صدرت تقارير كثيرة، كان آخرها تقرير البنك الدولي قبل شهرين، تحذر من أزمة خانقة للمياه في المنطقة العربية وفي مقدمتها الأردن، نتيجة لقلة المصادر المائية وللتغيرات المناخية وتراجع الأمطار، والتوسع في استهلاك المياه بسبب الزيادات السكانية، واستمرار أساليب الزراعة التقليدية.
وفي الوقت ذاته، أشار البيان الوزاري لحكومة بشر الخصاونة الى إن الحكومة أنجزت وثيقة تجعل من خلالها الأردن “مركزاً إقليمياً للأمن الغذائي” واطلقت استراتيجية جديدة للمياه، واستراتيجية أخرى للزراعة بعد أن تم وضع الخريطة الزراعية التي تشير إلى وجود (21) مليون دونم يمكن زراعتها ،وتكليف المركز الوطني للبحوث الزراعية بإجراء دراسة تفصيلية لتطبيق تقنيات الحصاد المائي المتعددة”. كل ذلك تم إعداده بعد دراسة علمية وواقعية. كما أشار البيان إلى عزم الحكومة على مواصلة تطوير قدرات قطاع المياه، بما في ذلك تعزيز قيم المساءلة والتوزيع العادل، وتقليل خسائر المياه من خلال تطبيقات التحول الرقمي، والتعاون مع القطاع الخاص في تطوير خدمات المياه والصرف الصحي. هذا إضافة إلى مضي الحكومة في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية الكبرى لتحقيق الأمن المائي وتأمين المزيد من مصادر المياه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسائل أساسية لا يحسن القفز عنها:الأولى: إن الماء والأمن الغذائي مسألة أمن وطني بالغة الأهمية، خاصة ان النصيب السنوي للفرد من المياه قد تراجع إلى 80 مترا مكعبا، وأن الأردن يستورد أكثر من (85 %) من المواد الغذائية وأكثر من (95 %) من الأساسيات الغذائية. كذلك لا يتوفر لديه اكتفاء أو فائض إلاّ في الخضار وبعض الفواكه والحليب وبيض المائدة.الثانية: إن كلفة الغذاء مرتفعة تماماً لدينا بسبب استيرادها كلياً أو جزئياً من الخارج وتصل إلى (40 %) من متوسط دخل المواطن مقارنة بـ (8 %) في أميركا وهو عبء مرهق لايكاد يحمله المواطن.الثالثة: إن معادلة الأمن الغذائي تقوم على خمس ركائز هي: المياه، والطاقة، والتكنولوجيا (التحديث الزراعي)، واستصلاح الأراضي، وتصنيع الزراعة (مدخلات ومخرجات).الرابعة: إن مسألة المياه والزراعة والغذاء تتطلب اقتراباً مختلفاً عما اعتادت الدولة القيام به. وهذا الاقتراب يقوم على الحلول التراكمية والمشاريع المتنوعة بالحجم من الصغير تماما إلى المتوسط والكبير، والتي بمجموعها تحدث الفرق، وكثيراً ما يسهم المواطن فيها. وليس الاعتماد على المشاريع الاستراتيجية الكبرى وخاصة الإقليمية، التي تتأثر كلية بعدم الاستقرار السياسي في المنطقة، وضعف قدرة الدولة على التمويل، ونيات إسرائيل الخبيثة التي تسعى دائماً إلى إبقاء الدول العربية المحيطة بها في حالة ضعف بنيوي في الأساسيات، لتكون هي المنقذ .
إن الحلول التراكمية كثيراً ما تلاقي عدم الاكتراث، وخاصة في العقل الإداري الرسمي، لأنها تقدم حلولاً جزئية تدرجية وسلسلة متواصلة من المشاريع التي تتطلب دائما شراكات وطنية متعددة لا يحبها الموظف العام. هذا في حين تحلم الإدارة بالمشروع الضخم الذي يقدم حلاً لسنوات عديدة، و يكون ممولا من الخارج ومنفذا من مقاول أجنبي.
وكنموذج للحلول التراكمية التي تتبناها معظم الدول، ننظر في المشاريع المائية، باعتبار توفير المياه يمثل العمود الفقري لإنتاج الغذاء والأمن الغذائي. هناك وسائل كثيرة لم تأخذ الاهتمام الكافي لدينا ومنها: أولاً: تحلية المياه المالحة من البحر باستخدام الطاقة الشمسية. حيث أصبحت اليوم كلفة إنتاج المتر المكعب من المياه لا تتعدى 0.5 إلى 0.80 دولار. وتحلية المياه قرار دولة وبديل استراتيجي مستمر لا غنى عنه عاجلاً أم آجلاً . ثانياً: تدوير المياه الناتجة عن الصرف الصحي الفردي و الجمعي ومعالجتها إلى الدرجة الثانية حتى تصبح صالحة للإنتاج الزراعي الذي يستهلك اليوم (52 %) من مجمل استهلاك المملكة من المياه. ثالثاً: الاستمطار. وهي تكنولوجيا معروفة منذ (100) عام وغير مكلفة، وتستخدمها الكثير من الدول منها الصين وروسيا و الكيان الصهيوني منذ العام 950 ، وكذلك الإمارات العربية والكويت وبلغاريا وغيرها. ويمكن بالنسبة لنا إنشاء عدد من مراكز الاستمطار في مناطق مختلفة، سيكون من نتائجها ليس تجميع المياه وإنما بالدرجة الأولى تحسين إنتاج المحاصيل وزيادتهاالأمر الذي ينعكس إيجابياً على الأمن الغذائي. وهذه مسؤولية يشارك فيها المركز الجغرافي وهيئة الأرصاد والزراعة والجامعات. رابعاً: التوسع في الحصاد المائي بأشكاله المختلفة وخاصة السدود الترابية والحفائر والآبار،حيث لا تتعدى كلفة السد الترابي (100) ألف دينار ويمكن إنشاء (20) سداً ترابياً سنوياً. هذا إضافة إلى السدود الكبيرة وتشجيع بناء الآبار لدى المواطنين وخاصة في خارج المدن وتقديم التصاميم الملائمة والدعم المالي غير المباشر. خامساً: العمل الجاد المبرمج على تطوير سلالات زراعية نباتية وحيوانية أكثر احتمالاً للجفاف والحرارة من خلال برامج بحثية محددة، والإفادة من تجارب الدول الناجحة وخاصة أستراليا والصين. سادساً: التوسع في الزراعة المائية حيث تخفض استهلاك المياه الى 30 %، ونشر هذه التكنولوجيا وتعميمها على نطاق واسع بما في ذلك المزارع المركبة للمنتجات النباتية والأسماك. سابعاً: تعميم تكنولوجيا الصناديق المائية بعد تطويرها بما يلائم البيئة المحلية. ومن شأن هذه التكنولوجيا أن تضاعف من إنتاج الزراعات المحلية وخاصة البعلية وتقليص الاحتياجات إلى الماء. وهنا تبرز إسبانيا رائدة في هذ المجال. ثامناً: توليد المياه من الهواء حيث يتم تكثيف المياه الموجودة في رطوبة الهواء. وهي تكنولوجيا معروفة وتستخدم للمناطق البعيدة والمعزولة والمزارع الصغيرة والمناطق المحاصرة مثل غزة. وقد أصحبت هذه الوسيلة سهلة وغير مكلفة اليوم باستخدام الطاقة الشمسية ومن الممكن تصنيع الأجهزة اللازمة لها محلياً.
أما بالنسبة للأمن الغذائي فلا يتحقق على أرض الواقع إلاّ من خلال ثورة زراعية كما فعلت الهند العام 1960. على ان تبدأ بالمداخل الرئيسية وهي أولاً: مكننة الزراعة وأتمتها ورفع مستواها الإنتاجي بأقل كمية من الماء بإدخال التكنولوجيا الرقمية وطائرات الدرون والطاقة الشمسية. وهذا يتطلب إنشاء “هيئة متخصصة للمكننة الزراعية” إضافة إلى تشكيل جمعيات تعاونية تساعد صغار المزارعين على الدخول في هذه التكنولوجيات بدعم من وزارة الزراعة ومراكز البحث العلمي والقطاع الصناعي الخاص. ثانياً: التصنيع الزراعي ابتداء من مدخلات الإنتاج مروراً بالعمليات الإنتاجية وانتهاء بتصنيع المنتجات النهائية حتى تكون قابلة للحفظ والتصدير والتجارة الدولية. ثالثاً: إنشاء تخصصات لهندسة وتكنولوجيا المياه ، التحلية، التدوير، التوليد، الحفظ، في عدد من كليات الهندسة في الجامعات. رابعاً: إعفاء مدخلات ولوازم إنتاج الزراعة والغذاء من الرسوم الضرائب.
إن تحقيق الهدف الذي أشار إليه الملك عبد الله الثاني بأن يكون الأردن مركزاً إقليمياً للأمن الغذائي، وما طرحته الحكومة في بيانها الوزاري بخصوص الزراعة والمياه، وما حذرت منه المؤسسات الدولية، يجب أن يؤخذ بكل الجدية باعتباره أمناً وطنياً بامتياز، ويتطلب استراتيجية وبرامج وطنية ملزمة على مستوى الدولة، وعابرة للحكومات، تشارك فيها وزارة الزراعة وكليات العلوم والهندسة والزراعة في الجامعات، إضافة إلى القطاع الخاص ومراكز الأبحاث، وتعمل معاً وفق برامج زمنية محددة. فذلك الضمان الوحيد لمستقبل غذائي ومائي آمن.