باقتراب موعد خروج دونالد ترامب من البيت الأبيض، ليحل محله المنافس الديمقراطي الرئيس المنتخب جو بايدن، يكثر الجدل حول سياسة بايدن الخارجية، بخاصة في الشرق الأوسط، والموقف من القضة الفلسطينية.
بداية، لا بد من الإشارة الى أن هناك 6 ملفات رئيسة، تحتل الأولوية لدى بايدن، بل لدى الولايات المتحدة الأميركية كدولة، الأول: جائحة كورونا وتبعاتها الصحية والاجتماعية، إذ أدت سياسة ترامب وعنجهيته، وعدم اكتراثه بآراء العلماء والخبراء والمختصين، الى وضع أميركا على رأس قائمة الدول في عدد الاصابات (10.5 مليون إصابة، والوفيات 250 ألفا).
وكان ترامب يطلق كل اسبوع أو اثنين تصريحا حول المرض، بعيدا عن العلم والمنطق: ابتداء من تصدير الصين لـ”كورونا”، وانتهاء بأن الأدوية التي تناولها أثناء “تمثيلية اصابته بكورونا” كافية وأكيدة لشفاء الناس من المرض.
وما أن تأكد فوز بايدن، المرشح الديمقراطي وأصبح “الرئيس المنتخب”، وقبل تسلمه الرسمي للرئاسة، حتى سارع إلى تشكيل فريق علمي طبي على أعلى مستوى، لوضع خطة وطنية لمواجهة أزمة “كورونا”، ليبدأ تنفيذها في اليوم الأول لرئاسته.
الثاني: الاقتصاد الأميركي، فقد تراجع وانخفض معدل النمو الى -2 %، وارتفعت البطالة الى 7.9 % بعد أن كانت في حدود الـ4 % قبل الجائحة، بكل ما يعني ذلك من أن ملايين الأشخاص فقدوا وظائفهم وأصبحوا بحاجة إلى دعم الدولة ومساعداتها، وتوقف قطاعات ضخمة كبيرة، مثل الطيران والسياحة وملايين المشاريع عن العمل، إذ تراجعت أعمالها الى أقل من 10 % من حجمها الاعتيادي وغير ذلك الكثير، وهو أمر لا بد من اعطائه أولوية وجهودا علمية ومالية وإدارية خاصة، تتشارك فيها المؤسسات الرسمية والأهلية والأكاديمية والمصرفية.
الثالث: توحيد المجتمع الأميركي بعيدا عن الانقسامات العرقية والدينية والطبقية والفئوية والشعبوية. تلك الانقسامات التي تجاوزها المجتمع الأميركي منذ اعوام، حتى انه انتخب باراك اوباما بخلفيته الإفريقية السوداء لفترتين متتاليتين، فأحياها ترامب من جديد بسياساته وتصريحاته القائمة على التفرد والتهديد والابتزاز.
إن توحيد المجتمع ورأب الصدوع فيه وتعزيز تماسكه، مسألة بالغة الأهمية، لإمكانية تنفيذ أي برامج وطنية تتطلب انخراط العدد الأكبر من المواطنين فيها.
الرابع: العلاقة الأوروبية- الأميركية المتوترة، فقد أدت سياسة ترامب الى فتح فجوات كبيرة بين أميركا والعالم، وفي مقدمته حلفاؤه في اوروبا، بخاصة المانيا التي اتهمها بعدم الالتزام بواجباتها تجاه حلفائها، وعدم الانفاق بما يترتب عليها في حلف الأطلسي. وكذلك فرنسا وايطاليا، بالإضافة الى تصريحاته البعيدة عن العرف الديبلوماسي، والتي أشار فيها الى أن أميركا لا تستطيع أن تقدم الحماية لأوروبا مجانا، وعلى نفقتها، وإنما على أوروبا أن تدفع ثمن تلك الحماية، وبقيت العلاقة الأوروبية- الأميركية جيدة فقط مع بريطانيا.
لذا سيكون من أولويات بايدن وفريقه، بكل الخبرات السياسية والعلاقات الدولية التي لديهم، تجسير الفجوات واعادة اللحمة والقوة والحيوية للتحالف الأوروبي- الأميركي. الخامس: التجارة مع الصين، فقد أطلق ترامب شرارة حرب تجارية مع الصين التي تبلغ صادراتها الى أميركا حوالي 400 مليار دولار سنويا، بعائدات جمركية تتجاوز الـ60 مليارا، مقابل صادرات أميركية بلغت 120 بليون دولار العام 2018.
وفي كل مرة؛ كان ترامب يدخل التفاوض مع الصين سرعان ما تنتهي المفاوضات الى توقف وانقطاع، دون التوصل إلى نتيجة تعيد التجارة إلى حالة من الاستقرار، بخاصة وأن أميركا تستورد من الصين خامات معدنية نادرة جدا، والتي تدخل في صناعات تكنولوجية وعسكرية متقدمة للغاية، ما انعكس سلبيا على الاقتصاد الأميركي.
وسيعمل بايدن وفريقه على تهدئة الأجواء مع الصين، والوصول لاتفاق يؤسس لاستقرار تجاري بين البلدين.
السادس: الاتفاقيات والمنظمات الدولية؛ بحيث شكك أو انسحب ترامب من عدة منظمات واتفاقيات دولية هامة، ما ساعد على اتساع الفجوة بين اميركا والاتحاد الأوروبي والعديد من دول العالم.
يأتي في مقدمة ذلك: انسحابه من كل من: اتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية 5+1 النووية مع ايران (ومنظومة العقوبات التي تبعت ذلك)، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، ومجلس حقوق الإنسان المنبثق عن الأمم المتحدة، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، واتفاقية النافتا، واتفاقية التجارة مع كوريا، واتفاقية الصواريخ المتوسطة المدى مع روسيا، ما فتح الباب مجددا لسباق التسلح مع روسيا، واتفاقية سنغافورة حول التسلح النووي لكوريا الشمالية، والتوقف عن المساهمة بتمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، والتشكيك المتواصل في جدوى كل من: حلف الأطلسي ومنظمة التجارة العالمية، والتنكر للقرارات الدولية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وجميعها اتفاقيات تلتزم بها الكثير من الدول الأوروبية والعالم.
في هذا الإطار، فإن اهتمام بايدن بمنطقة الشرق الوسط، سيكون محدودا بعد أن نجح ترامب بتخويفها وإخضاعها للرغبات التي توافق كشنر مع نتنياهو على تضمينها في صفقة القرن.
وسيعمل بايدن على إدارة للأزمات التي قد تنشأ بين الحين والآخر، وليس محاولة للدخول في أعماقها، بخاصة بعد انسحاب أميركا من البؤر الساخنة فيها. يساعد على ذلك أن دول المنطقة العربية، شديدة الاعتماد على اميركا وحلفائها، وهي مبعثرة ومشتتة، لا يجمعها صوت واحد أو موقف متوافق عليه، ويشعر الكثير منها بالضعف والاستسلام لابتزاز ترامب لهم.
لقد أعطى ترامب اسرائيل كل شيء كان يسعى اليه نتنياهو، بخاصة البنود السبعة، وهي الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل السفارة الأميركية الى القدس، وطرد منظمة التحرير من واشنطن، والاعتراف بضم الجولان، والسكوت عن ضم الضفة الغربية وغور الأردن، ووقف التمويل لـ”لأونروا” وللسلطة الفلسطينية، والسكوت عن التوسع في المستوطنات، وإلغاء مبدأ حل الدولتين وإهمال البعد السياسي والإنساني والقانوني للقضية الفلسطينية بكاملها، وبالتالي اعطاء شرعية اميركية للاحتلال الاستيطاني.
وهنا؛ سيعمل بايدن على ألا يثير أو يغير أياً من هذه المواضيع، باعتبارها قرارات للإدارة السابقة، وسيبقى موافقا ضمنيا أو متابعا بصمت ما هو قائم، بما في ذلك حث مزيد من الدول العربية على الإسراع بالتطبيع. وهذا ما يريده نتنياهو.
من هنا؛ فإن سياسة الإدارة الجديدة لبايدن لن تتغير تجاه العرب والمسألة الفلسطينية، الا إذا وقع تغير قوي لدى العرب والفلسطينيين انفسهم، ونشأت دوافع ومحركات جديدة تأتي في مقدمتها: 1 – انهاء الانقسام الفلسطيني قولا وعملا، ومخاطبة العالم من خلال سلطة وطنية فلسطينية موحدة، تعمل من أجل المستقبل. 2 – تطوير تحرك عربي من 5 أو 7 دول عربية، للضغط باتجاه العودة الى القانون الدولي وحل الدولتين، والاعتراف بمنظمة التحرير، والقبول بفكرة القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. 3 – الانتهاء من الحروب والنزاعات الأهلية والطائفية، وإكمال مصالحات وطنية تقبل الديمقراطية وتداول السلطة والتوجه نحو بناء دول حديثة.