه خدعة ،وانه ستار و قناع و جزء من “الصناعة” لإخفاء الأهداف السياسية والمالية والتجارية والتخريبية التي تحركها فئات وعصابات ودول هنا وهناك. ولكن المهم،و بعد أن رحل الشهيد راضيا متماسكا قويا، أن نكمل الرسالة التي حملها و ننظر إلى المستقبل بعقل واع وأعصاب هادئة، فنحن في بداية مرحلة جديدة. أولاً: أن يكون استشهاد معاذ محطة جديدة و محركا إضافيا لتقوية وتعميق الوحدة الوطنية،و تحصين الجبهة الداخلية من أي اختراقات داخلية أو خارجية، ولالتفاف الشعب الأردني من أقصاه إلى أقصاه حول دولته وقيادته وأرضه وأهله.ثانيا أن العواطف الصادقة التي عبر عنها كل أردني وأردنية دليل على تمسك الشعب بوحدته والتي تحاول الحركات الدينية المتطرفة آن تصرفه عنها، وتشغله بقضايا جانبية أو ماضوية وهمية. و هذا يستدعي من القوى السياسية جميعها تنحية الخلافات جانبا وتعزيز الجبهة الداخلية بالعمل مع الحكومة على برامج إصلاح جريئة تزيد البلاد قوة و تعطي الشباب الثقة بالمستقبل.. ثالثا: أن نعمل جميعا على منع الخوف والتردد لأن يتسرب إلى النفوس. وهذا ما تسعى إليه داعش بمظاهر الوحشية والقسوة التي تبثها وتنشرها. وقد جاءت الفعلة الشنيعة لداعش قبل شهر لكي تثبت للعالم أن الارهاب والهمجية هي ذاتها سواء تلفعت بالسياسة أو تذرعت بالدين أو تدثرت بالتراث. وان الارهاب لا مناص من مواجهته، وليس الهروب منه. فالمجرم هو الذي يهاجم الأبرياء. وعلى الثقافة والمثقفين والكتاب والإعلام و السياسيين والفنانين إذكاء روح القوة والمنعة لدى الأردنيين، ورفض المساس بأمن الدولة والمجتمع من خلال الجريمة والخروج على القانون تحت أي مبرر أو مسمى، وخاصة لدى الشباب. رابعا: أن نعمل لأن تكون هناك صحوة وطنية وعربية قاطعة و شاملة، جوهرها: أن الادعاءات الدينية من أي طرف، وخلط الدين بالسياسة، والدين بالتكفير،والإسلام بالعنف المادي أو المعنوي، كلها مسائل مرفوضة قطعا، وبدون تفاصيل وتبريرات وحيثيات. وأنه لا يجوز لفئة أو حزب أو جماعة أو تنظيم أن يسبغ على نفسه صفة الدين لكي يصل إلى الحكم أو يصل إلى السلطة أو المال . ولا يحق لأحد أن ينزع الدين عن الآخرين. فالتكفير ذاته كفر،والقتل والتدمير أشد من الكفر، والخروج على القانون بالعنف لا يكون جهادا أبدا، . وهذه مسؤولية الإعلام والثقافة و الأوقاف و التربية والتعليم والمؤسسات الشبابية خامساً: أننا نعيش في عصر الدولة، وفي ظل القانون، وليس في عصر ما قبل الدولة. وان إخلاصنا وولاءنا وانتظامنا و أمننا هو في إطار الدولة الأردنية و قوانينها ومواطنتها. ولا يعقل ولا يقبل بأي شكل وبأي صفة وبأي تأويل و بأي منطق أن تأتي جماعة أو حزب آو تنظيم لتهدم الدولة أو تشكك بها، أو لتحل هي محل الدولة ،هكذا بوضع اليد، مهما كانت ادعاءاتها سواء كانت دينية أو سلفية آو تراثية أو عنصرية أو فئوية أو مذهبية . وعلى الإعلام والثقافة والتربية والتعليم أن يرسخ هذه الحقائق كجزء جوهري وأساسي من العقل الاجتماعي. سادساً: أن على الإعلام والمثقفين و رجال الدين أن يتأكدوا و يؤكدوا أن المسألة ليست مسألة غلو وتطرف من فئة قابلة للنقاش،و إنما مجرد التفكير في الخروج على الدولة والقانون بقصد الهدم والاستبدال والاستحواذ أمر مرفوض جملة و تفصيلا . سابعا: إن مواقف و أفكار و أدبيات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ذات الطابع الديني يجب أن تخضع للمراجعة من أصحابها وخاصة تلك التي تحاول أن تجد “مبررا تراثيا” لتحدد موقفها من داعش وأعمالها و مثيلاتها. إن البحث في التراث لقبول هذا الموقف أو رفضه ليس مقبولا. إن معيار القبول أو الرفض هو مصلحة الدولة والمجتمع، ومنطق العقل والعلم، وليس ما قاله هذا وذاك. فهناك مسلمات وبديهيات في عصرنا لم تكن موجودة في الماضي أولها العلم والدولة والمؤسسات والقانون، وأهمها المجتمع المعاصر نفسه، الذي لا يمكن أن يعيش في ثياب الماضي وعقل الماضي .فيهرعون إلى ابن تيمية فإن أفتى بالقتل قتلوا، وان أفتى بالحرق حرقوا وان أفتى بهدم الدولة هدموا. وهنا يأتي دور التربية والثقافة والمفكرين والمؤسسات التعليمية التي عليها أن تزرع في نفوس الجميع أن الدولة التي نحن منها هي الركن الأساسي لأمن المجتمع وهي ليست بحاجة إلى من يفتي ببقائها أو شرعيتها أو الخروج عليها. و إذا كانت قواتنا المسلحة وجيشنا العربي و الأجهزة الأمنية تقوم بواجبها خير قيام وتستحق منا كل الدعم والمساندة والتأييد ،و تغطي بذلك المحورين العسكري و الأمني ضد الإرهاب و التطرف ، فإن استشهاد معاذ الكساسبة يجب أن يكون نقطة بداية للعمل على المحور الفكري الأيديولوجي،و بذا تستكمل المحاور الثلاث التي أشار إليها الملك في حديثه عن محاربة الإرهاب. ولتقوم كل مؤسسة وطنية بواجبها تجاه الوطن والمواطنة لخلق مناخ فكري و نفسي عقلاني و متسامح جديد، في إطار الدولة والمواطنة والقانون بعيدا عن كل الالتواءات والتحيزات الظاهرة والخفية، وبعيدة عن التدثر بالغطاءات المزيفة . فقيمة الإنسان بالعمل النافع ، وقيمة المجتمع بالإنتاج والرقي والمعاصرة، وقيمة الدولة بضمان المستقبل لمواطنيها، وهذا يعلو على كل الادعاءات الأخرى و يؤكد إنسانية الرؤية الوطنية. سيبقى معاذ الكساسبة رمزا للبطولة والتضحية من أجل الوطن، و دعوة لانطلاقة جديدة.