تتابع دول العالم منذ سنوات، ونحن منها، المسار الصعب للتغيرات المناخية بآثارها المتعددة والمعقدة، سواء في الجانب البيئي أو الصحي أو الزراعي أو المائي أو الغذائي أو الديموغرافي أو العمراني أو الاقتصادي وغير ذلك. ولكن المؤشرات تدل على أن المنطقة العربية عموما هي من أكثر المناطق تأثرا بهذه التغيرات، نظراً لسيطرة عنصري الحرارة والجفاف على الجزء الأكبر من الاراضي العربية حيث تقع 87 % من مساحة البلاد العربية ضمن الأراضي الجافة الحارة بل الصحراوية وشبه الصحراوية خاصة وأن الجزء الأكبر من المنطقة العربية يقع في الحزام الصحراوي الكبير الذي يمتد من الصين باتجاه جنوب غربي وحتى المحيط الأطلسي، ونظراً لضآلة عدد الانهار والمسطحات المائية في المنطقة وضآلة الغطاء النباتي فإن إمكانية تكيفها مع التغيرات المناخية غدت أكثر صعوبة وأقل مرونة، ذلك أن معظم الأقطار العربية، ونحن منها، لم تأخذ موضوع الجغرافيا بعين الاعتبار فلم يتم العمل على مدى السنوات على مشاريع مائية وبيئية كبرى ومتعددة، مثل البحيرات الصناعية (باستثناء بحيرة ناصر في مصر) والسدود، وتخضير المناطق الجرداء وتوسيع مساحات الغابات والتي لا تتعدى على المستوى العربي 10 % من مجمل المساحة، وبالنسبة لنا في الأردن لا تتعدى 1.5 % من مجمل مساحة البلاد.
وسنة بعد سنة تتناقص هطولات الأمطار في بلادنا، إضافة إلى تغير نمطها من هطولات مستمرة شبه منتظمة على مدى فصل الشتاء إلى هطولات متقطعة وميضية، تشتد بغزارة لفترة قصيرة تماما، ثم يعقبها سكون لفترات طويلة.
اما الصيف فالحرارة تتزايد فيه باستمرار، فإذا أضفنا إلى ذلك موجات الهجرة البشرية التي استقبلها الأردن خلال السنوات الماضية والارتفاع الكبير في عدد السكان، فإن مسألة المياه راحت تزداد تعقيداً سنة بعد سنة.
فاليوم نتحدث عن متوسط نصيب الفرد من المياه 75 متراً مكعباً سنوياً مقابل خط الفقر المائي العالمي 500 متر مكعب سنوياً.
صحيح أن كلا من وزارة المياه ووزارة الزراعة ووزارة البيئة والمؤسسات التابعة لها والبلديات تبذل جهودا كبيرة تستحق كل تقدير في هذا المجال، إلا ان سرعة التغيرات وشدة الجفاف تتطلب المعالجة بإسلوب مختلف، إذ درجت الإدارات على مدى السنوات الماضية على التركيز على المشاريع الضخمة لتستجيب إلى الأحمال المطلوبة ولعدة سنوات.
اليوم، وفي ظل التغيرات المتلاحقة السريعة، وارتفاع كلفة المشاريع الضخمة، وصعوبة التمويل الخارجي، وارتفاع المديونية العامة، وعدم استقرار المنطقة، فإن الحاجة أصبحت ضرورية للخروج من فكرة الحل الكبير والذي قد يتأخر لسنوات إلى تنويع مفردات الحل او ما يسميه الخبراء “الحلول التراكمية”.
فالناقل الوطني، على سبيل المثال، مشروع ضخم بكلفة 3 مليارات دولار وينتظر ان ينتج 350 مليون متر مكعب سنوياً، كان من المفترض أن يبدأ العمل به بين عامي 2010 و 2012، ولكنه بسبب ضخامته تأخر الشروع في العمل عليه حتى عام 2022 ليبدأ الإنتاج عام 2030، ولكن التغيرات السكانية والحرارية ومتطلبات التنمية على مدى السنوات الخمس القادمة، سوف تضع البلاد في موقف صعب من حيث الأمن المائي والأمن الغذائي والاكتفاء بالماء، خاصة وان المشاريع الاقليمية والمشتركة مع دول مجاورة ما زالت وستبقى بعيدة عن التحقيق على ضوء الأوضاع السياسية المضطربة في الاقليم، وبسبب ما يثيره الاحتلال الإسرائيلي من مشكلات ليس على مستوى فلسطين فقط وانما على مستوى الاقليم بكامله، كذلك فإن ما تم انشاؤه لدينا من سدود عادية وترابية وبرامج للحصاد المائي على أهميتها ليست كافية ولا تحدث تغييراً جذرياً في الموضوع.
كل ذلك يستدعي، ونحن في فصل الشتاء، النظر الى مسألة المياه باعتبارها بالغة الاستعجال والالحاح والضرورة، الأمر الذي يستلزم وضع خطة طوارئ “للموارد والصناعات المائية” تمتد لعشر سنوات تأخذ في الاعتبار النقاط الرئيسية التالية:
اولاً: متابعة حسن الإدارة للموارد المالية وتقليل الفاقد في شبكات المياه ووقف الاعتداءات عليها.
ثانياً: تسريع إنشاء مشروع الناقل الوطني سواء من حيث التمويل بالاعتماد على التمويل الوطني الاجتماعي أو من حيث التنفيذ الهندسي.
ثالثاً: العمل السريع على إنشاء محطات تحلية للمياه صغيرة ومتوسطة الحجم يمكن تمويلها بالشراكة ما بين القطاعات العام
والخاص والأهلي.
رابعاً: برمجة انشاء 30 سداً ترابياً سنوياً، بكلفة تقديرية أقل من 5 ملايين دينار، بعد اعتماد خريطة للأماكن المناسبة يضعها المركز الجغرافي الملكي بالتعاون مع وزارة البيئة ودائرة الارصاد الجوية. خامسا: استخدام تكنولوجيا الاستمطار بشكل منتظم عن طريق مركز متخصص والتي انخفضت تكاليفها بشكل كبير نتيجة لاستخدام الطائرات المسيرة (الدرون) والتي من شأنها ان تنعكس إيجابياً على الزراعة البعلية والأشجار والمراعي والغطاء النباتي.
سادساً: انشاء “مركز متخصص لتكنولوجيا توليد المياه” والبدء بتوليد المياه من الهواء، وتكنولوجيا اقتناص الضباب، واستخدام الطاقة الشمسية في هذا المجال الأمر الذي يخفض التكاليف، ويتيح الفرصة للمزارع والتجمعات السكانية البعيدة التزود بالمياه.
سابعاً: التوسع في إعادة تدوير المياه وتطوير استخدام الوحدات الصغيرة التي يمكن استخدامها منزليا وذلك لمساعدة القرى على الإفادة من المياه بعد تدويرها ثامناً: المباشرة بتنفيذ برنامج وطني طويل الأمد لتحويل الزراعة من وضعها المائي الحالي حيث تستهلك 55 % من المياه إلى زراعة أقل استخداماً للمياه سواء من حيث ادخال التكنولوجيا أو تغيير السلالات النباتية والحيوانية لتصبح أكثر تحملا للحرارة والجفاف.
تاسعاً: وضع وتنفيذ برنامج لتوسيع الرقعة الخضراء بزراعة الاشجار بشكل مكثف وسنوي بالافادة من طلبة المدارس والجامعات والمنظمات الشبابية.
وأخيراً فإن إشكالية المياه تزداد تعقيدا سنة بعد سنة، الأمر الذي يتطلب تضافر الجهود من جهة، وتراكمية الحلول من جهة ثانية، وتوظيف العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي والإبداع من جهة ثالثة، فالحلول لمواجهة التغيرات المناخية وتعزيز الأمن المائي والغذائي والعمراني لا يمكن استيرادها جاهزة.