ملاحظات كثيرة حول التعليم تنطلق من آن لآخر، وخاصة عند وقوع حادثة مرفوضة مفاجئة، مثل اعتداء طالب على معلم أو هروب مجموعات من الطلبة من المدرسة، أو حرق طالب عن طريق اثنين من زملائه كما كان الأمر قبل أيام، أو عند ظهور نتائج اختبارات دولية وعدم تحصيل طلبة الأردن الموقع المتقدم، أو عند صدور تقرير من اليونسكو يتناول جانبا من التعليم يحتل الأردن فيه مرتبة متأخرة مثل دليل فقر التعليم أو ترتيب الأردن بمعرفة الطلبة للغة الإنجليزية وغير ذلك الكثير. وتذهب التعليقات غالبا إلى واحد من اتجاهين: الأول، اعتبار التعليم في حالة انهيار، وان كل ما في المنظومة التعليمية متخلّف وبعيد عن الجودة والكفاءة. أو الاتجاه الثاني: والذي يعتبر الحدث مجرد صدفة يمكن ان تقع في أي مكان، وفي أي بلد، حتى لو كان الولايات المتحدة الأميركية وقدت شهدت الدول ما شابهها.
وهكذا، قد تمر الحوادث دون أن تدرس بعمق وشمولية، ودون البحث في تفاصيل الأسبابب المؤدية لها وانسحاب الأسباب على مجموعات كبيرة من الطلبة. وهذا يشجع الإدارات على اتخاذ موقف الدفاع والتبرير، أو موقف التغاضي عن التفاصيل العميقة والاكتفاء بإجراءات إدارية عقابية بسيطة.
وإذا تناولنا البيئة المدرسية لدينا، وتساءلنا: هل هي بيئة طاردة للطلبة ومولّدة للعنف أو الإهمال أو الغش؟ أم أنها بيئة جاذبة تتمتع بالمقومات الأساسية الصحيحة اللازمة لنجاح التعليم الذي يتطلبه عصر الذكاء الاصطناعي ونجاح الطالب في مسيرته التعليمية والتعلمية وبناء شخصيته الجديدة؟
ليس هناك إجابات مبسطة وجاهزة يمكن الاطمئنان إليها، ولكن الموضوع بحاجة الى دراسات متواصلة ومعمقة، تأخذ في الاعتبار المسائل الرئيسة التالية:
أولا: أن البيئة المدرسية هي بشكل عام صورة مصغرة للبيئة المجتمعية على مستوى المدرسة والطالب وعلى المستوى الوطني.
ثانياً: أن المجتمع، شأن المجتمعات الأخرى، ومنذ الثورة الصناعية الثالثة يمر بتحّولات كبيرة سياسيا واقتصاديا وثقافيا ومعرفيا وتكنولوجيا ونفسيا. ومثل هذه التحّولات تفرضها ظروف داخلية ممثلة بتطور المجتمع عموما، وظروف خارجية تفرضها التكنولوجيا المتدفقة في كل اتجاه وكل مجال، ابتداء من الحاسوب والجوال وانتهاء بشبكات الانترنت وتدفق المعلومات والبيانات في كل اتجاه.
ثالثاً: أن العائلة التي ينشأ فيها الطالب تمر بتغيرات موازية، وخاصة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي والمعرفي، وتمر أعداد كبيرة منها بضغوطات موازية تمثلها المعدلات المرتفعة للفقر
(%20 )، والبطالة المرتفعة (21.2 %) وتواضع الدخل أمام الأسعار.
رابعا: أن مواقع التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية ومحركات البحث على شبكات الانترنت تخلق بيئات افتراضية أو شكلية، كثيراً ما تكون ذات أثر سلبي على نفسية الطلبة.
خامساً: أن هناك تراجعا كبيرا لدى الطلبة في مجال القراءة والكتابة والقدرة على التعلم (دليل فقر التعلم 62 %)، واكتفاؤهم بالحصول على المعلومات المجزوءة الجاهزة والتي زادها الذكاء الاصطناعي خطورة وتعقيداً.
سادسا: التواضع الكبير في النشاطات الثقافية والاستكشافية وخاصة للفئات الصاعدة من الشباب.
ومن هنا فإن الطالب الذي يدخل المدرسة أو الجامعة ليس هو الطالب التقليدي الذي عرفته المدرسة او الجامعة قبل 30 أو 40 سنة، وإنما هو/هي فتى مختلف تماما نصفه متأثر بالظروف الداخلية العائلية بأبعادها المختلفة، ونصفه الآخر متأثر بعوامل خارجية يفرضها المجتمع والعصر بكل ما فيه من مؤثرات. ومن هنا فإن هذا الطالب بحاجة إلى عناية واهتمام ومتابعة مختلفة عما كان في الماضي، وبحاجة الى بيئة مدرسية اكثر صداقة وجاذبية، وأكثر تنوعا وتفهما وحداثة مما تستطيع البيئة المدرسية الحالية تقديمه. وهذا يستدعي أن يكون هناك برنامج وطني لتطوير البيئة المدرسية كجزء من البرنامج الوطني لتحديث التعليم وفي الإطار التالي:
أولاً: إجراء دراسات معمقة ومتواصلة لاحتياجات الطلبة وتطلعاتهم حسب المحافظات والألوية والمدن والقرى والأحياء في المدن الكبيرة لوضع «دليل عام لهذه الاحتياجات» لتكون على سلم اولويات المنطقة التعليمية وإدارة المدرسة والهيئة التعليمية. ثانياً: العمل على تجميل البيئة المدرسية وما حولها من حيث المباني والمرافق والألوان والأماكن الخضراء، وتجذير روح الفريق وإشراك الطلبة والمعلمين والمجتمع المحلي في تحقيق مثل هذه البيئة. ثالثاً: زيادة الاهتمام والحصص المخصصة للرياضة والفنون والاستكشاف والمهارات اليدوية. والنظر إلى هذه النشاطات على أنها جزء من صميم سيرورة بناء شخصية الطالب وصقل مواهبه العملية والتعليمية التي يحتاجها الطالب، بدلاً من اعتبارها مجرد نشاطات ترفيهية يمكن الاستغناء عنها. رابعاً: الالتزام بتدريب المعلمين وفق برامج صيفية على المتطلبات النفسية والذهنية للطالب، وتعزيز التواصل بين المدرسة وأولياء الأمور من جهة، والمؤسسات الأهلية والشركات من جهة ثانية، من خلال مختلف الوسائل بما فيها تنظيم نشاطات مشتركة يكون لكل طرف فيها دور. خامساً: متابعة الحالة النفسية والذهنية للطلبة في كل مدرسة من خلال «السجل النفسي السلوكي» يتم فيه تدوين الملاحظات المتعلقة بالطلبة من حيث المواهب والانضباط والسلوك والهوايات والمشكلات إن وجدت، وبالتالي رسم السياسات اللازمة للتعامل مع الطلبة من منظور المشاركة والتوجيه وإعطاء البدائل. سادساً: الإفادة من التكنولوجيا بوضع كاميرات التتبع والتصوير في كل موقع المدرسة بهدف المساعدة المبكرة والتعرف على السلوكيات التي تحتاج إلى عناية. سابعا تكثيف البرامج الثقافية والتربوية والخدمات المجتمعية والاهتمامات البيئية والشراكة الشاملة في برامج تخضير الأردن.
وأخيراً فإن المدرسة بحاجة إلى مزيد من المال لغايات الصيانة ولغايات الوجبات الطلابية والنشاطات المختلفة، الأمر الذي يتطلب من الدولة زيادة مخصصات التربية والتعليم لتصل 6.5 % من الناتج المحلي الإجمالي فذلك استثمار لا بديل عنه لأجل المستقبل.