منذ انهيار الاتحاد السوفياتي و الدول الشرقية في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، دون حروب داخلية أو خارجية، و دون كوارث طبيعية مدمرة، و رغم مظاهر القوة العسكرية والصناعية الظاهرة، منذ ذاك الوقت، تزايد الاهتمام العلمي والسياسي بأسباب فشل الدول في القدرة على الاستمرار و وصولها إلى حافة الانهيار. و أصبح التركيز ينصب ليس على العوامل الخارجية أو مظاهر القوة والجبروت للسلطة الحاكمة، و إنما على تفاصيل الأداء في مسيرة الدولة ذاتها . وتبين أن جسم أي دولة يضم الكثير من نقاط الضعف تتزايد أو تتناقص مع الزمن على ضوء النجاح أو الفشل في معالجة تلك النقاط لتصبح في حدها الأدنى .وبذلك تتمتع الدولة بأعلى درجات الاستقرار، والقدرة على التنمية المستدامة، والتقدم المتجدد. وهكذا تم التعرف إلى الأركان الرئيسة التي يؤدي النجاح في التعامل معها إلى قدرة الدولة الحديثة على الاستمرار والنمو والارتقاء وهي: المشاركة السياسة، والأمن، والاقتصاد ، والمؤسسات، والتعليم، والثقافة والعلم والتكنولوجيا والإبداع والديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون. وهذه الأركان يشكل كل منها مسيرة بالغة التعقيد والحساسية ينبغي أن تتقدم بالتنسيق والتزامن مع الأركان الأخرى حتى يتطور عنها مجتمعة ما نطلق عليه نجاح الدولة و صلابتها و بعدها عن الهشاشة، وتقدمها واستدامة هذا النجاح.
كل هذا يجعل من إدارة الدولة المعاصرة عملية معقدة لا يستطيع أن ينفرد بها طرف من الأطراف سواء كان فرداً أو حزباً أو مجموعة أو طائفة أو قومية أو منظمة . وهو عكس ما جرى في معظم الأقطار العربية على مدى الخمسين سنة الماضية. ذلك أن التفرد والتسلط وإقصاء الآخر، وهي السمة العربية الغالبة، يؤدي بالضرورة إلى توقف التقدم و الإنحدار على طريق الفشل . وكلما كانت هناك إخفاقات و تعثرات في أداء الأركان الرئيسة السبعة كلما ضعف بنيان الدولة وغدت أقل قوة وتماسكاً، وتمددت فيها الفجوات، و أصبحت أكثر هشاشة من الداخل ومن الخارج على حد سواء.
أما الدول التي تنشئ لنفسها برامج واضحة، وتوافقات سياسية مجتمعية دائمة، ومعايير أداء ملزمة، وآليات تصحيح داخلية من خلال الرقابة والمساءلة والشفافية، فإنها تصبح أكثر قوة و تماسكا و صلابة وأقل عرضة للهزات الخارجية، وتكون مواطن الهشاشة فيها ضئيلة.و هو الأمر الذي أخفقت فيه الكثير من البلدان العربية حتى وصل بعضها إلى الفشل الكامل. و لم تعد هشاشة الدول مسألة تقديرية أو انطباعية، إذ طور الباحثون والعلماء مقياساً لنجاح الدول أو فشلها أو قوتها وهشاشتها يسمى دليل هشاشة الدولة. وكلما صغر هذا الرقم الذي يعتمد على حصيلة أداء الأركان الرئيسة للدولة الوطنية الحديثة كلما كانت الدولة أقل هشاشة وأكثر استقراراً . ويتراوح الرقم لعام 2015 بين (17) لبلد مثل فنلندا وهي الأولى والأفضل في العالم لتصل الهشاشة إلى (115) في بلد مثل جنوب السودان وتشاد وسوريا والعراق وهي تعتبر الآن دول فاشلة قريبة من الانهيار. أما الدول العربية الأخرى فإن دليل الهشاشة فيها يبدأ عند (52) مروراً بـ (75) في الأردن وانتهاء بالأرقام الأخرى.
إن السؤال الهام هو : لماذا تفشل الأمم وتتحول دولها إلى حالة الضعف والهشاشة ثم تقترب من الانهيار ؟
إن الدول” تنزلق في طريق الفشل، أولا، حين لا تؤدي المسائل الهامة، أو الإخفاق أو حالة الضعف، أو التخلف، إلى أي نوع من الصدمة في عقل الدولة والنخبة والأحزاب.و ثانيا حين لا تبصر نقاط الخلل في أدائها أو لا تتوافق على الحلول “. وثالثا ،حين تغطي عدم الرغبة في الإصلاح و عدم الاستعداد للتغيير والتوافق بشتى الأعذار و المبررات، وتعمل على إجبار شعوبها على قبول ذلك. و لكن الشعوب غالبا ما ترفض بصمت و تسكت إلى حين . ورابعا ،حين يكون التركيز لديها ليس على المستقبل ومتطلباته، وإنما الحاضر يوما بيوم، أو الماضي بتفاصيله.وخامسا، حين لا تحسم القضايا المعلقة ولا تتيح الفرصة لقادة الرأي والعلم فيها أن يقوموا بدورهم. وسادسا، عند غياب للثقافة التنويرية والرؤى المستقبلية. و سابعا، عندما تتراجع أنظمة التعليم والتربية وتعجز عن إنتاج أجيال مبدعة مخلصة لأوطانها. وثامنا حين تمعن في الاهتمام والتركيز فقط على الحكم والإدارة، وليس في بناء الدولة ذاتها.وتاسعا، حين لا تطور مؤسساتها السياسية والقانونية والقضائية والاقتصادية، وتنظر إلى السياسة والاقتصاد على أنها حكر على مجموعة دون أخرى. و عاشرا، حين تضعف المواطنة، وتغيب المساءلة والشفافية، ويختفي تكافؤ الفرص والمساواة، وتتحرك المؤسسات في حالة هلامية ضئيلة الانجاز، وتعم المحسوبية و القرباوية، وتضعف منظمات المجتمع المدني فلا تقوم بدورها على المستويات المختلفة.وحادي عشر،حين تغيب الرؤية المستقبلية و يغيب المشروع الاقتصادي، فيأخذ الإنتاج المحلي بالتراجع ، وتضعف الصناعات الوطنية ويتراجع الاقتصاد الوطني ، ويزداد الاعتماد على الخارج سواء بالمساعدات أو الاستيراد، وتتفاقم الحال بالبطالة وعدم مشاركة المرأة . .فتزداد مساحات الفقر وخاصة في الأطراف والأرياف، ويأخذ كيان الدولة بالاختلال وينتشر الفساد المالي والإداري. ويتفاقم الحال حين تكون هناك ضغوط ديموغرافية نتيجة للهجرات واللجوء، أو لتوترات عرقية أو طائفية داخل مكونات المجتمع .
وحين تكون البيئة الجغرافية ضعيفة سواء من حيث قلة الأمطار أو ندرة المياه السطحية أو البيئة الحارة كما هو الحال في معظم الأقطار العربية، وتتراخى الدولة عن تطوير البيئة وتغيير الجغرافيا، بإنشاء الغابات والسدود والمرافق المائية والمساحات الخضراء، تتفاقم الهجرة من الريف إلى المدينة وتزداد الدولة هشاشة وتصبح الضغوط الداخلية فيها مشكلة مزمنة.
هل هناك خروج من الإنحدار نحو الفشل ؟ بالتأكيد نعم .بداية، لا بد أن تتوافق الدولة في جانبها الرسمي و الأهلي أي القوى والأحزاب السياسية بصدق وثقة على المشاركة السياسية والمجتمعية بمساواة وتكافؤ بين مختلف الأطراف، ويدرك الجميع أن التنازع على الحكم والسلطة هو خسارة للجميع . ثم تنظر المجموعة المتوافقة إلى المستقبل، دون محاولة التهرب من استحقاقات الإصلاح والتغيير أو البحث عن بدائل وهمية، وتضع مشروعها الاقتصادي ، وتعمل وفق برنامج لبناء الاقتصاد الصناعي الاجتماعي، واستقلالية المؤسسات، وتطوير التعليم بشكل جذري وكلي، باتجاه ترسيخ العقل العلمي والإفادة الكاملة من العلماء والخبراء وتأكيد سيادة القانون بالممارسة الفعلية. أذاك، وبمشاركة الجميع وتشجيع الاستثمار وإذكاء روح الريادية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وتشجيع الإبداع، و كما نجحت في ذلك العديد من الدول، يأخذ منحنى الانحدار بالتوقف، وتبدأ حالة جديدة من الصعود والتماسك تمكن الدولة العربية من استعادة طريقها نحو المستقبل بثقة وقوة .