1- المشاركة وليس الإستهلاك
يلاحظ المتتبع للحالة السياسية الإقتصادية الإجتماعية في المنطقة ،أن الدول العربية في غالبيتها أخفقت أو تعثرت في الإدارة والتحديث ،وأن المجتمعات العربية تعاني من الجمود أو المراوحة التاريخية ،خطوة للأمام وخطوة للخلف. هذا في حين أن دولاً كثيرة كانت متخلفة عن المنطقة العربية ،انطلقت وأصبحت في عداد الدول الناهضة.والسؤال: لماذا ؟ ما الذي يجعل المجتمع العربي عصياً على التغيير ،ساحة مفتوحة للتدخلات الأجنبية، نهبا للمؤامرات و الإملاءات ،ضائعاً في متاهات الأماني والتوقعات ينتقل بين المتناقضات عين على الحاضر وعين على الماضي لا يجد نفسه في اي موقع سوى التقهقر و الإحباط؟ هذا في حين تطورت مجتمعات و انطلقت دول ،بل ودخل العالم الثورة الصناعية الرابعة منذ عدة سنوات.وقبل أسابيع انعقد مؤتمر المعرفة في دبي وشارك فيه عدد من رؤساء الدول والحكومات والخبراء والمفكرين. وتناول المؤتمر ثورة المعرفة وكذلك الثورة الصناعية الرابعة التي انطلقت مخرجاتها تتحرك في كل اتجاه.وكانت النقطة التي ركز عليها المؤتمر هي « أن نكون كشعوب عربية جاهزين للإفادة من الثورة الرابعة والتعامل معها كشركاء وليس مجرد مستهلكين «. وقبل الدخول في الإجابة على اشكالية الشراكة الوطنية والعربية المطلوبة والتعرف على أسباب هذا التعثر المتواصل، رغم الجهود الكثيرة للنهوض منذ 170 عاماً أو أكثر، لا بد من تفهم طبيعة الثورة الصناعية وما الذي تحدثه في المجتمعات والأفراد والدول على حد سواء. آخذين بعين الإعتبار أن «عبارة الصناعة والتصنيع تعني التوسع الكامل في إدخال الماكنات و الأنظمة و التكنولوجيا و العلوم و الهندسة والمواد والمعرفة الحديثة في كل ما يقوم به الإنسان و المجتمع من إنتاج للسلع أو الخدمات في الزراعة و الصحة و النقل و التعليم والتعدين و المياه و الطاقة و السياحة و الترفيه بل في كل شيء.»
ما هي الثورات الصناعية؟ وما الذي يحدث خلالها في المجتمع و الفرد بل و الدولة بكاملها؟ وما هي أهميتها اليوم ؟ وأين نحن من كل ذلك ؟
2- الثورة الأولى.. مجتمع الانتاج
انطلقت الثورة الصناعية الأولى عام 1765. وقد اعتبرت تلك الحالة «ثورة»لأنها كانت خروجا كاسحاً عن المألوف ،وأحدثت تغييرات هائلة في كل شيء :في العمل وفي القدرةعلى تحريك الاشياء، وفي وسائل وكيفيات وانماط الإنتاج، وفي ذات المجتمع وأفكاره وقيمه وسلوكياته ، وفي التعليم والثقافة والفلسفة والفنون والعلوم. فبعد أن كان الانسان معتمداً بشكل شبه كلي على المفردات التي تقدمها الطبيعة من غذاء أو دواء يقوم الانسان بتحويلها من خلال الجهد اليدوي المستمر، تغير ذلك ليصبح الانتاج معتمداً على « ماكنة أو آلة» تختصر الجهد والزمن والكلفة. إن مجرد اختصار الجهد يعني انتقال الانسان إلى مرحلة أعلى وأرقى من حيث التعامل مع الزمن من جهة ، واتساع بوابة الإبداع من جهة أخرى. فأصبح الزمن بفضل سرعة الماكنات فيه مجال لمزيد من الإنجاز ومزيد من الراحة بسبب تقليص الجهد العضلي، و الاعتماد الأكثر على العقل والإبداع. و هذا أتاح الفرصة للتوسع والتنوع في الانتاج زيادة عن الاستهلاك. وبالتالي مهّد الطريق لبناء الثروة الفردية والمؤسسية والمجتمعية بوتائر اسرع، واستقلالية أعلى ، ونشط التجارة وعززها بطرق جديدة. وهذه نقلة نوعية ثورية تفتقدها المنطقة العربية حتى اليوم. ففي حين تقوم الحياة البدائية على الجهد العضلي المتواصل والانتاج بقدر الاستهلاك تقريباً ، فإن الثورة الصناعية أزاحت الجزء الأكبر من هذا العبء من على كاهل الانسان لتقوم به الآلة، وأتاحت الفرصة للتوسع الكبير في فائض الإنتاج الذي يصار إلى تصديره.
ماذا انتجت الثورة الصناعية الأولى ايضاً؟ انتجت الآلات والماكنات والمصانع وخطوط الانتاج واستخدام الطاقة الصناعية وخاصة الفحم لاستخدامه في توليد البخار كقوة محركة واصبحت المناجم وعمليات التعدين والبحث عن المواد الأولية جزءًا بارزاً في حياة الانسان.
لقد استلزم نمط الانتاج الجديد ونمط القوة المحركة انذاك ،حدوث تغييرات اجتماعية واقتصادية وعمرانية وسلوكية وعلمية وتعليمية هائلة، ما كان يمكن أن تحدث لولا الثورة الصناعية. والنمط الجديد أنشأ قيماً جديدة ،وافكاراً وفلسفات وثقافات وفنون وخيالات لم تكن معروفة ،أو لم تكن تحظى قبل ذلك بأي اهتمام. بعبارة أخرى عملت الثورة الصناعية على إعادة تشكيل المجتمع من حيث التوزيع ،والاهتمام والوعي والسلوك والتطلع والطموح. فالحديث عن الصراع الطبقي والديمقراطية والمشاركة، بل المواصفات والمقاييس وضبط الوقت والدقة والالتزام، والبحث عن المواد الخام ،وتصاعد أهمية الطاقة وارتفاع القيمة الاقتصادية للابداع والاختراع، وضرورة البحث في قوانين الطبيعة واكتشافها والبناء عليها ، وبناء مدن وتجمعات سكانية جديدة، وتطوير اهالي الريف ، واشتداد الضرورة الاقتصادية للتعليم ، ودخول مواضيع جديدة في التعليم، وخروج المرأة للعمل والتعليم الخ….. كل ذلك ما كان ليتحقق لولا الثورة الصناعية. إذ انها صنعت بيئة معيشية جديدة دفعت الإنسان الفرد للانخراط في التغيير والمشاركة في صنعه. ومن هنا فالمجتمعات التي لم تدخل الثورة الصناعية بعد، كالمجتمعات العربية لازالت تفتقد البيئة الحاضنة والمواتية للتغيرات والتحولات الاجتماعية العميقة، مما جعلها تراوح مكانها أو تتقدم سطحياً أو شكلياً بتأثير الفعل الحضاري الخارجي فقط ، في حين أنها ما زالت بعيدة إلى حد كبير عن ثقافة الصناعة وسلوكياتها. لقد جعلت الثورة الصناعية من «الهندسة والتكنولوجيا عاملا ثالثاً من عوامل الانتاج»،بالاضافة إلى العمل ورأس المال. وتغيّر مكان العمل والانتاج من الحقل إلى المصنع بكل ما يستلزم ذلك من تفكيك البنية القبلية وتكوين بنى مجتمعية جديدة ،وتطوير أنظمة نقل وحركة، ومساكن وبنية تحتية مختلفة وجديدة تماماً. وتراجعت الزراعة لفترة، لتعود تنتعش من جديد بوسائل اكثر فاعلية وأوفر انتاجا وأعلى انتاجية.
ومن منظور تاريخي شامل فإن الثورة الصناعية أدخلت الإنسانية في ثورتها الثالثة و هي التصنيع بعد أن سبقتها الزراعة ،و كانت الأولى ثورة «التمنزل» domestication.
3- الثانية.. المشاركة و الديمقراطية
وجاءت الثورة الصناعية الثانية مع حلول عام 1870، حين دخلت الكهرباء والغاز والنفط كأشكال جديدة من أشكال الطاقة إلى سوق الإنتاج والعمل،مما استدعى تطوير منظومات هندسية انتاجية جديدة. وفي هذه الاثناء ظهرت آلات الاحتراق الداخلي التي مهدت لانتشار وسائط النقل الحديثة من سيارات وقطارات وطائرات وبواخر ضخمة ،بكل ما يعني ذلك من ترابط وتشبيك وحركية ، و انخراط المجتمع بكافة مكوناته و شرائحه و نخبه و قياداته، إضافة إلى التوسعات الكبيرة في أنماط الإنتاج.فظهرت المصانع ذات الانتاج الجسيم وأصبحت الادارة والتسويق والريادية والبحث العلمي والاختراعات والمواصفات والدقة والمعايير والزمن، وخصائص المواد و النظام و القانون، كلها من الأمور الحرجة التي يجب مراعاتها والالتزام بها. الأمر الذي يتطلب الانسان والمجتمع والمؤسسة المتفاعلة مع كل ذلك. و هذا دفع بكل هذه المفاهيم لتكون جزءً مهماً من منظومة التعليم والتأهيل والمهارات والتفكير والثقافة.فكان كل ذلك قوة دافعة لتغيير المجتمع وتطويره.
على أن واحدة من أهم نتائج الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية، تمثلت في المجال الاجتماعي السياسي والاجتماعي الاقتصادي. فمن جهة عملت الثورتان الصناعيتان على تغيير بنية المجتمع من مجتمع قبلي زراعي يعاني من سيطرة أصحاب الأراضي، ويرتبط الإنسان فيه بالأرض والحيوان لانتاج كميات محدودة من المنتجات من خلال جهد متواصل، وتحويله إلى مجتمع يعتمد على التصنيع، ويستخدم منتجات الصناعة من ماكنات ومعدات وأجهزة ومواد في تطوير الزراعة ذاتها وزيادة انتاجيتها. فارتفعت انتاجية العامل الزراعي من بضع مئات من الدولارات سنويا حتى وصلت إلى عدة آلاف في مطلع القرن العشرين واليوم تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات لكل عامل زراعي في الدول الصناعية. وأعطت الإنسان الفرد فرصة للحرية ومجالاً أوسع للحركة والبحث عن العمل وصناعة المستقبل.
عملت الثورتان الصناعية الأولى والثانية على تطوير العادات والتقاليد والثقافة المجتمعية والقيم باتجاه التواؤم مع التغيير ، كما عملت على دفع المجتمعات الجديدة باتجاه الديمقراطية وتشكيل الأحزاب السياسية والنقابات المهنية، واتساع منظمات المجتمع المدني. ولم يعد بالإمكان حكم المجتمع الجديد الذي يتألف جزء كبير منه من اصحاب الأعمال والمستثمرين والمهندسين والعلماء والمعلمين والمخترعين والمثقفين والفنانين والخبراء والرياديين والمفكرين والعمال الذين يتمتعون بالوعي وروح العمل الجماعي والنزعة نحو المساواة ، لم يعد ممكناً حكمه عن طريق الفردية والسلطوية والديكتاتورية. وأن وقع ذلك، فسرعان ما ينهار النظام السلطوي كما وقع في ألمانيا النازية وفي الاتحاد السوفياتي السابق، وفي دول شرق أوروبا. كذلك فإن الحاجة إلى عمل المرأة ساعد على كسر الكثير من القيود التقليدية التي كانت مفروضة على المرأة وتمنعها من الحركة الا كتابع للرجل. وبدأت الفجوة الجنسوية بين المرأة والرجل في التقلص حتى وصلت اليوم إلى ما يقرب المساواة في عدد من البلدان الصناعية مثل الدول الاسكندنافية والدنمارك. وأصبح تعليم المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل هو النمط الاجتماعي الافضل ،الذي أخذ يشق طريقه بقوة في المجتمع. وراحت البطالة تتراجع، ومساحات الفقر تضيق، لأن كل ثورة صناعية تفسح المجال لأعداد غير محدودة من المشاريع التي تتطلب الأيدي العاملة المؤهلة والاستثمارات الإبداعية الجديدة.
ولأن الثورات الصناعية كانت من صنع المجتمعات نفسها ، بمعنى أنها ليست مجرد ماكنات ومصانع مستوردة، وإنما كل شيء فيها من تصميم وابداع وخيال وانتاج أفراد المجتمع على شتى المستويات ، فقد كانت بمثابة حمى ابداعية أصابت الجزء الأكبر من الناس ، وخاصة في الفنون والعلوم والخيال والهندسة والاختراع وعلم النفس والفلسفة والقيم ،مما جعل المجتمعات تدخل في تحولات كاسحة جعلتها تختلف كلية عن فترات ما قبلها. وسوف يستمر التغيير مع تقدم الزمن بدون توقف.
أدت الثورتان الصناعيتان الأولى والثانية بما رافقهما من انجازات واكتشافات ومنتجات ،إلى رفع معدلات تزايد السكان وزيادة معدلات الاعمار وأصبحت المدن الصناعية تكتظ بالأيدي العاملة التي تنتظر الفرص. وراحت صحة المجتمع في التحسن أولاً: لأن الثورة الصناعية اجتاحت العلوم المختلفة كالهندسة والجيولوجيا والطب، فدخلتها المعارف والاكتشافات والمعدات والأجهزة والأدوية الجديدة المبتكرة. وتحسنت صحة المجتمع.ثانيا: نتيجة لتحسن الإدارة والحاكمية والديمقراطية ،وما تبع ذلك من الحرص التدريجي على صحة الانسان، ولاكتشاف عمليات و معالجات في مجال الطب و الصيدلة لتشمل جميع الأمراض تقريباً.
لقد كان الحدث الأكبر على صعيد الانسانية أن الثورتين الصناعية الأولى والثانية أكدتا العديد من المسائل الفكرية والفلسفية التي كانت قبل الثورة الصناعية موضوع جدل ، لعل في مقدمتها «7» مسائـــل رئيسية:
1 – إن عقل الانسان قادر على الخيال والإبداع والانجاز والبناء والتصنيع بدون حدود. وان التصنيع ضاعف من قدرات»العقل الانساني التراكمي» وعزز «الإبداع التراكمي التنوعي للإنسان».وهنا أصبح العقل الجمعي والإبداع الجمعي أكثر أهمية من العقل والإبداع الفردي.
2 – إن القواعد الأساسية للمفاهيم العلمية التي وصل اليها الانسان صحيحة ويمكن البناء عليها وتطويرها وان طريق الانسان نحو اكتشاف الحقيقة هو في الاتجاه الصحيح.
3 – إن التصنيع يخلق حالة من التفاعلية الديناميكية المثمرة بين الحقيقة العلمية وبين الاختبار والتجربة، وعلى كل صعيد مادي أو معنوي، للوصول إلى مزيد من الحقائق والاقتراب من الحقيقة المطلقة.
4 – إن عقل الإنسان و ما لديه من علم و معرفة،هو الثروة الحقيقية ،وهو مرجع المسؤولية ومناط المساءلة المدنية والأدبية والأخلاقية.الأمر الذي يتطلب الاهتمام بتنمية امكانات هذا العقل من خلال برامج التربية والتعليم والثقافة والفنون وسائر أبعاد المعرفة المعاصرة.
5 – إن الانسان المعاصر كائن مخاطر ومغامر قادر الى حد كبير على التعامل مع الطبيعة، لا من منظور الانتظار والاكتفاء ،ولكن من منظور التعايش والقدرة على التأثير والتغيير وتوظيف العلم والتكنولوجيا هذا الهدف.
6 – أن التصنيع هو المدخل الأكثر فاعلية وكفاءة وديمومة للتغيير المجتمعي.وهو البيئة الحاضنة والمواتية للتطوير الاجتماعي الثقافي، ولتنمية الاقتصاد وزيادة القيمة المضافة وبناء الثروة، والتوجه نحو الديموقراطية والمشاركة.وهو القطار الأسرع لمغادرة محطات الماضي والانتقال إلى المستقبل.
7 – أن التعليم والتعلم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي في جوانبه النظرية والتطبيقية والمهاراتية ينبغي أن يتطور بالسرعة والاتجاه الذي تسير به الصناعة والتي تتطلب الكثير من «التخصصات المتداخلة» ليفيد منها وفي نفس الوقت يعطيها مزيداً من الزخم والاتساع.
انطلق العلماء والمفكرون والفلاسفة والمعلمون والمثقفون والفنانون يبحثون في كل موضوع وكل مسألة. وبذلك انطلق الانسان بكامل طاقاته متحرراً من أي قيود تحول دونه ودون الإبداع والابتكار والتجديد. ولم تقف الكنيسة في أوروبا معترضة على الجديد، ولا متناقضة مع مقولات العلم إلا في حدود ضيقة.إذ انها انسحبت من هذا الجدال مع بداية الثورة الصناعية الأولى ومع تماسك تيار التنوير ، ومن ثم اشتداد عوده إلى الدرجة التي أصبح فيها كاسحاً على كل صعيد.و»لأن تيار التنوير والتجديد في أوروبا وفيما بعد في الدول الناهضة كان يستند إلى انجازات فعلية مادية وتنظيمية ومجتمعية جديدة تتحقق في كل يوم، وعلى كل صعيد، ويعايشها كل فرد من أفراد المجتمع، نتيجة الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية.فلم يعد هناك مجال للمجتمع أو الفرد أو المثقف أو الأكاديمي للاستغراق والتوهان في الجدل الكلامي العقيم الذي لا يعبر عن شيء حقيقي، ولم يعد هناك من قيمة أو مبرر للتطلع إلى الماضي أو الاستغراق فيه.»لأن الحاضر والمستقبل الذي يشارك فيه الجميع أصبح الشغل الشاغل للعقل والفكر والثقافة بل والسياسة والمشاعر والتطلعات والطموحات». لقد أحدثت الثورتان بنتائجهما الاقتصادية والاجتماعية تغييرات جذرية في « الحالة الذهنية « والنفسية والروحية للفرد والمؤسسة والمجتمع، وهو ما لم يتحقق للمجتمعات التي لم تدخل بوابة التصنيع. وبسبب الطبيعة السريعة للصناعة مقارنة بالزراعة ، فإن آلاف المشكلات كالبطالة وهجرة الريف، ونشوء التجمعات السكانية الجديدة والمكتظة، أو حالة عمال المناجم وحتى الحروب، أو غير ذلك والتي كانت تنشأ نتيجة للتفاعلات الاقتصادية الاجتماعية السياسية، عادة ما تفرض ضغوطها من أجل الحلول السريعة. بمعنى أنه لم يعد ممكنا أو مقبولا في المجتمع الصناعي تأجيل كل شيء، والدوران حول المشكلات دون الدخول فيها كما يجري في المجتمعات الزراعية وفي الدول النامية. إضافة إلى أن حالة التصنيع وما يرافقها من قدرات وابداعات وابتكارات هي في جوهرها فرصة لابتكار الحلول للمشكلات. وقد اضافت الثورة الصناعية الثانية ثم الثالثة والرابعة إلى المجتمعات مفهوم السرعة في الحركة والسرعة في الإنجاز والحسم في المسائل ،بل والسرعة في كل شيء. وهذا شمل كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية بل والنفسية للفرد والمجتمع.الأمر الذي أعطى فرصة أكبر لتراكم الحلول والانجازات على كل صعيد وتراكم الثروة وتراكم دخل الأفراد. فخلال الفترة 1870- 1890 شهدت أوروبا والولايات المتحدة الامريكية أعلى نمو اقتصادي في فترة قصيرة كهذه في التاريخ. وتحسن مستوى المعيشة بفضل انخفاض أسعار البضائع الناتج عن الإنتاج وزيادة الإنتاجية. ولم يعد فشل الموسم الزراعي في بقعة معينة سبباً للمجاعة ،نظراً للترابط مع الأسواق الأخرى بالطرق والسكك الحديدية. لقد حملت الثورات الصناعية معها ثورة في كل شيء بما في ذلك القوانين والتشريعات بفضل الصناعة والانتاج الصناعي الوفير والأسعار التي أصبحت تقع ضمن «تحملية» الأفراد.
ولم تقتصر التحولات على المدن بل أن الثورة الصناعية دخلت الأرياف من خلال ربطها بالمدن والمراكز الصناعية، وبالتالي تلاشت عزلة الأرياف، واصبحت جزء من صميم الحركية الاقتصادية.
ومن جانب آخر كان للثورات الصناعية الفضل الاكبر في انتشار التعليم وارتقائه وتنوعه على المستوى الجماهيري. فلم يعد التعليم نوعاً من الترف أو رمزاً للمكانة الاجتماعية مقصوراً على الطبقة العليا ، وإنما أصبح هناك حاجة اقتصادية اجتماعية ادارية للمتعلمين في شتى العلوم والتخصصات. وكلما تقدمت الصناعة في مجال، تابعها التعليم فيه أو سبقها البحث العلمي اليه. لقد أصبحت العلاقة بين الصناعة والتعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والانتاج والابداع علاقة جدلية متصاعدة ومركبة، نلحظ نتائجها بوضوح في الدول الصناعية المتقدمة ، وبدرجة ربما اقل في الدول الناهضة. لقد دفع التنافس بين المنتجين للسلع والخدمات، وتراكم الثروة والثقة المطلقة بجدوى العلم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، دفع الشركات لإنشاء آلاف مراكز الأبحاث المتخصصة والمعاهد والجامعات ،والانفاق عليها إضافة الى تمويل مشاريع البحث والتطوير التكنولوجي في الجامعات الأخرى رسمية أو أهلية. وتصاعد انفاق القطاع الخاص على البحث والتطوير حتى تجاوز 70% من مجمل الانفاق في بعض البلدان.ولكن مثل هذه العلاقة تغيب تماما في الاقتصادات غير الصناعية والمجتمعات النامية والزراعية أو في مجتمعات ما قبل الصناعة. ولذلك لا نجد تعليما متقدما متميزا أو أبحاثا علمية طليعية أو اختراقات تكنولوجية في أي دولة غير صناعية وفي مجتمع غير صناعي. وهكذا راحت العلاقة الجدلية بين التعليم والعلم والمجتمع والاقتصاد تتصاعد وتترسخ يوما بعد يوم الى أن وصلت الى حد التلازم والاعتماد المتبادل.
4- الثالثة.. الالكترونيات والأتمتة
ومع قدوم عام 1969 انطلقت الثورة الصناعية الثالثة والتي أعقبت حربين عالميتين راح ضحيتهما ما يزيد عن 70 مليون قتيل ومئات الملايين من الجرحى. وأصبح استهلاك النفط والغاز يتصاعد إلى مستويات غير مسبوقة (10 بليون طن مكافئ فقط مع بداية الثورة الثالثة) وأصبحت الطاقة والتلوث البيئي مشكلتين عالميتين. حملت الثورة الثالثة معها ثورة الإلكترونيات والاتصالات وانطلاق الحاسبات وأتمتة الصناعة ،ومكننة الجزء الأكبر منها، والاختراعات المذهلة في أنظمة الرقابة والتحكم. وفي نفس الوقت تنامت المسؤولية تجاه ما يجري بالعالم. وقد أصبح البحث العلمي والتطوير التكنولوجي والتعليم المتميز مطلبا وطنياً وركيزة اقتصادية اجتماعية أساسية في كل مكان. وما حملته الثورة الصناعية الثالثة من منجزات وقيم وتطلعات لم يقبع في صالات المصانع ومختبرات البحث للشركات، بل انتقل فوراً وبشكل متداخل إلى التعليم في البيت و المدرسة والمعهد والجامعة ومراكز الأبحاث، وإلى الثقافة والإعلام والى الأرياف والقرى بل والى كل بقعة يمكن الوصول اليها. وحقيقة الأمر انه في كل ثورة من الثورات الصناعية الأولى والثانية والثالثة كان المجتمع والفكر والتعليم والثقافة والفنون جزء صميميا في المعادلة ،لأن الذي يصنع ويبدع ويصمم ويكتشف وينتج ويسوق ويخترع ويبتكر هم ليسوا النخبة ،وانما عشرات الملايين من أبناء وبنات المجتمع ذاته. من مختلف المدن والقرى والمذاهب والأديان والطوائف والألوان والأعراق. الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأصدقاء والصديقات كل هؤلاء يصنعون الثورة والثروة، ويفتحون فيها آفاقا جديدة: يعلمون ويتعلمون ويبحثون ويطورون ويبدعون بمشاركة فاعلة من المستثمرين والمعلمين والاكاديميين والبنوك والشركات والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني وكل من هو في المجتمع، وكل ما يدفع به الاقتصاد. وهكذا انتقل الاقتصاد وانتقل المجتمع من الإقطاعية أو الفردية الى المؤسسية ، ومن القبلية الى المنظمات والشركات. إن هذه الاعداد من العاملين في الصناعة مباشرة أو غير مباشرة يعملون في مجموعات وفرق داخل مصانع ومكاتب وساحات مناجم وآليات «تمثل في مجملها بوثقة للصهر المجتمعي». فتبدأ الحواجز والفوارق بين مكونات المجتمع في التراجع والتلاشى لان نجاح الوحدة الصناعية ونجاح الإنتاج والمؤسسة المنتجة يعتمد على الجميع ، حيث يتكامل الافراد والجماعات بغض النظر عن الأصل والدين والقبيلة والمذهب واللون. وهم يرتبطون بخط انتاج واحد ويتكلمون لغة مهنية واحدة وتربطهم علاقات قوية بالغة التداخل. هذه الخصائص وغيرها هي عكس ما في المجتمع الزراعي الذي لا يحتاج افراده إلى مثل هذا التداخل ، فتبقى الفروق والحواجز الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية والجهوية والطبقية في كل مكان لم تصل اليه حالة التصنيع بشموليتها.
ومرة ثانية هذه هي الأهمية التاريخية للثورات الصناعية في تطوير المجتمعات وإعادة صياغتها على شكل أكثر تقدماً وانسانية ورقياً، رغم العثرات هنا وهناك. لقد انطلقت الدول المتقدمة وهي صاحبة الصناعة والانتاج الأكبر حجما والأكثر أهمية في العالم، تنفق على البحث والتطوير والإبداع مئات المليارات من الدولارات فساعد ذلك على تكوين الثروة وساعد أيضاً على تحسين المستوى المعيشي في معظم بقاع العالم. ودخل العالم المتقدم مع الثورة الثالثة في مرحلة ضبط الايقاع والتركيز على قضايا انسانية كثيرة مثل الحاكمية والسعادة والديمقراطية والمشاركة وسيادة القانون ومؤشرات التعليم والمعرفة والفساد وغير ذلك الكثير. وهي كلها قضايا بالغة الأهمية في المجتمع الصناعي بسبب التداخلات العميقة والحرجة بينها وبين النجاح الاقتصادي الذي أصبح هدفاً مشتركاً للجميع ، وهو الأمر الغائب في المجتمع الزراعي أو التجاري. ومنذ مطلع السبعينات دخلت مجتمعات جديدة ساحة الثورات الصناعية وفي مقدمة هذه الدول كوريا الجنوبية والصين وسنغافورة وماليزيا والهند وايرلندا والبرازيل فأحدث ذلك خلال عشرين أو ثلاثين سنة أي مع بداية التسعينات ثورة اجتماعية هائلة في تلك البلدان، فتغيرت مجتمعاتها وتطور التعليم لديها والبحث العلمي ومعايير إدارة الدولة ومشاركة المجتمع. كما أحدث ذلك ثورة اقتصادية في السوق العالمي للسلع والخدمات. إذ لم يعد الانتاج حصراً على الدول الصناعية في أوروبا والولايات المتحدة وكندا بل انطلقت الدول الجديدة أو الناهضة في الانتاج واجتازت مراحل الثورات الصناعية الأولى والثانية بسرعة كبيرة وكفاءة عالية ودخلت الثورة الثالثة وشاركت فيها بكفاءة عالية.
ومن منظور تاريخي للبشرية تبدو الثورات الصناعية الاولى والثانية والثالثة وكأنها تيار كهربائي يسري في شبكة عصبية للابداع والابتكار والتجديد والخيال في جسم البشرية وبشكل خاص في المجتمعات الصناعية. فانطلقت تبدع وتصنع في كل اتجاه وراحت عضلات الجسم المجتمعي تتواءم مع متطلبات التجديد واصبح العلم والتكنولوجيا يشكلان قاعدة الانطلاق لكل شيء فوقعت تلك التغيرات الهائلة في المجتمعات الصناعية ،. إذ تحرر الإنسان من عقد الماضي وقيوده ، وأعادت المجتمعات اكتشاف نفسها واعادت بناء نظام التعليم لديها في محتواه وادواته، واعادت تأهيل المعلم والمدرسة والجامعة بل وتأهيل كل فرد في المجتمع.
5- الرابعة.. المجتمع الرقمي التواصلي
وفي عام 2000 دخل العالم الثورة الصناعية الرابعة أو الثورة الرقمية حيث اصبح التواصل المجتمعي، ونقل وتخزين وتداول المعلومات والبيانات منفتحا بدون حدود. وتطور العالم الافتراضي بتفاصيل مذهلة ،ابتداء من العاب الاطفال ومرورا بالغرف الصفية والمختبرات الافتراضية ،وانتهاء بالفضاء. واحتلت الانظمة الذكية والروبوطات مكانة متقدمة في الصناعة إلى الدرجة أن العديد من الأعمال والمنتجات أصبحت تنفذ من خلال الروبوطات والانظمة الذكية، ابتداء من التصاميم المعمارية وانتهاء بدراسة الفضاء واعماق البحار. وبدأ الذكاء الاصطناعي يحل محل الإنسان في كثير من الأعمال، وتطورت صناعات وعلاقات صناعية قائمة على هذه المعطيات. كما توسع الإنسان في استعمال مواد وانظمة جديدة من خلال انظمة رقابة وتحكم واتصالات محمولة ، مما اتاح الفرصة للمنافسة العالمية على مستوى الوظيفة الواحدة والعمل الواحد. واصبح التواجد الفيزيائي الفردي في مكان العمل ليس ضرورياً في كثير من الاحيان. وهذا اعطى فرصة جديدة لتطوير العقلية العلمية والتكنولوجية والفكرية والثقافية المجتمعية ،واستلزم كل ذلك اعادة النظر في برامج التعليم المدرسي والدراسات في كليات الهندسة والعلوم والاجتماع ، وفتح آفاقاً غير محدودة للتعلم عن بعد والتعلم الالكتروني في شتى المواضيع ، وجعل الانترنت مكتبة عالمية مفتوحة. كل ذلك للتماهي والتجاوب مع التغيرات المرافقة للثورة الصناعية الرابعة.
إضافة إلى ذلك ، ومع التوسع في عمليات التصنيع في اماكن مختلفة من العالم وما رافق ذلك من حركة النقل وانتشار السيارات أصبحت الطاقة مشكلة مستقبلية كبيرة. وبدأت الجهود والبرامج والتصاميم والمواد والمنتجات تتصاعد باتجاه التخفيف من استهلاك الطاقة للحد من ظاهرة التلوث والاحتباس الحراري ،والبحث عن مصادر نظيفة للطاقة وغير ناضبة. فانطلقت ثورة الطاقة المتجددة وبخاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وراح العالم يدخل مرحلة جديدة تقوم على ترشيد الطاقة وحفظها، والاعتماد المتزايد على الطاقة المتجددة على مختلف المستويات: ابتداء من المستهلك المنزلي البسيط وانتهاء بالصناعات والمدن وانارة الشوارع ومحطات ضخ المياه. كل ذلك حرك الموضوع الاجتماعي والعلمي التكنولوجي والتعليمي والبحثي باتجاه المستقبل اكثر فاكثر. رافق ذلك الاكتشافات والاختراقات الهائلة في الطب وهندسة الجينات، وما انبثق عنها من صناعات طبية هندسية جديدة، ادخلت تغييرات على الإنسان والحيوان والنبات ، واصبح المنظور للاشياء مهما كان صغرها أو ضخامتها، بساطتها أو تعقيدها ،يقوم على اعادة الهندسة وهندسة الاشياء الجديدة في كل مجال، لينعكس كل ذلك على مستوى المعيشة والدخل والفكر والثقافة والفنون والتعليم والإبداع والخيال وتنظيم المجتمع.
6- الدول الناهضة
كيف يمكن تفسير هذا التغيير في الدول الناهضة ؟ الإجابة الموضوعية المركزة هي: « انه كان لدى كل دولة ناهضة مشروع وطني للنهوض والتحول من حالة التخلف إلى التقدم ومن الاقتصاد الزراعي التجاري الهامشي إلى الاقتصاد الصناعي فى شتى القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والانسانية.»بمعنى أن التصنيع الشامل كان جوهر المشروع الوطني. وبالرجوع إلى ما قاله وكتبه مهاتير محمد في ماليزيا و لي كوان يو في ماليزيا وكزياو بنج دنج في الصين نجد نماذج ساطعة على وضوح مشروع النهوض الوطني للدولة في عقل القيادة ، والاصرار من خلال البوابة الاقتصادية القائمة على التصنيع ثم التصنيع ثم التصنيع على تنفيذه بل والتضحية من أجله. وحتى تتمكن هذه الدول من اجتياز بوابات الثورات الصناعية الثلاث، استعانت بالمفكرين والعلماء والخبراء والمبتعثين الى جميع أصقاع الدنيا طلبا للعلم والمعرفة. وفي البدايات وقبل أن تدخل مرحلة الابداع والابتكار لجأت تلك المجتمعات إلى مبدأ « الهندسة العكسية « Reverse Engineering « في كل شيء تقريبا. بمعنى أن تنقل الأمور والتصاميم والصناعات كما هي من خلال التفكيك والتقليد، لتنتقل بعد ذلك إلى اتقان العمل، وبعد ذلك إلى التغيير والإضافة ،ومن ثم إلى الابداع والتجديد. وهكذا استطاعت الصين أن تضاعف دخل الفرد 32 ضعفاً خلال 40 سنة وكوريا الجنوبية 19 ضعفاً وايرلندا 12 ضعفاً وسنغافورة 11 ضعفاً في حين لم تتجاوز ذلك في المنطقة العربية 6 أضعاف.ونظرة سريعة إلى ما كانت عليه الصين أو كوريا الجنوبية مثلاً عام 1965 وتتبع التغيرات المتلاحقة في الصناعة والمنشآت والمجتمع والتعليم والبحث والتطوير والتكنولوجيا والإبداع والفكر والثقافة وللفنون ، يدرك المرء بوضوح أن هذ الدول ومجتمعاتها مرت بالثورات الصناعية الثلاث السابقة ،إذ لا يمكن عمليا القفز عن واحدة أو التخلي عن أخرى كما يتوهم البعض. ولكن يمكن اجتياز المرحلة أو الثورة الواحدة بسرعة ورشاقة لأسباب ثلاثة:
الأول: الإفادة من تجارب الثورات السابقة والتعلم من الدول المتقدمة الثاني: التصميم على انجاح المشروع الوطني للنهوض. الثالث: توافر مواد ووسائل وتصاميم وامكانات وبدائل وتعليم وبحث علمي لم تكن متاحة في الماضي.
7- المنطقة العربية
والسؤال الكبير أين المنطقة العربية من كل ذلك ؟ أين موقع مهد الحضارات الانسانية مصر وسوريا والعراق والمغرب والأردن من كل ما يجري في العالم ؟أين الجزائر ولبنان والسعودية ودول الخليج ؟
إذا استثنينا التغيرات السطحية الناشئة عن التأثر بالعولمة ، واستيراد المنجزات الحضارية الحديثة دون تصنيعها ، فمن الواضح أن المنطقة العربية لازالت تراوح مكانها أو تتراجع في المحاور الأساسية للحضارة المعاصرة، ونعني بذلك المحاور الإجتماعية والإقتصادية والفكرية والعلمية والتكنولوجية والإبداعية. وبمراجعة مؤشرات هذه المحاور نجدها في المنطقة العربية أدنى من المتوسط العالمي في معظم الحالات، سواء كان الأمر يتعلق بنصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي أو معدل البطالة أو دليل الديمقراطية أو دليل المعرفة أو دليل التعليم أو دليل الشفافية والحاكمية أو الانتاج الصناعي أو الانتاج الزراعي الى غير ذلك.
يعود ذلك إلى أسباب رئيسية أربعة :الأول: إن الانشغال الدائم لدى الإدارات العربية هو الحكم والسلطة ، وليس بناء الدولة بالمؤسسات والقانون ، وتطور المجتمع من خلال تغيير المفاهيم والسلوكيات والأداء. وبالتالي فالبحث الأساسي لدى تلك الإدارات يتمثل في كيف وبأي الوسائل يمكن تأكيد الحكم لذات المجموعة وتثبيته بأي ثمن. حتى لو كان ذلك من خلال التمييز الطائفي أو العرقي أو الجهوي أو الديني أو الطبقي.الثاني: إن هاجس التغيير الجذري يمثل مصدر قلق دائم لصاحب السلطة ، لأنه يسعى دائماً إلى بقاء الأوضاع على حالها ، واستمرارها كما هي وكما تسلمها ،أو انقض عليها. وهو يريد ذات المجتمع الذي قبل به ،وليس مجتمعاً منظماً حيوياً يطالب بحقوقه، وأولها الحرية والمشاركة في الإدارة وتداول السلطة. الثالث: إن المنطقة العربية عموما تشكل الصحراء والبوادي والمناطق الجافة 85% من مساحتها ، بكل ما يعني ذلك من ضآلة الإنتاج ومحدوديته واستبداله بالتجارة ، وبالتالي عدم الاهتمام بالانتاج الى درجة كبيرة ، والعزوف عن صنع الأشياء وتطويرها وتحسين كفاءتها.الرابع: الاعتماد التاريخي على « الآخر» وعلى « الأجنبي « منذ زمن أمرؤ القيس وسيف ابن ذي يزن وحتى اليوم ، في السياسة أو الاقتصاد أو الدفاع أو العلم أو التكنولوجيا أو الغذاء. وبالتالي أصبح الاستيراد هو العمود الفقري للبقاء في المنطقة (باستثناءات قليلة). أكان استيراد السلع أو الخدمات الرسمية والأهلية أو استيراد الشرعية أو الحماية. كل ذلك دفع القيادات السياسية للدوران في الفضاءات الأربعة السابقة أي السلطة والحكم – استقرار الحال – ضآلة الانتاج – الإعتماد والإستيراد.
ومن جانب آخر فإن السياسيين والمثقفين والمفكرين ركزوا في معظم الأحيان على السياسة وليس الاقتصاد، وعلى المتوارث المنقول وليس التنويرالذي تبدعه العقول ، وعلى الماضي وليس المستقبل، وعلى التخويف والنصح والتبشير ، وليس على خلق آليات التغيير الحقيقية ، وفي مقدماتها أنماط ووسائل الإنتاج. ولم يتأملوا أو يدرسوا المصانع والماكنات من منظور اجتماعي فكري ثقافي، ليبحثوا في دورها وتأثيراتها في تغيير الإنسان والمجتمع ، ولم تجذبهم المناجم والمعادن ليتابعوا التغيرات في المدن والقرى. واعتبر الكثير منهم أن الأدوات والماكنات والمعدات كلها مسائل ثانوية أو مجرد « حديد « يمكن استيرادها في أي وقت ومن أي مكان. وحين يتناولون التغيير الاجتماعي لا يحرصون على البحث في البيئة المادية المواتية والحاضنة للتغيير. فتارة يرون السياسة مصدر التغيير ، وتارة يرون التعليم أساس التغيير ، وتارة يركزون على الفكر العقائدي. والنتيجة على مدى المئة عام المنصرمة أن السياسة هبطت لعدم تقدم المجتمع، والتعليم تراجع حتى اصبح ضبابا ، والتغيير تحول إلى انقسام وتفتيت وحروب ، وتمزقت الأحزاب بين توجه السياسيين للحكم والسلطة ، وتوجه المثقفين والمفكرين نحو السياسة والماضي والتراث والعموميات الكلية. ولذا لم يتبلور في أي بلد عربي « مشروع وطني للنهوض « على غرار ما جرى في دول شرق أسيا. وبالتالي لم يصبح التصنيع هدفا لتطوير الاقتصاد وتغيير بنية المجتمع، وانما قبع التصنيع على أطراف الفضاء السياسي والاقتصادي باستثناء فترات محدودة وقصيرة (محمد علي باشا وجمال عبد الناصر في مصر مثلا) ، و باستثناء المبادرات الفردية لإنشاء مشاريع صناعية قائمة بذاتها وليست حركة تصنيع شاملة. ومع انزواء التصنيع في الأطراف انزوت الديمقراطية والمشاركة والثقافة المجتمعية والأحزاب إلى الأطراف ايضا، وبخاصة من حيث الفعل والتأثير لان المجتمع لا يتغير إذا لم يتغير نمط و وسائط الإنتاج.
لقد وقعت البلدان العربية في ثنائية «نمو التخلف وتخلف التنمية». ذلك أن المجتمع أخذ ينمو بالعدد والاحتياجات بمعدلات مرتفعة نسبياً ، في حين أن مرافق الدولة من تعليم وصحة ونقل وثقافة وحريات وقانون وخدمات أخرى كانت تنمو بالكم والعدد بحكم ضغوط الواقع ، ولكنها من حيث النوعية والجودة والقيمة المضافة و المستوى كانت تنمو بمعدلات أقل ، أو بمعدلات تتخلف عن النمو الكمي. يعود ذلك لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها بطء النمو الاقتصادي الوطني الذي لم يكن قادراً على النمو بمعدلات وقفزات قادرة على مواجهة متطلبات المجتمع من تعليم وصحة ودفاع وغذاء وثقافة ونقل وغير ذلك من نفقات متزايدة.ذلك أن الاقتصاد غير الصناعي يبقى بالضرورة محدود الآفاق ضئيل الامكانات. وهكذا راحت النوعية والجودة والقيمة المضافة تتراجع في أشياء كثيرة ويتراجع معها المجتمع. إن تراجع المجتمع يعني الشيء الكثير. فهو أولاً يعني تراجع القوة الناعمة في المجتمع من أخلاق الى سلوكيات الى مواطنة الى انتماء الى روح الفريق الى التحاسد أو الكراهية الى الشعور باليأس والاحباط، الى فقدان الأمل بالمستقبل. وتراجع المجتمع يعني تراجع التعليم ، وانخفاض قيمة العلم ، وهزالة البحث والتطوير ، وهبوط الثقافة، وهامشية الفنون، والارتدادالى الماضي والبحث عن الخلاص في الأوهام. ولم ينتبه الكثير من السياسيين والمفكرين بل والاقتصاديين الى ضرورة الاجابة على السؤال: لماذا لا ينمو الاقتصاد الوطني بمعدلات كافية لمواجهة متطلبات المجتمع في جوانبها المادية والخدمية؟ لماذا تستمر موازنات الحكومة في حالة عجز من سنة الى أخرى؟ ولماذا تضطر الدولة الى تغطيتها بالمساعدات والاستدانة والمنح؟ ولماذا لا يتغير المجتمع الى الأمام؟ ولماذا هذا الاعتماد المتواصل على « الخارج» في كل المسائل الهامة ؟ لماذا تتراجع الزراعة ولماذا تتصاعد المستوردات ؟ ولماذا نجد أن نصيب الفرد العربي من الانتاج الصناعي أو الزراعي أقل من المتوسط العالمي وأقل من 15% من متوسط نصيب الفرد من هذا الانتاج في الدول المتقدمة ؟
عشرات الأسئلة كان ينبغي أن تثار للوصول الى الإجابة الصحيحة وهي: أنه «دون اقتصاد صناعي متقدم و مجتمع صناعي فإن الدول بمجتمعاتها ومؤسساتها و أفرادها، لا تستطيع أن تجاري متطلبات الحضارة المتقدمة المعاصرة. وبدون التحول الى الاقتصاد الصناعي فإن التغيرات البنيوية في المجتمع تبقى سطحية وضئيلة، وتبقى العقلية التي تتعامل مع الحاسوب ومع الشبكة العنكبوتية هي العقلية قبل صناعية ، ويصعب اذاك انتظام المجتمع في برامج ومؤسسات وسلوكيات واخلاقيات وابداعات وأحزاب. ويصعب للتعليم أن يتقدم ،وللبحث العلمي أن يزدهر، وللتكنولوجيا أن تتطور. فهذه كلها من صميم خصائص المجتمع المتقدم أي المجتمع الصناعي. لقد ساعدت الأموال النفطية والمساعدات الدولية والحرب الباردة وتنافس الدول الكبرى على مناطق النفوذ ساعدت على « تسيير الأمور يوماً بيوم « ومكنت من البقاء المعتمد على العوامل الخارجية. ومن جانب آخر فإن الكثيرين نظروا الى الخارج نظرتهم الى الشيطان. فجعلوه السبب في كل مشكلة ووراء كل فشل ومحرك كل تقصير. ولم يدرك الكثيرون أن الخارج يستغل فقط نقاط الضعف ويبني عليها ولكنه لا يصنعها. الخارج لا يغير المجتمعات ولا يعيد بناءها ، ولا يفشل تعليمها ولا ينشر البطالة فيها ولا يهمل اريافها وبواديها ولا يوصل شبابها الى الإحباط ، ولا يطفئ جذوة الإبداع في ابنائها وبناتها. ولكنه إذا اراد الشر والأذى فإنه يستغل ما فيها من ضعف وما يعتورهامن ثغرات.
8- النتيجة
إن المنطقة العربية عموماً، وكل دولة بذاتها، لن تستطيع أن تجتاز الحالة الراهنة المتمثلة بالضعف الاقتصادي والتثاقل الإجتماعي وتراجع التعليم والتطلع الى الماضي، الا من خلال مشروع وطني يهدف الى تصنيع الاقتصاد الوطني بكامله على غرار دول شرق آسيا، والانتقال من إقتصاد التجارة، و الوساطة، والريعية، والمساعدات والمنح، والزراعة ما- قبل -الصناعية الى الاقتصاد الحديث، و عليها اجتياز الثورات الصناعية الأربعة بكاملها، ولكن بسرعة و ذكاء وفاعلية من خلال الإفادة من تجارب الأمم التي نجحت بذلك، و عليها تطبيق مفاهيم الهندسة العكسية والصناعات الاحلالية. إن تحريك الاقتصاد الوطني بخطى دائمة ومضطردة الى الأمام، وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، ورفع القيمة المضافة للسلع والخدمات، والوصول الى تعليم القرن الحادي والعشرين، واستثمار المجتمع لهذا التعليم، وزيادة مدخلات العلم والتكنولوجيا في الانتاج، وتوليد فرص عمل جديدة، لا يتم من خلال المشاريع العقارية، ولا صناعة المال، ولا شراء وبيع الموجودات ،ولا من خلال الخصخصة للأجنبي، ولا من تحويل المصانع الى قطع أراضي بانتظار ارتفاع الأسعار ، ولا من انسحاب الدولة من توجيه الاقتصاد، ولا من زواج السياسة بالإقتصاد بالمال ، ولا من مئات المفردات المشابهة.إن ازدهار الإقتصاد الوطني ، والتغيير الاجتماعي الى الأمام ، وارتقاء التعليم والبحث العلمي والتطوير التكنولوجي والإبداع ،و تطوير الأرياف و البوادي لا يتأتى الا من خلال التصنيع في إطارمشروع وطني لتصنيع القطاعات المختلفة. وإذا كانت الصناعة قد اجتازت ثورات أربعة فعلى المجتمعات التي تخلفت عن تلك الثورات أن تدخل هي في الثورات الصناعية الأربع بكل جرأة وجسارة وثقة بالمستقبل. إن متطلبات هذه الثورات ليست الأموال الجاهزة، ولا الثروات الطبيعية في باطن الأرض ، انها رأس المال البشري.انها الانسان الذي تحركه الإرادة وتضبط خطواته الإدارة. وفي خلاف ذلك سيبقى المجتمع لاهثا وراء الأحداث، متكسبا من فتات التقدم ،ومتحملاً كامل أعباء التخلف. وعود على بدء :هل يمكن التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة كشركاء وليس مجرد مستهلكين؟ الإجابة الواقعية: نعم إذا كان الاقتصاد اقتصاداً صناعياً ، والمجتمع مجتمعاً صناعياً معرفياً ،والثقافة المجتمعية ثقافة الانتاج الصناعي والتكنولوجي ، والتعليم تعليم الثورة الرابعة، بمهاراتها الريادية والابداعية والتكنولوجية. ذلك هو المدخل الذي يتطلب الإستجابة العملية من خلال « المشروع الوطني للتصنيع «.إن المجتمعات و الأفراد لا تتغير في العمق سياسيا و فكريا و تقافيا و معيشيا، و لا تستجيب للمستجدات، إلا إذ تغيرت أنماط و وسائل و بيآت تكوين الثروة الوطنية القائمة على الإنتاج الحديث.