لسنا بحاجة إلى التنويه والتأكيد أن أحدا لم يكن سعيدا ولا متفقا مع القرار الذي أصدرته “محكمة الأمور المستعجلة” في القاهرة باعتبار “الذراع العسكري لحماس منظمة إرهابية”. و بغض النظر عن الحيثيات، فهذا القرار وأي قرار مماثل يصدر ضد أية منظمة وطنية فلسطينية حقيقية وصادقة، أمر غير مقبول، ولا يحقق أية فائدة إلا للجانب الإسرائيلي.
ومع هذا، ومن منطلق مواجهة الحقائق، والواقعية السياسية، لا بد من إدراك القوانين التي تحكم العلاقات بين الأحزاب والمجتمعات والدول. وأول هذه القوانين، أن كل دولة تسعى دائما للحفاظ على ذاتها وكيانها وأمنها وسلامتها بشتى الوسائل والأساليب، بغض النظر من هو الطرف الآخر الذي يتعرض لهذا الأمن، وبغض النظر عن النوايا المعلنة أو الخفية وحكمة الإدارة أو سوئها. وعلى الجانب الآخر، فإن أول القوانين لتحرير الأوطان من الاحتلال، أن حركات التحرر الوطني تلتزم دائما بمسار استراتيجي لعلاقاتها، بأن تزيد من الأصدقاء والحلفاء والمناصرين ولا تستعدي ولا تبحث عن خصوم ومناهضين وأعداء . وهي في الظروف الشائكة الغامضة المرتبكة أو العابرة، تنأى بنفسها عن التدخل أو الاصطفاف أو الانحياز، وتبعد نفسها و كوادرها عن كل أشكال الريبة والتشكك، وتتجنب أن يزج بها في أي صراع جانبي، إلا مع العدو الذي قامت من اجل مقاتلته حتى ينهي احتلاله.
ومع أن أحدا لا يغفل الدور الوطني لحماس ولا إخلاص أبنائها ومنتسبيها، إلا أن مساراتها الدبلوماسية وتدبيراتها السياسية و تحالفاتها الحزبية و قراءاتها الجغرافية بحاجة إلى مراجعة كاملة وتغيير شامل. وهذا ليس عيبا أو مذمة. فكل مؤسسة و منظمة و حزب بل ودولة لا تجري مراجعات بين الحين والآخر، فإنها بدون جدال ستقع في أخطاء جسيمة، وقد تكون قاتلة. فمن أسهل الأشياء أن يخرج متحدث متعجل باسم حماس بتصريحات معادية لمصر، وللقرار المصري. ومن أبسط المبادرات أن يسارع مناصرو حماس ومؤيدوها إلى إلقاء التهم على النظام المصري ورئيسه كما نرى ذلك منذ زمن. ولكن ثمن مثل هذا التسرع بالتأكيد هو مزيد من القطيعة والعزلة، ومزيد من الأذى للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة . إن حماس ورغم مرور (20) شهرا على خروج محمد مرسي من السلطة لم تستطع أن تقيم جسرا من الثقة مع مصر، لا في عهد منصور ولا في عهد السيسي. و هي لم تستطع أن تقنع النظام في مصر أنها نائية بنفسها عن ما يجري هناك .وبالمقابل هي لم تستطع أن تصل إلى تنفيذ أي اتفاق أو توافق مع فتح ولا مع السلطة الوطنية ولا مع منظمة التحرير على مدى ثماني سنوات، رغم الوساطات والاتفاقات والاجتماعات. والسبب في ذلك، وبكل موضوعية، أنها ترى نفسها مثل دولة كبيرة في الظاهر، وفصلا من فصول الإخوان في الباطن، وعلى الجميع أن يتعامل معها كما تريد هي، لا كما تمثلها حقائق الحياة.
أن أول دروس الدبلوماسية أن تصريحا انفعاليا من خمس كلمات كافيا لأن يسيء إلى علاقات عمرها سنوات، ويلحق أضرارا تمس مئات الألوف من الناس، ويكلف صاحبه الشيء الكثير. هل يعقل أن حماس لا تدرك ذلك؟ هل يعقل أن حماس لا تدرك حساسية النظام في مصر للإرهاب الذي يجري في سيناء؟ وفي أماكن مختلفة في مصر؟ هل يعقل أن لا تدرك حماس آن علاقتها “بالجماعة” وهي التي تعادي مصر ليل نهار تضعها في موضع الشك والريبة لدى الجانب المصري و ينعكس كل ذلك سلبا على القطاع بكامله وبمن فيه ؟
كان من المفترض ولا يزال مطلوبا، وقبل إطلاق التصريحات القوية، آن تتريث حماس لكي تتصرف بهدوء، وتجري اتصالات على أوسع نطاق، بل وتطلب وساطة عربية أو دولية، لكي تزيل سوء التفاهم بينها وبين النظام في مصر، سواء أحبت هذا النظام أم لم تحببه . ذلك أن مصلحة النضال الفلسطيني تقضي سلوك هذا الطريق لكي تكون مصر بشعبها و مؤسساتها و سلطاتها داعمة للشعب الفلسطيني و نضاله و سندا لقطاع غزة بشكل خاص. ولا يزال مطلوبا من حماس أن تقنع الجانب المصري ببراءتها من كل الأعمال والحركات والجماعات التي تقوم بالأعمال الإرهابية، وأنها لا تقدم لها أي دعم آو مساندة مادية أو معنوية. وكان ولا يزال مطلوبا من حماس أن تطلب من أصدقائها الذين يرعونها ويحبونها (ومن الحب ما قتل) أن يكفوا عن معاداة مصر واستفزازها والإساءة إليها امنيا أو إعلاميا، وان يخرجوا حماس من دائرة النزاع مع القاهرة. وما الذي يمنع حماس أن تطلب استئناف الحكم الذي اصدرته المحكمة المصرية، وأن تأخذه إلى محكمة النقص تمهيدا لإلغائه؟ ولكن دون استفزاز ودون تعميق الفجوة التي لا يستفيد منها سوى إسرائيل.
أما أن يستمر وضع حماس هكذا: معاداة لفتح و للسلطة الوطنية الفلسطينية، ومعاداة لمصر، ومعاداة لكل من يقف إلى جانب مصر، فهو نوع من الانتحار السياسي وتعميق للحصار والعزلة الظالمة المفروضة على الشعب الفلسطيني في غزة.
إن التسرع في التصريحات، وزج الشعب الفلسطيني في الخلاف السياسي بين حماس ومصر، واعتبار قرار المحكمة على لسان أحد المؤيدين من المجلس التشريعي” إعلان حرب على الشعب الفلسطيني واصطفافا إلى جانب الأعداء”، والقول: “ان قرار المحكمة يعزل مصر عن التدخل في الملفات الفلسطينية” كما قال الناطق الرسمي ، وان حماس لن تسمح لمصر بلعب دور في الوساطة.. الخ. كل ذلك انفعالات قد تكون مبررة من جانب عاطفي، ولكنها لا تمثل الحنكة السياسية الصعبة والمطلوبة في مثل هذه الظروف البالغة التعقيد، وهي ردود أفعال بالغة الأذى والضرر على القضية الفلسطينية.
أن السياسة والوطنية ليس فيهما حزبية وفئوية، ولا كبرياء وتسرع، وإنما تعاون وتفهم، ووصول إلى منتصف الطريق، ومداراة ودهاء وحكمة. إن إنهاء الانقسام، والعمل المشترك مع الفصائل و السلطة، وكسب ثقة ودعم و مؤازرة الأقطار العربية جميعها يجب أن تحتل الأولوية . و هذا ما يتوقعه المواطن الفلسطيني والمراقب من حركة عريقة لديها الخبرة والتجربة تعمل من اجل الهدف الوطني، والمستقبل الذي يحمل الحرية لفلسطين، والذي لا يجوز أن يغيب أبدا .