ما تقوم به الحكومة الاسرائيلية من اعتداءات متواصلة على الاماكن المقدسة وفي مقدمتها الأقصى، وتضييق الخناق على الفلسطينيين، ومصادرة الأراضي وتحويل شعب بكامله إلى مجموعات سكانية معزولة، ليس حدثاً طارئاً ولا علاقة له بمقتل الشرطيين الاسرائيليين في القدس. كما أن الاعمال الممنهجة لطمس الهوية العربية وتشويه التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا وحصار غزة الذي فاق في وحشيته وعنصريته إجراءات النازي،كل ذلك ليس مفاجئاً ابدأ لمن يفهم العقل الاسرائيلي اليميني الحاكم، و لمن يتابع التطلع الصهيوني المتجدد نحو التوسع والاحتلال والسيطرة واستكمال «المشروع الاستعماري العنصري في الأراضي العربية»، و على حدود تتراوح بين خطوط الانتداب و التوراة. ولذلك حين تم اقفال الأقصى الاسبوع الماضي كان الهدف لدى نتنياهو اولاً: أن يختبر رد الفعل فلسطينيا وعربيا واسلاميا و دولياً. تماماً كما كان الاختبار ايام غولدا مائير عام 1969 و ثانياً: أن يخطو خطوة الى الأمام في السيطرة على الأقصى. تمهيداً لإعادة بناء الهيكل المزعوم. ثالثاً: السير قدماً في برنامج تهويد القدس باعتبار ذلك هو عنوان الدولة اليهودية . رابعا :أن يخلق مشهدا جديدا ينشغل فيه العرب و العالم عن جرائم الاحتلال في كامل الأراضي الفلسطينية ،بعد أن أصدر الكنيست 129 قانونا عنصريا في هذا الاتجاه حتى اليوم .
وكما كان رد الفعل العربي ناعماً بارداً عام 1969، فإنه اليوم غائب تقريبا، باستثناء الأردن، ودفاعه المستمر عن القدس والأماكن المقدسة دون توقف، وعلى كل صعيد. لقد خرج نتنياهو من هذه الحركة بتركيب بوابات الكترونية في بعض المداخل، تمهيداً لنشر هذه البوابات والكاميرات في اماكن ومداخل مختلفة، و تثبيت واقع السيطرة الإسرائيلية. وهكذا اصبح الأقصى تحت المراقبة تمهيداً للخطوة التالية وهي الاقتسام الزماني ثم المكاني كما هو الحال في الحرم الابراهيمي في الخليل ومحاولة تغيير صفة الاماكن المقدسة إلى مواقع تاريخية أو سياحية.
وعلى جميع الاطراف أن تتوقع الشيء الكثير من جانب الحكومة الاسرائيلية في هذه الفترة بالذات التي وصلت الحالة العربية فيها إلى ادنى مستوى لها منذ اكثر من ستين عاماً.. ولا زال الانقسام والتنافس الفلسطيني على أشده ليعطي فرصة اكبر للتوسع والتغوّل والتوغل الاسرائيلي في كل اتجاه.
والمسألة التي تتطلب المراجعة في التفكير والموقف بالنسبة لنا من أجل المستقبل هي: مدى جدية التزام اسرائيل بشروط معاهدة السلام مع الأردن وبالاتفاقيات والتفاهمات الخاصة بالاماكن الخاصة.
واذا كان نتنياهو وليبرمان وغيرهما يتصرفون بهذا الصلف والغرور اليوم، فما الذي يمكن أن يوقف من وحشتيهم السياسية والاستعمارية حين يصبح الأردن معتمداً عليهم في الغاز نتيجة لاتفاقية الغاز السرية التي ليس لها ضرورة؟ وماذا سيرتكب اليمين الصهيوني الحاكم حين يصبح جزء من شمال المملكة معتمداً على المياه التي يأخذها من اسرائيل كبديل للمياه المحلاة التي يقدمها الاردن للجنوب الاسرائيلي؟ وما الذي سيوقف انتهاكات اسرائيل حين يصبح آلاف العمال الاردنيين يعملون في المصانع الاسرائيلية سواء في ايلات أو في المنطقة الصناعية المشتركة في غور الأردن؟ أو حين تصبح الشبكة الكهربائية معتمدة في توازنها واستقرارها على الربط مع الشبكة الكهربائية الاسرائيلية بسبب المحطة النووية الهائلة الحجم المنوي بناؤها بدون مبرر؟ أو حين يتم الاعتماد على سكة حديد من حيفا إلى إربد كما يروج البعض ؟
هذه مفاصل استراتيجية قد تبدو اليوم بعيدة لدى البعض، ولكن الزمن يمر بسرعة، واسرائيل تزداد توحشاً وابتعاداً عن السلام. وكلما ازداد «التراكب» الاقتصادي في المفاصل الاستراتيجية مع اسرائيل، اصبح بإمكانها الضغط على الأردن بكل اتجاه بما في ذلك «تهجير» الفلسطينيين من ديارهم. ومن يفهم العقل الصهيوني واليمين الاسرائيلي يدرك بسهولة أن السلام الاقتصادي الذي ينادي به نتنياهو، وتتبناه الولايات المتحدة ،وتضغط به على مصر وفلسطين والأردن، هوالمدخل للهيمنة السياسية والسيطرة الكاملة التي تتطلع اليها الحركة الصهيونية وينفذها نتنياهو ومن معه. هل يقع ذلك خلال 5 سنوات أو 10 سنوات أو 30 أو 50 سنة؟ ذلك ليس مهما أمام الاصرار على التوسع لدى اليمين الإسرائيلي حتى ولو بعد مائة عام.
وفي النهاية إن الممارسة اليومية لاسرائيل، والتراكم التاريخي لما تقوم به منذ عام 1948، يؤكد أن الخصم لا يمكن الاطمئنان اليه، والغدر الاسرائيلي لا يمكن الاستهانة به ولو بعد حين. وان الغاز الاسرائيلي ليس له مبرر اقتصادي أو لوجستي حين يغطي الغاز السائل اليوم 85% من الكهرباء كما أن كلفة تبادل المياه لا تستحق ابدا هذه المخاطرة الاستراتيجية إضافة إلى أن العمالة الأردنية في اسرائيل لن تحل مشكلة البطالة ولن تحسن وضع الاقتصاد الاردني . إن الحلم الصهيوني الاحتلالي التوسعي كما نادى به هرتزل وجابوتنسكي وبن غوريون وجولدامائير لم يتغير، لا بالمساحات ولا بالاماكن ولا بالالتزامات ولا بأي شيء. و على الفلسطينيين والعرب جميعا، ونحن في المقدمة ، أن ينهوا خلافاتهم ،و يتوجهوا للعمل البناء ،إبتداء من دعم صمود الفلسطينيين، ومرورا بمنظمات المجتمع المدني، وانتهاء بالبرلمانات و المنظمات الدولية، حتى يدرك الإسرائيليون والصهاينة في كل مكان أن النشيد الذي يتعلمه صغارهم في المدارس الاسرائيلية»هذه الضفة لنا وهذه الضفة « ما هو إلا وهم استعماري ميت .أما نحن فعلينا أن نتسلح باليقظة و العقل والعلم والعمل، وبناء قوتنا الذاتية، وتنفيذ الاجراءات المحفزة للاقتصاد الوطني، والتلاحم الاجتماعي والاحتياطات والضمانات الدولية لكل ذلك، وفي الوقت المناسب.