بعد مرور ما يقرب من ربع قرن على بداية التراجع الاقتصادي الاجتماعي العربي، والهبوط الفكري و الثقافي والتربوي، و تغلغل الانقسامات الطائفية والجهوية، وتتابع التفكك السياسي، واستفحال الحكم السلطوي،و انتشار التطرف العقائدي،يتساءل المواطن العربي إلى أين تتجه هذه المنطقة ؟ وبعد مرور 6 سنوات على بداية الربيع العربي، تأكد الجميع أنه تحول إلى “تسونامي” يعصف بالمنطقة بأسرها. لقد تحول من ربيع يحمل آمال المستقبل وطموحات التغيير والإصلاح والانطلاق إلى مستوى الأمم الناهضة، إلى خريف عاصف نتج عنه حتى الآن تفكك 6 دول عربية ونشوب حروب أهلية طاحنة في 5 منها، وإنزلاق العديد من الأقطار العربية إلى دول فاشلة أو ما يقرب منها.
بعد كل ذلك، فإن المواطن العربي الذي أصبح أكثر قلقا على مستقبلة ووطنه من أي وقت مضى، يتساءل : ترى هل وصل العالم العربي إلى نهاية الانحدار وقاع الوادي؟ ولم يبق سوى استعادة الهمة وبداية الصعود ؟ أم أن الانحدار لازال هو المسيطر على الموقف؟ وأن المؤشرات تدل على أيام وأحداث أكثر تعقيداً وخطراً ستواجه الجميع في قادم الأيام؟
ومهما كانت التحليلات السياسية الدولية تحمل من الأهمية، فالشيء المؤكد إن ما يحدد مستقبل المنطقة بالدرجة الأولى هم العرب هم أنفسهم ، مجتمعين وكل دولة بذاتها . فالقوى المعادية ظاهرا و باطنا، و الدوائر المتدخلة هنا و هناك ، بما فيها إسرائيل و الجماعات المتطرفة و الإرهابية، ما كان لها أن تتدخل وتحرك الإحداث لصالحها ويكون لها اتباع و وكلاء وعملاء و بيئة حاضنة، لولا الضعف العميق في بنية الدولة العربية، و اعتماد سياسات الاستئثار بالسلطة و الإقصاء ،و منع القوى السياسية و الأحزاب و منظمات المجتمع المدني من أن تكون شريكة في إلإدارة و السياسة ، وعدم الاكتراث بحالة التخلف والبؤس والفقر، وانتهاج سياسات القفز فوق المواطنة إلى التجمعات المصلحية و الفئوية المتكسبة.
إن الطريق إلى مزيد من الإنحدار و التفكك و التفاقم مؤكدة إذا لم تتغير المعطيات التالية: أولا الإصرار و الإستمرار في تعليق الفشل والخطأ والكوارث و جميع الويلات على الآخرين. بما في ذلك الانقسام والتبعثر والتشتت وتراجع التعليم وتراجع الاقتصاد وانتشار الفقر والبطالة وتدهور الثقافة وتسطيح الإعلام. كل ذلك انطلاقا من نظرية المؤامرة والعدو المجهول والتآمر الدولي. ثانيا إعتبار البقاء في الحكم والسلطة هو الهدف الأول والأساس للنظام العربي، وليس الوطن والدولة وتداول السلطة والمشاركة ومصلحة المواطنين. ثالثا:استمداد الشرعية و المشروعية و القدرة على الإستمرار من الخارج،و ليس من التوافق الوطني. رابعا العجز عن تكوين قيادات وطنية تكتسب ثقة المواطن و تجمع الأطراف المتنازعة في منتصف الطريق، و تكون مستعدة للعمل في هذه الظروف المعقدة.
و سؤال آخر:هل المنطقة معرضة لمزيد من التقسيم والتفتت؟ الجواب نعم. فاسرائيل لم تجد فرصة أغنى وأمتع وأقل كلفة لتحقيق أهدافها الأحتلالية التوسعية من هذه الحالة العربية الراهنة و الإنقسام الفلسطيني . فكيف لا تعمل على ابتلاع كامل الأراضي الفلسطينية إذا كانت أدنى متطلبات الشعور بالمسؤولية غائبة؟ ففتح مع حماس لازالتا في حرب” داحس و الغبراء”، وصراع مستمر وكأنهما لا ينتميان إلى وطن واحد. و بعد أن هجر العراق ما يزيد عن (5) مليون نسمة من مواطنين بسطاء إلى خيرة العقول والامكانات والمهارات ،لماذا لا تتحرك ايران لابتلاع الجزء الأكبر من العراق وتغيير بنيته الديمغرافية و الثقافية إذا كانت النزاعات الطائفية، والاقتتال على الأحداث و المقولات التاريخية القديمة وشدة الارتباط بالأجنبي و الفساد هي الوقودات المحركة للقوى السياسية؟ ولماذا لا تؤسس ايران مقرا دائماً لها في سوريا لتصل إلى البحر المتوسط إذا كان النظام هناك لا يرى شيئا سوى بقاءه في السلطة، ولو تم تشريد نصف السكان وقتل مئات الآلاف و تحويل سوريا الدولة إلى مستعمرة للقوى و المليشيات الأجنبية؟ لماذا لا تتحرك ايران وتركيا وروسيا بل واسرائيل لاقتسام الغنيمة السورية التي ساعد الصراع القطبي الروسي الأمريكي على تحويل سوريا إلى ورقة لعب رخيصة ؟ وكأن سوريا بدون شعب وبدون إرادة . وليس حالة اليمن بمختلفة ولا ليبيا ولا السودان .
المعضلة الكبرى أنه رغم كل ما جرى و ما يمكن أن يجري ،لا زالت الأقطار العربية المتماسكة تقترب من الإصلاح خطوة وتتوقف خطوات. ولم تترسخ القناعة أن الأمر لا يستقيم أبدا إلا بالدولة المدنية الديموقراطية الحديثة، و بالإصلاح الشامل في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والفكر والصناعة والزراعة والتكنولوجيا و الإصلاح في دور الدولة ودور المواطن. فرغم انهيار ربع الدول العربية،و الضحايا الهائلة التي فقدها الوطن العربي والتي تزيد عن 2 مليون نسمة منذ غزو الكويت، ورغم التوسع الاسرائيلي المرعب، ورغم الوحشية التي ترتكبها الجماعات المتطرفة والارهابية، فلا زال جزء من المجتمع بل و جزء من المثقفين و الإعلام العربي مشغولين بقضايا أبعد ما تكون عن العصر و عن الأزمة و عن المستقبل ،وفيما إذا كانت داعش حركة ارهابية أم لا ؟ و هل خرجت عن الدين أم أنها مجرد مجموعة من ” الغلاة “.. الأمر الذي يعكس الاخفاق في الفكر والثقافة المجتمعية و مفاهيم الوطنية و وتراجع المواطنة .
إن مستقبل المنطقة لازال محفوفا بالأخطار. فالمنطقة ما هي الا حزام صحراوي قابل للتقسيم بسهولة . وهو صحراوي في المناخ والعلم والفكر والثقافة والإبداع والابتكار والسياسة. والدول المجاورة لها طموحاتها الظاهرة و الخفية . ولا يتغير الأمر إلا إذا قررت كل دولة عربية أن تصبح دولة المواطن والعدل والمساواة والتقدم. فيصبح مواطنوها و إقتصادها و مؤسساتها و شركاؤها الوطنيون مصدر قوتها وشرعيتها وليس الأجنبي .