كانت رسالة الملك إلى الحكومة بخصوص وضع برنامج اقتصادي وطني لمدة (10) سنوات محل اهتمام كبير من المواطنين، نظراً للأوضاع الإقليمية غير المستقرة من جهة والحالة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد منذ سنوات من جهة ثانية، ونظراً لتجاهل الموضوع من قبل الكثيرين من المسؤولين إلى الدرجة التي كانوا يصفون الاقتصاد الوطني أنه قد تعافى، واجتاز عنق الزجاجة. ولسنوات عديدة كان التركيز فقط على الجوانب المالية وعجز الموازنة، وكيفية التعامل مع العجز من خلال الاقتراض والمساعدات. وقد تناسى البعض أن الصعوبات والأزمات المالية مردها إلى تراجع الاقتصاد وتزايد الإنفاق و ارتباك الإدارة.و بالتالي فالحل الصحيح والدائم للإشكالات المالية هو حل اقتصادي وإداري بالدرجة الأولى.و يتمثل ذلك في إعادة الحيوية والنمو المضطرد للاقتصاد الوطني والذي سينعكس بدوره على المعيشة اليومية للمواطن وعلى الحالة المالية للدولة. وحين تصبح أسعار السلع والخدمات في الأساسيات وهي المواد الغذائية والسكن والدواء والطاقة خارج إمكانات المواطن وتستنفد أكثر من 90% من متوسط دخل العائلة، وحين يكون معدل نمو الاقتصاد 2.5%، و تقفز المديونية من 40% من الناتج المحلي الإجمالي العام 2007 إلى 80% من الناتج العام 2013، وحين تستمر معدلات البطالة 14% وفي المحافظات 18% وبين الشباب 29% وبين خريجي الجامعات 53%، وحين تزداد مساحات الفقر لتسجل أكثر من 8% من السكان في الأرياف والبوادي، وتتآكل الطبقة الوسطى سنة بعد سنة، فإن هذه الأرقام ينبغي أن تكون صادمة لكل مسؤول في موقعه،لأنها تمثل خللا جوهرياً وبنيوياً قد استفحل ولسنين عديدة. و قد زادته الصراعات في دول الجوار تفاقما.
إن المواطن حين يقرأ رسالة الملك إلى الحكومة لا يسعه إلا أن يؤكد ما جاء في الرسالة، ويشعر بالرضا أن رأس الدولة ينبه حكومته و يوجهها الاتجاه الصحيح. ويشعر المواطن أن ما جاء فيها قد طال تجاهله واعتباره أمرا عاديا، رغم الحراكات والمطالبات والكتابات والإحصاءات والتقارير. وقد آن لهذا التجاهل أن ينتهي. أما المسؤول فإنه لا يجوز أن يكتفي فقط بالإشادة بالرسالة والثناء عليها، وإنما ينبغي أن يقرأ الرسالة قراءة مختلفة. قراءة من تصدمه الحقائق، وتستفزه الأخطاء، و يستثيره التأجيل والترحيل، و بالتالي تدفعه إلى العمل الفوري لإحداث التغيير المطلوب.
لقد حملت رسالة الملك أربع إشارات هامة. الأولى: ان استمرار اعتماد الأردن على المساعدات والمنح والقروض والتمويلات المتقطعة وبيع موجودات الدولة، إنما هو طريق خطر و مسدود، يضع الأردن دائما في موقف الضعف، ولا يوفر للمواطن أو الوطن أمنه و كرامته واحتياجاته. الثانية: ان المساعدات آو المنح لم تعد مفتوحة بأي شكل، وإنما يتجه المانحون و بحرص شديد إلى تمويل مشاريع محددة وفق شروطهم، و لها جدوى وتؤثر في المسيرة الاقتصادية، وتسبقها دراسات معمقة، وليست مشاريع ارتجالية هنا وهناك والمنحة الخليجية كانت مثالا. والثالثة: ان الخطط الاقتصادية التي من شأنها أن تنقل الاقتصاد إلى مرحلة أعلى، هي من واجبات الحكومة بشكل قطعي. وعلى مستوى العالم ، فإن النهوض بالاقتصاد هي أولى أولويات الحكومات. ولا بد من إنهاء حالة تخلي الحكومة لدينا عن دورها الأساس في نهوض الاقتصاد (وليس السيطرة عليه) بحجة السوق الحر، وافتراضها الخاطئ أن الموضوع هو مسؤولية القطاع الخاص، في حين أن القطاع الخاص في جميع الدول هو شريك للحكومة وليس بديلاً عنها.
والرابعة: ان الانفراد في القرار بعيدا عن هموم المواطن، وشراكة القطاعات، و آراء الخبراء والمفكرين والتشاور مع القوى والمنظمات المدنية -إنكارا لدورها أو استصغارا لشأنها- يفاقم الأزمات مهما كانت البراعة السياسية والإعلامية للحكومة.
ويحاول البعض أن يعطي للرسالة الملكية عنوانا آخر وهو:” تجديد الثقة بالحكومة”.وهذا إفراغ للرسالة من مضمونها. فتجديد الثقة في حكومة قائمة له إشاراته التي تختلف تماما عن الدخول في أعماق المسألة الاقتصادية الوطنية .
ودون إعادة ما جاء في الرسالة حول المشاريع والإنتاج والإنتاجية والريادية وفرص العمل والمحافظات، والأمن الغذائي والمائي و أمن الطاقة فإن السؤال: ما هي الإجراءات التي يمكن اتخاذها؟ ماذا يمكن للحكومة أن تفعل؟ هناك الكثير من الدراسات الاقتصادية والمشاريع والخطط التي يمكن تنفيذها، ولكن البعض يفضلون حالة “استمرار الوضع على ما هو عليه” بدلا من الشروع بالإصلاح و إحداث التغييرات التي تحمل كل أنواع الشد العكسي والمخاطر والمتاعب والمشاق.
نحن لسنا بحاجة إلى إعادة اكتشاف العجلة، ولا مستلزمات التحولات الاقتصادية. فهناك تجارب غنية لدول ناجحة في حجم بلدنا، وكانت متخلفة عنا، ولكنها أصبحت اليوم تسبقنا بكثير، ابتداء من قبرص ومروراً بايرلندا والبرتغال وانتهاء بتايوان وسنغافورة. ولا نذكر بطبيعة الحال الدول الكبيرة مثل كوريا وماليزيا والصين.
ودون إطالة، فإن هناك عشرات القرارات التي يمكن اتخاذها غدا، إذا أرادت الحكومة ذلك، لكي تبعث في الاقتصاد شيئا من الحيوية ولدى المواطن شيئا من الثقة، استعدادا للمشروع الوطني الكبير الذي يمكن أن يحقق للمواطن احتياجاته من فرص العمل والدخل الكافي للحياة الكريمة. والمشروع هو: تصنيع الاقتصاد الوطني خلال (20) عاما، وبالتالي تكون الأعوام العشرة التي وردت في رسالة الملك هي النصف الأول من المشروع الوطني. وهنا يتوجب على الحكومة دون تردد أو مكابرة أن تعود إلى الدراسات السابقة و تستعين بالعقول والخبرات الوطنية المتميزة، وتشكل أربعة فرق من الخبراء والمفكرين والعلماء من القطاع الخاص والأكاديميين والحكومة ومنظمات المجتمع المدني المتخصصة . الفريق الأول يضع دليلا للمشكلات المائة الكبرى التي تعترض انطلاق الاقتصاد الوطني على طريق النهوض والتصنيع و تعزيز معدلات النمو لكي تتجاوز حاجز ال 6% سنويا بعيدا عن العقار والمال، و يضع الحلول الممكنة لها. والفريق الثاني يضع دليل الانتقال إلى الاقتصاد الصناعي ماذا يتطلب من إجراءات محددة، وكيف يتقاسم الشركاء المسؤولية، وما هي المتطلبات المختلفة إداريا و لوجيستيا و ماليا و بشريا؟ والفريق الثالث: يضع المشاريع التي يمكن أن تحقق حالة التصنيع والتشغيل والأولويات على مستويات المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، بما فيها زيادة الإنتاج وتحسين الإنتاجية وتحفيز الريادية و الإبداع والتنافسية وكافة المفردات التي يتعامل بها الاقتصاد الحديث. والفريق الرابع يعيد صياغة ما تم الوصول إليه في صورة مشروع وطني متماسك، مع التأكيد على آليات التنفيذ ووضع البرنامج الزمني ليرفعه إلى الحكومة لتتبناه بعد مناقشته من مختلف الفرقاء والشركاء بما فيها مجلس النواب و المجتمع المدني والأحزاب ليصبح برنامج الدولة للسنوات العشر القادمة. و بذلك يمكن التحرك نحو المستقبل بثقة راسخة في بحر الأزمات المتلاحقة في هذه المنطقة.